هدير الصمت

هذا الموقع معني بـ: قصص ، رواية، نقد ، مقال سياسي ، مقال فلسفي ، شعر

<!--

<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->

تجليات الراوي وإشكاليات النَّص

دراسة في مسرحية (دياب ملكاً) لمحمد نصر يس

عبدالجواد خفاجى

إذا أخذنا الخصائص التي تميز الراوي بعين الاعتبار في الكتابة المسرحية فإن السؤال المنطقي الذي يبرز هو: متى نستخدمه وما دوره وما هي أهميته؟ ..  مؤكداً أن الكثير من النصوص المسرحية العربية كان الراوي فيها حملا زائداً من الممكن الاستغناء عنه، أو الحد من طغيانه، بل إن هذه النصوص كان من الممكن أن تكون حيّة أكثر بغير وجود الراوي، قد يكون الاستعانة بالراوي كأداة ضرورة في المسرح الملحمي، لكن طغيانه لا يبدو ضرورة لهذا المسرح، ولعل ما لاحظناه من طغيان الراوي في مسرحية "دياب مكا" كان خضوعا لنمط الشاعر الشعبي الراوي الذي يطغي على النص بوصفه ممثلاً للشخوص ومتحدثا عنهم وبديلا عنهم ، وراوية للأحداث ومعلقاً عليها في ذات الوقت. إن صعود هذا الراوي من الأدب الشعبي الشفاهي إلى خشبة المسرح يستوجب موائمة جديدة بينه وبين وظيفته الجديدة بصحبة شخوص يمكنهم التعبير عن أنفسهم والقيام بأدوارهم.

 ولقد لاحظنا ـ من خلال دراسة أدوار الشخصيات وطريقة ظهورها ـ  أنه لا بطولة مطلقة ولا اسمترارية لشخصية على المسرح ، ويوجد شخصية مرتبطة بحدث ينمو ما عدا الرواي الذي كان مراقباً للأحداث عليما بكل شيء حتى دواخل النفوس، مقدماً الأحداث أحيانا ومعلقا عليها أحيانا أخرى، مقدماً الشخوص تارة وتارة معلقا على أفعالها، ممهدا لأفعال الشخصوص تارة وتارة واصفا ما تقوم به. وإن كانت لغته متنوعة متباينة بين الشعر اللهجي و النثر الفصيح أحيانا( كما في صفحة 126، 127 على سبيل التدليل) ، وإن كانت لغته تنجرف في بعض المواضع نحو الاستخدام النثري العامي عندما يهمل قواعد النحو، كما في صفحة 30 حيث يقول : "التطموا الفارسين في حومة الميدان... إلخ" مستخدما لغة: "أكلوني البراغيث" على عادة العامة، ومستخدما ضمير الجمع في موضع ضمينر المثنى.  أو عندما يقول ص 25: "وقع بينهم قتال شديد، بين بدير والزناتي، يفك ذرد الحديد، ويجعل العاقل يهاتي، قام الزناتي في عزم الركاب، ضرب القاضي بدير ، شقه نصفين ، فوقع القاضي بدير قتيل في دمه..... إلخ" غير أن لغته تأتي أحيانا مسجوعة عامية، من عينة ما رود ص 38 حيث يقول: " والتحموا في القتال التمام ، وصار بينهم عراك شديد، وزاد ضرب الحسام ، وقطع زرد الحديد، فوقعت بينهم ضربتين قاطعتين، كان السابق بدر بن غانم ... إلخ" غير أنه وفي مواضع كثيرة كان ينتقل من الشعر اللهجي (المربعات) إلى النثر ـ في نفس السياق ـ دون فاصل أو مبرر، مثال ذلك ص 29 ، 30 .

قد نفهم أن تنوع لغة الشاعر يأتي في إطار كسر الإيهام أو التغريب، ولكن تباين مستويات تلك اللغة يبدو ـ بالنسة إلينا ـ إشكالياً.

ولعل هذا الراوي الذي بدا إشكاليا في لغته يبدو كذلك إشكالياً في إدوراه، فالراوى / الأداة الذي  كل مهمته نقل الحكاية نجده غير محايد ، وقد أظهر تعاطفا مع بعض شخوص الهلالية، حتى ظنناه أنه واحد منهم، مما أفقده موضوعيته، وهو يقدم نصائحه لـ"مرعي" ابن أخت أبي زيد المأسور في قصر الخليفة الزناتي، مادحاً إياه، ومعزياً، طالباً منه الانصياع لنصائحه ، وألا يعتمد على ثراء محبوبته التي ينوي زواجها، وأن يتناسى هذا الحب ويصمد أمامه حتى يأتي النصر ، مبشراً إياه، ص 58، 59 حيث يقول:

يا مرعي الصــبر جميـل ** يا ابو العروض النضيفة

القلـــــب ليـــــك بيـمـيــل ** ربــــك يـهــدي خـلـــيفة

يا مرعي اصحى لحـالك ** وبــص زيـــن لـــقــــدام

ولــــمّ يـا ولـــد شـــــالك ** كـــــون للكـــــل مقــــدام

             اســـمع كلامنا يـا زيـــن ** خدهــــــــا منَّّا نصــــيحة  ..... إلخ

غير أن الراوى بدا متعدد الأدوار، ومن هذه الأدوار أنه يصف الحالة قبل الحرب، حال مواجهة الأبطال لبعضهم، ثم يصف الحرب نفسها، ثم التعليق على نتائجها وما حث بعدها في المعسكرين، ولا يتورع عن رثاء الموتى، ومن ذلك ما نقرأه ـ مثلاً ـ ص 25:

نزلوا الـساحة الفوارس ** رافعين للحــرب راية

وانت يا رب حــــارس ** عرِّفهم طريق الهدايـة

إلى أن يقول متوقعا كثرة القتلى:

حوش البلاوي حوش **  يا عالــــم بالضمــاير

ح تكـــتر النعـــــوش ** والــدم ع الأرض فاير

ثم ينتقل إلى النثر ليكمل:

وقع بينهم قتال شديد، بين بدير والزناتي ، يفك زرد الحديد ... إلى أن يقول: التقت الرجال بالرجال، حتى جرى الدم وسال، وفاضت الروابي والتلال ... إلخ

ثم متحدثا عن نتيجة المعركة، ومعلقاً على موت، كواحدة من نساء الهلايل ممارساً الندبة، أو لنقل الرثاء،وهو يردد: 

بدير القاضي مـــــــات ** احـزنـي يــا هـلايــــل

عـدى النـهار ولا فـات ** واللى علـيــها زايـــــل

يا فرحتك يــــا زنـــاته ** مــات قاضي العرايب

بـدير خلصـت حيـــاته **جسده في التراب غايب

إلى أن يقول:

قاضي ومقامك عالي ** ولا يعرف العيبة لسانك

أصيل يا بدير يا غالي ** مين يـركب حصــانك ؟

غير أنه أحياناً يعلق على حزن اليتامى والثكالى من بني هلال، مثال ذلك ص 47، حيث يقول:

تفــيد بـإيه الدمــوع ** على فـــراق الحبايب

ومهما تزيد الدموع ** ما تــرد اللى غـــايب

عمر البكا ما يفـــيد ** ولا الصــراخ العـالي

النار كل يــوم تقـيد ** على رحيـــل الغوالي

غير أنه أحياناً ينطق بالحكمة المستخلصة من الأحداث والمواقف، من ذلك ما نقرأ ص  52 حيث يقول:

الحــــب زي الحــــرب ** لا غالب ولا مغـــلوب

اللى رمـاك ع الحـــب ** قـــادر عليـك يتـــوب

الحــــب كلـــه غُـلــــب ** الحــجر فيـه بيــدوب

لا أكل فيه ولا شـــرب ** امتى يا مرعي تتوب؟

ومن ضمن أدوار الراوي أنه يقدم لنا بعض الشخصيات حال ظهورها مثال ذلك ص 43 وهو يقدم لنا شخصية الأمير نصر ونسبه وصلة قرابته ببعض الشخصيات الأخرى ، وذلك في ثنايا تتبعه لسير المعركة بين الهلايل والزناتية، حيث يقول:

" وفي اليوم التالي دقت طبول الحرب وعلا الصراخ والندب، وزاد عويل النساء، ودمعت العيون من شدة البكاء، وطلب الأمير نصر بن بدر بن غانم شقيق الأمير عقل من السلطان حسن الهلالي أن ينزل الميدان ليثأر من الزناتي وقومه"

وفي ص 113 يخبرنا بأن دياب من الزغابة، موجها خطابه إلى دياب الغائب، وهو يردد:

يا زغبي الحياة أقدار ** ما تقدر يا بطل تحوشه

الكلام كلســـعة النار ** تونس بتحضر جيوشها

وكان قد أخبرنا قبل ذلك ص 102 أن دياب زعيم الزغابة، مرددا:

دياب زعيم الزغابة ** اسمه في السـما عالي

البين مـا يـدق بــابه ** وشاهد حسن الهلالي

ولم يقتصر دور الراوي على ذلك بل بدا صاحب معلومات وفيرة عن الشخصيات  الحاضرة كلها والغائبة مثل دياب ، وعليم بخفايا معسكر الهلايل ، وما يمكن أن يحدث لهم لو أخطأوا التصرف ، مثال ذلك ما نقرأ ص 9 ، يقول:

"الهلالية حاولوا منع السلطان حسن الهلالي من النزول إلى الميدان لقتال الزناتي خليفة؛ لأن أبوزيد مريض من لدغة العقرب، ودياب منفي في وادي الغباين لحراسة البوش، خوفا من موت السلطان حسن الذي يقود بني هلال وهو كبيرهم، ولو حدث له مكروه تتشرّد بني هلال في السهول والوديان"

والحقيقة أن هذا الراوي العليم لا يبدو عليما فقط بالتاريخ والأحداث التي تدور خارج الشخصيات وإنما بدا عليما أيضاً بدواخل النفوس، مثال ذلك ما نقرأ ص 25 وهو يؤكد أن خليفة ينتوي الغدر بخصمه :

دقت طبول البــلاوي ** والكل مســتني دوره

خليفة ع الغدر ناوي ** ومطاوع رهن شوره

وأيضاً يخبرنا عن ضمير العلام  ص 63:

العلام عاقد النيَّة ** ياخــد عروس تونس

 ويتجــوز البنيـَّة ** ويقتل مرعي ويونس

والحقيقة أن الراوي ورغم وضعيته العليمة تلك بالظاهر والباطن والآني والتاريخي ، ورغم ما بدا منه من حكمة ودراية وهو يقدم النصائح ويعلق على الأحداث ، إلا أن هناك تفاصيل جوهرية فاتته، وجعلت دوره إشكالياً وهو يثير الكثير من التساؤلات حول الأحداث التي استنكف عن تفسيرها، أو الشخوص الذين امتنع عن تقديمهم لنا، مما أضفى غموضاً وإبهاماً على بعض الشخوص والأحداث.

ومن ضمن تلك التفاصيل الغامضة والمعلومات الناقصة التي استنكف الراوي عن توضيحها أو تجاهلها ، ما نقرأه وهو يخبر عن "دياب" ص 9 ، يقول:

" ودياب منفي في وادي الغباين لحراسة البوش "

لنتساءل : ما سبب النفي؟ ومن الذي نفاه، وأين يقع وادي الغباين ، ومن أو ما هم البوش؟ بل الأكثر من ذلك من هو :دياب" ؟ .. مجموعة من الأسئلة تظل عالقة والإجابة عنها مبهمة رغم تعلقها بالشخصية الرئيس والبطل المخلِّص صانع الانتصار الذي ثأر لقتلى العرب ورفع رؤوسهم وأثلج صدورهم واعتلى عرش تونس عن جدارة.

ولقد اثيرت مثل هذه الأسئلة منذ بداية النص حيث وردت تلك الجزئية من حديث الراوي في المجلس الأول من الديوان الأول، لتظل الأسئلة عالقة حتى قرب نهاية المسرحية لنجد إجابة على بعضها عند الراوي عندما أخبرنا عن :دياب" أنه زعيم الزغابة ص 102 ، وعندما أخبرنا دياب نفسه عمن نفاه، في المجلس الثاني (مجلس المنفي) من الديوان الثالث (ديوان الملك) وإثناء حديثه مع "الجازية" حيث أخبرنا أن السلطان حسن وأبا زيد الهلالي هما من نفوه.

وعندما وصف لنا الراوي مجليس دياب أيضاً حيث قال: " دياب يجلس وحيدا أمام خيمته، يبدو عليه التأثر الشديد من قرار السلطان حسن والآمير أبوزيد بنفيه عن ميدان المعركة بحجة حراسة المؤن "البوش") لنفهم من التنصيص أن البوش مفردة تعني: المؤن. ويبقى السؤال العالق بعد هذا: لماذا نفوه؟ وأعتقد أنه سؤال جوهري في النص ؛ لأنه يتعلق بغياب البطل المُخَـلِّص الذي انبنت عليه المسرحية، وتنبني على عودته خاتمتها.                                                               

من الأسئلة المهمة الأخرى التي تنطرح حول الشخصيات التي نسي الراوي أن يقدمها إلينا هو : من هي الجازية؟

لقد فهمنا من خلال الظهور الأول للجازية في "مجلس اليتامي" أنها شخصية على درجة من الأهمية وهي تحاور أبا زيد الهلالي والسلطان حسن، وتذكرهما بما لحق الهلالية من عار على يد الزناتي، وتستحثهما لفعل شيء يرد الكرامة ويثأر للعرب الهلاليل. كما فهمنا أهميتها هي تقود فريق النساء الثكالى والأيتام، وتصنع منهم قوة ضاغطة على الرجال لفعل شيء من أجل النصر على الزناتي، وتقوم بقص شعرها فتفعل مثلها الأخريات حزناً على من ماتوا، ثم يوسطها الأمير حسن وأبوزيد لتقود وفد النساء للذهاب إلى "دياب" في منفاه لكي تقنعه بضرورة العودة لمحاربة الزناتي، وقد ظرهت الحاجة إليه. ثم يتكرر ظهورها في"مجلس المنفى" وهي تقدم النساء واحدة تلو الآخرى لدياب ص 104، ثم تحاوره وتقنعه بالعودة لنكتشف من خلال حديث دياب معها أنها صاحبة المشورة ، حيث يقول لها دياب:

"الضيافة يا صاحبة المشورة حق ليكم واجب علينا" ص 105

وغير ذلك هي التي رفضت الصلح الذي عرضه الزناتي على الهلالية قرب نهاية المسرحية وأصرت على قتاله، وجمعت النساء وهددت أنها سوف تقود الحرب هي والنساء من دون الرجال، الأمر الذي اضطر معه الرجال إلى رفض الصلح ومواصلة الحرب.

لينطرح السؤال من جديد: من هي الجازية؟ ولماذا هي صاحبة مشورة في مجتمع الأبطال الذكور، ومتى أعطيت هذه المشورة ؟ وما الحدث المهم الذي أهَّلها لذلك؟

 

أما من الأسئلة الأخرى التي أثارها الراوي وظلت معلقة فكانت حول أسماء أعلام لشخصيات يوردها الراوي في تضاعيف حديثه دون أن يقدمها لنا أو يقدم عنها أية معلومة لتظل مبهمة، وبلا معني لورودها في الأساس. ومن هذه الشخصيات "برديس" حيث وردت في حديث الراوي ص 102 وهو يتحدث إلى دياب الغائب مخاطبا إياه في النص:

ع الخضرة تسابق الريح ** برديس مات بسيفك

لســــانك عربي فصــيح ** تقتـل عدوك بكيــفك

لنتساءل من هو "برديس" هذا؟

ومثال ذلك ص 102 ما ورد على لسان دياب ، وما لم تفسره لنا الراوي، حيث وردت اسماء أعلام عندما حدث دياب نفسه قائل:

" لقد قتلت من رجال الدبيس أحسن الفرسان: الوزير راشد والوزير محمود والفارس الهداف، وبعد ذلك أحرس البوش؟!"

 لنتساءل: من هم "الدبيس" والوزراء راشد ومحمود والفارس الهداف ؟، وما سبب القتال الذي دار بينهم وبين دياب ؟

ومن أمثلة ذلك أيضاً ما ورد على لسان الراوي ص 63 في معرض حديثه عن العلام:

العلام عاقد النيَّة ** ياخــد عروس تونس

 ويتجــوز البنيـَّة ** ويقتل مرعي ويونس

لنتساءل من هو يونس الذي لم يظهر كشخصية مشاركة في الأحداث، وقد ورد أيضاً في آخر سطر في النص على لسان حسن الهلالي وهو يردد:

افرحي يا كل تونس ** هلالية وزغابة

مرعي راح ليونس ** دياب ما يرد باه

وإذا كنا قد تعرفنا على مرعي في مجلس "سعدى ومرعي" فمن يكون "يونس" الذي لم يتواجد في الأحداث ولم يشارك فيها، ولم يرد تعريف به على لسان الراوي أو غيره من الشخصيات؟

أما من ضمن إشكاليات الراوي الأخرى أنه يُصمِّت الشخوص؛ ليتحدث بدلاً عنهم رغم تواجدهم في المشهد ، مثال ذلك ص 87 عندما يخبر عن الجازية بالقول:

صرخت الجازية فى الهلايل ** ردت وطــفه ودوابـه

    حملنـــا يا ســــلطان مــايـل ** فين زعيــم الهلايــــل ؟

رغم أن الجازية بدأت حديثها بعده بالقول:

أبكي وبكاي يطول ** على الشباب الزين

ويـــزيد مني القول ** تسـيل دموع العين

ثم تستأنف بعدها وطفة ودوابة وكان أولي بالراوي إن يترك الشخوص يعبرون عن تواجدهم ويشاركوا في العرض خاصة أنه لم يقل أكثر مما قالوه بعده.

من ضمن إشكاليات الراوي أيضاً أنه يثرثر، بمعني يكرر ما قاله على سبيل التزيُّد، كما في صفحتي 19، 93 / حيث قال أولا:

اندبي طول عمرك  ** يا جاز على المايل

قومي قصي شعرك ** على ولاد الهـلايل

ويكرر نفس الأمر لفتنة ودوابة ووطفه ، ثم بعد ذلك يقول ص 93 :

قصـي شعرك يا جـاز ** بعد موت الرجال

ثم يكرر الأمر لكل من فتنة ووطفة ودوابة.

ومن ضمن إشكاليات الراوي الأخرى أنه يورد أسماء لأعلام مشاركين في الأحداث ولهم تواجدهم ومجالسهم، ولكن قبل ظهورهم، ليظل المشاهد متسائلا من هذه الشخصية التي ورد ذكرها؟، ومثيرا علامات استفهام حولها إلى أن تظهر .. قد يكون مثل هذا الإجراء فيه إثارة للذهن حول الشخصية وتمهيدا لظهورها، ولكن على نحو آخر قد يكون فيه تعمية وتشتيتاً وصرفا عن المشاهدة، ومثال هذا الإجراء تم مع شخصية "العلام" التي جاء ذكرها في  مجلس "سعدى ومرعي" ص 57 حيث يقول "مرعي" :

خايف يا سعدى خايف ** والخوف عليّ ظاهر

 بعيني بكــرة شــــايف ** العـلام لسـيفه شاهر

فترد سعدي قائلة:

خايفة يا مــرعي خايفة ** مــن غــدر العــلام

وبقلبي يا مرعي عارفة ** مفيش بينا ســـلام

لينطرح السؤال: من هذا العلام الخطِر المخيف لكل من سعدى ومرعي، والذي لم يسبق له الظهور على مسرح الأحداث ، ولم يسبق التعريف به؟ ثم يأتي بعد ذلك ظهور هذه الشخصية في "مجلس العلام" لنتعرف على العلام وهو يخاطب عمته (أخت الزناتي خليفة) ونعرف أنه شخص طامع في خلافة الزناتي ووراثة الملك والزواج من سعدى بنت الزناتي.

من الأسئلة المطروحة التي يثيرها الراوي أنه أورد كل الشخصيات بأسمائها ، ماعد "العَمَّة" أخت الزناتي خليفة، لينطرح التساؤل عن اسمها، ولماذا لم يذكره الراوي العليم بكل شيء؟ الغريب أن العمة التي ظهرت في "مجلس العلام" وردت في قائمة الأشخاص الذين سيحضرون في المجلس التالي "مجلس الزناتي خليفة" ومع ذلك لم تحضر بين الشخوص المتواجدون في المجلس هذا، لقد غابت العمة عما يجب أن تكون فيه حاضرة، فالمكان قصر أخيها، واليوم تونس كلها حاضرة لتهنئة الزناتي بانتصاره على الهلايل.

ومن الإشكاليات المشابهة عندما يقدم مجلس الزغابة في ديوان الحرب، دون أن يكون لدي المشاهد أية معلومة عن الزغابة، لينطرح التساؤل: من هم الزغابة، وما صلتهم ونسبهم ببني هلال، وما علاقتهم السياسية والحربية بهم؟

أما أخطر ما وقع فيه الراوي هو التناقض، عندما قدم دياب المنتصر في نهاية المسرحية وقد نصَّب نفسه ملكاً على تونس بعد مصرع الزناتي، ونادى المنادي بذلك في الناس، الأمر الذي اثار حفيظة السلطان حسن زعيم بني هلال الذي وجد نفسه مجردا من المنصب، وعليه أن يخضع لحكم دياب، وكاد أن يحدث بينه وبين دياب نزاع وقتال لولا تدخل أبي زيد الهلالي، وقد سأل "دياب" السلطان حسن الهلالي:

"إذا كنت سلطان بني هلال، فلماذا لم تحارب الزناتي؟ " ص 127

إن دياب يستند إلى أحقيته في الملك بوصفه صانع النصر وحامي القبيلة، وقاهر أعدائها ، ومنتقم لقتلاها، وشافي صدور المكلومين والثكالى والأيتام. غير أن تدخل أبي زيد وحديثه مع الأطراف كان له أثره في النفوس، وارتضى دياب أن يقوم هو وأبوزيد ويجلسان السلطان حسن على كرسي المملكة، ويقول " دياب: مزعنا بما حدث:

العين لا تعلى عن الحاجب ** يا ابوزيد يا جميل الفعايل

ديواني اليـــوم بلا حجــاب ** تحت أمر سـلطان الهلايل

معنى هذا أن دياب تنازل طوعاً عن الحكم ، بعد أن نصًّب نفسه ملكاً، ليصبح الملك هو حسن الهلالي.

ثم نفاجأ بعد ذلك مباشرة بقول الراوي:

" حضروا جميعا إلى قصر الملك، وتقاسموا البلاد والغنائم، وتركوا تونس للأمير دياب عوضاً عن فرسه الخضراء."

معنى هذا أن دياب هو الملك على عكس ما قد سبق أن اتضح، ولعل مثل هذا التناقض المربك في نهاية الرواية يربك المتلقي الذي بدأ يؤسس فهما جديدا لمفهوم الزعامة والرئاسة، وأنه ليس هباء منثورا للعاجزين عن صنع نصر الأمة، وحمايتها وهزيمة أعدائها، والانتقام لقتلاها .. هذا المفهوم الذي كان قد ترسخ في الوجدان كمعني يمكن أن يكون له قيمة في حاضر المشاهد ويتماس مع واقعه المسيج بالهزائم والزعامات الكاذبة العاجزة المنبطحة أمام أعداء الأمةن والتي تلوذ إلى صلح وسلام هو أقرب إلى الاستسلام، مع توالي الاعتداءات والمجاز من قِبل أعداء الأمة ومن ثم توالي المحزنة ... هذا المفهوم السياسي الذي ترسخ مع نهاية المسرحية ينهدم تماما وقد أصبحت الزعامة تراضيا، وهبة مقابل فرسة خضراء ، ومن دون أن نعرف الكثير عن هذه الفرسة ومصيرها ، وكل ما عرفناه عنها أنها الفرسة التي كان يركبها "دياب" أثناء قتال الزناتي.. وكيف تكون المملكة والحكم مقابل فرسة؟.

ويبقى السؤال الأكبر بعد هذا وذاك: ما مبررات الحرب ؟ ولماذا كل هذا الصراع بين الهلالية وأهل تونس ؟ما هي الدوافع والأسباب التاريخية أو الدينية أو غيرهما التي أعطت للحرب مشروعيتها، ومسوغات استمرارها.. إنه سؤال على درجة من الأهمية قد يعطي للصراع معناه، وبدون الإجابة عليه ستفقد المسرحية معنى مهما من معاني توظيف سيرة بني هلال، أو استدعائها في نص معاصر يطرح قضايا معاصرة تهم المتلقي المعاصر؟ وعلى المستوى الفني ستصبح المسرحية مجرد إعادة نضح أمينة لجزء ختامي من السيرة الهلالية لينطرح التساؤل: ما جدوي هذا العرض، ونحن نمتلك السيرة بكاملها كأحد موروثاتنا الشعبية؟

الحقيقة أن الراوي في كل ما أثار من أسئلة وغموض وتناقضات رغم وضعيته العليمة التي بدا بها، بدا راويا إشكالياً، وقد أوقع المشاهد في كثير من الإشكاليات التي تعيق التلقي وتضعف من تفاعله مع الأحداث ، بل تضعف دور الراوى نفسه وقد أضحى عبئاً من ضمن الأعباء، إذ بدا ثرثاراً في بعض المواضع محجما عن الكلام في مواضع أخرى كان يجب عليه أن يتكلم فيها، مثيراً بذلك أسئلة ظلت بلا إجابات، ومربكة لعقل القاريء الذي يُفترض أن يكون فاعلا في إنتاج الدلالة من جهة، ومساهما في النقاش حول القضايا، ليصبح ذلك استثناء عنده، وقد وجد نفسه إزاء أسئلة ونقاشات أخرى تتعلق بما غُمَّ عليه من تفاصيل وما أوقعه فيه الراوي من تناقضات.

ولعل تلك الإشكاليات المتعلقة بالراوي تقود إلى إشكاليت أخرى على المستوى الفني، وهي إشكاليت محطمة لدرامية العمل المسرحي، فالراوي الذي استبد بالنص وهو العليم بكل شيء المباهي بظهروه ( 76 مرة) وبسرده الطويل الذي قد يستغرق في بعض مرات تواجده الصفحة كامة، مستهلكا ظهوره هذا في المعلوماتية ونقل الأخبار والأحداث الدرامية تارة أخرى بما فيها أخبار الحروب والانتصارات والمصالحات واللقاءات المهمة بين الشخوص الفاعلين والمهمين في القصة، كل هذا يعزز دوره ويجعل منه راوياً ناجحاً لولا أنه كان يستثني الشخوص عن الكلام أوالفعل ولم يعطهم غير أدواراً استاتيكية وهم يتراشقون فيها بالألفاظ قبل الحروب في كثير من المواضع أو يعربون فيها عن دواخلهم تارة أخرى أو يمارسون الحزن والندب على ما جرى ويجري أو الفرح والتهاني في ماواقف أخرى مناقضة. أما الأفعال الدرامية الحقيقية التي من شأنها أن تصنع حركة وتفاعلاً دراميا على خشبة العرض فكانت تتم سرداً على لسان الراوية، ومن ثم فقد اتسم النص كمسرحية بالسكونية وتدني المستوى الدرامي.

  قد نفهم أن دور الراوى يمكن أن يكون عوضاً عن أشخاص غير متواجدين، أو للحد من طغيان الشخوص أو للقفز بزمن الأحداث وتسريعها عن طريق السرد، لكن الراوي هنا قد تجاوز كل ذلك إلى تصميت الشخوص المتواجدين بالفعل، وإسكاتهم إلا عن الهامشي، أما فيما يجب أن يقوموا به من أفعال وأحداث درامية فكانت دائما من نصيب السرد المتوالي على لسان الراوي، أو بالمعني: إن الراوي العليم أصبح راويا مستبداً، بالشخوص وبالفعل الدرامي، الأمر الذي جعل الراوى ـ كميا ـ حاضرا وبكثرة وقد استبد بحوالي 575 سطرا من مجمل 1954 سطراً هي مجمل السطور الفعلية التي شكلت عصب النص المسرحي. وهذا معناه أن الراوى استهلك لوحده ما يقرب من ثلث النص وترك الثلثين لباقي الشخوص مجتمعين .. ترى ماذا ترك لبقية الشخوص؟

ترك لهم مساح استاتيكية للتراشق اللفظي دون فعل، ليقوم الراوي وحده بسرد الأفعال أو بالمعني: تحويل الدراما المسرحية إلى سرد درامي لغوي بمعية شخوص يتراشقون في مساحة مشاع تخلو من الدراما، ليقع عبء إخراج هذا العمل على المخرج الذي عليه أن يحد من سطوة الراوى وتدخلاته واستئثاره بالأحداث وسردها واستبداده بالشخوص، ليصنع الدراما مرة أخرى أو ليعبئ النص السكوني بالحركة والدراما من خلال إعادة تجسيد الكثير من أقوال الراوى مرة أخرى وتحويلها إلى دراما مسرحية عن الطريق الفعل والشخوص وليس عن طريق اللغة والسرد.

النص الذي أمامنا أقرب إلى الرواية السردية منه إلى النص المسرحي، وإن كانت لغة الشخوص والسرد معتمدا في الغالب على اللغة الشعرية، إذ ما يهمنا ليس اللغة الشعرية بقدر ما يهمنا المسرح الشعري بما يعنيه من دراما تجسدها الحركة والأحداث وإن اعتمد اللغة الشعرية كأساس جمالي ولغة تحاور.

الحقيقة إن خضوع هذه المسرحية لسطوة السيرة الهلالية وتركيز كاتبها على إعادة نضح وإنتاج السيرة الهلالية كما هي في الأدبيات الشعبية مع المحافظة على أمانة عرضها ، هذا الهدف جعلها تخضع فنيا لطرق عرض السيرة في التراث الشعبي الشفاهي الذي يعتمد على راوي سارد وأداء شعري شعبي ، ولعل هذا الخضوع للأداء الشفاهي للسيرة الهلالية هو نفسه ما اضعف من إماكنية إنتاج نص مسرحي معبأ بالدراما المسرحية. ليس هذا فحسب بل أوقع الراوي في كثير من الإشكاليات وأثار الكثير من الأسئلة التي تجد إجاباتها في فضاء السيرة الهلالية بتكامل أجزائها ومراحلها وشساعة تفاصيلها وأبعادها التاريخية والإسطورية معا.

فالسيرة الهلالية كما هي في الأدب الشعب يمكنها ـ كمرجع ـ أن تجيب عن كل الأسئلة التي سبق أن طرحناها حول الشخوص والأحداث والدوافع والأسباب، ولذلك يمكننا القول أن هذا النص الذي بين أيدينا لا يقوم بذاته، وإنما يقوم اعتماداً على مخزون معرفي سابق لدي المؤلف والمتلقى بالسيرة الهلالية، وعليهما أن يعودا للسيرة الهلاليى المرجع للإجابة عن الأسئلة المثارة، ثم العودة لاستكمال عرض مسرحية"دياب ملكاً" إذا كان هذا كذلك، وإذا كان الهدف هو إعادة إنتاج الفصل الختامي من السيرة الهلالية مرة أخرى دون توظيف أو تحوير أو تغيير يخضع لرؤية فنية جديدة ، فليكن إذن بقاؤنا مع السيرة الهلالية المرجع هو الأولى في مثل هذه الحالة.

khfajy

سترون أبيضي عندما يلوح بياض الآزمنة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1938 مشاهدة
نشرت فى 15 يناير 2014 بواسطة khfajy

ساحة النقاش

عبدالجواد خفاجى

khfajy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

17,921