على مدى العقد الأخير شكّل الإعلام المادة الرئيسية في التنازع التياري في المملكة، من ناحية السيطرة والغلبة، والتوجّه الذي يحكمه، ومنطلقاته التي تعبّر عنها مادته الإعلامية. في الطائف قبل أسبوع ناقش 60 مثقفاً ومثقفةً من خلفيات فكرية متنوعة محاور تتعلق بواقع الإعلام السعودي وسبل تطويره في جلسة عقدها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني وشهد الحديث حول محور المنطلقات الشرعية والفكرية للإعلام السعودي جدلاً واسعاً، وتبايناً واضحاً في المداخلات، ففريق من المتدينين يرون أن تفريطاً وتغاضياً يمارسان ضد الهوية الشرعية للبلاد، والتي تحكم الممارسة الإعلامية، فيما يقول فريق من المثقفين ذوي الميول الليبرالية إن ثمة وصاية على الإعلام بفرض منطلقات دينية وشرعية عليه، من شأنها أن تحد من انطلاقه وتعوق مسيرة التحديث المرجوة له.
يشير أستاذ الشريعة في جامعة الطائف وأحد المشاركين في الحوار الدكتور جميل بن حبيب اللويحق في حديثه إلى «الحياة» أن المنطلقات الشرعية التي ينبغي أن ينطلق منها الإعلام السعودي بكل وسائله «هي تلك التي نصّت عليها وثيقة السياسات الإعلامية بموادها الثلاثين والتي أقرت عام 1401هـ، ونصّت في عدد من موادها على أن أحكام الشريعة الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنة هي الإطار الحاكم لحركة الإعلام في أهدافه ووسائله، والتي تتحدث بوضوح عن هويته الإسلامية وعن انضباطه بهذه الهوية في وسائله، وعن التزامه بالدعوة إلى الله، وتواصله مع الأمة الإسلامية، وخدمته لقضاياها».
ويلفت اللويحق النظر إلى أن «تلك الوثيقة صدرت بقرار ملزم من مجلس الوزراء وقتها، ولم يأتِ بعدُ ما ينسخها، ويرى أن صياغتها كانت واضحةً جداً، ولا لبس يمكن أن يحدث في تنزيلها على الواقع».
ويضيف: «هي تتحدث عن إطار مرجعي عام من الشريعة وفق المفهوم من الكتاب والسنة، بفهم السلف الصالح، وبطبيعة الحال وفق فهم علماء الشريعة المعتبرين رسمياً لأحكامها. أما مساحة الاختلاف في الفهم إن وجدت فهي محدودة جداً ومنحصرة في بعض الوسائل».
وعن المنطلقات العالمية الأخرى كالحرية والمهنية والتي يرى البعض أنها الأولى والأهم في التطبيق فيجيب اللويحق: «الوثيقة نصّت على بعض القضايا من هذا القبيل، الأمر الذي لا يتنافى مع المنطلقات الشرعية، وحين لا يكون هناك تعارض فإنه من غير المقبول أن يرفض أحد تلك المنطلقات الشرعية بمحض التحكّم أو التوهم فقط، فالوثيقة تتحدث عن ضرورة الارتقاء المهني والفني الاحترافي مثلاً إلى أعلى صوره، وتتحدث عن قضية الأسرة والوطن، وغيرها من القواعد المطلوبة في السياسة الإعلامية».
أما النقاط التي يجد اللويحق فيها مخالفةً صريحة للشريعة في الممارسة الإعلامية أو مراجعةً وضبطاً لتتوافق مع السياسة الإعلامية «ما انزلقت إليه بعض الوسائل الصحافية تحديداً من الخلط بين الأداء والممارسة الفردية للأشخاص والبعد الشرعي المرتبط بها، مثل مهاجمة هيئة الأمر بالمعروف وتشويه صورتها وتضخيم الأخطاء واختلاقها أحياناً، بل ترى أن منها ما يكون التشويه فيه متجاوزاً ومتجهاً لصورة التدين وللعالم والقاضي والمناشط الإسلامية والتشكيك فيها ونسبتها إلى أجندة بعيدة عن الواقع».
ويتابع: «من المعلوم أن المؤسسات الصحافية يجب أن تكون محكومةً بالسياسة الإعلامية للدولة، ومنها ما نراه من غياب البعد الرسالي في القنوات الفضائية باستثناء قناتي القرآن والسنة وإذاعة القرآن الكريم، بل هناك تجاوزات عملية في بعض الوسائل بالنظر إلى هدفها المناقض لتضمنها مشاهد وصوراً لا ينبغي بثها، كما يظهر هذا في بعض المسلسلات والأفلام التي يشتكي الكثيرون من كونها لا تتناسب مع إعلام يمثل السعودية بكل رمزيتها الإسلامية».
ويستبعد اللويحق التعميم والتضخيم في ملاحظاته، «لكن من المهم جداً أن نسعى لتصحيح مثل هذه الأخطاء، والتي قد تكون محدودة بالقياس إلى غيرها، وأعتقد أنها انعكاس بصورة ما لاجتهادات فردية موجودة في هذه المنظومة، ولا تمثل شيئاً مدروساً».
وعن اقتراحات نادى بها علماء وطلبة علم بإنشاء هيئة رقابة شرعية أو لجنة استشارية شرعية للقطاع الإعلامي، يؤيد الدكتور جميل اللويحق هذه النداءات، ويتمنى «أن يكون ذلك في حال حدوثه من خلال رؤية شرعية واضحة تنطلق من الأهداف العليا وتستصحب المهنية الإعلامية الواعية وتغيّرات العصر».
أمام هذه المطالب تعتقد الكاتبة والأستاذة في جامعة الملك عبدالعزيز أميرة كشغري أن المنطلقات الشرعية الجوهرية تفضي إلى أن الشرع هو الصدق وإحقاق العدالة والمساواة، «وغير ذلك لا يمكن أن يكون منطلقاً شرعياً، ومتى ما تبنّى الإعلام هذه المنطلقات فهو يتبنى الصدقية والشفافية».
وتضيف: «هناك من يعتقد أو يغلّب الجانب الشكلي كظهور المذيعات من دون حجاب مثلاً، تلك قضية شرعية، لكنها ليست من الأمور التي تغيّر في القضية وقيمة ما يطرح، فتغطية الوجه من عدمه لا تغيّر من قيمة المادة الإعلامية للعرض، هذه المطالب لا تعكس جوهر الدين».
وبخلاف هذا الرأي يطالب رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية الدكتور أنور ماجد عشقي بألا يكون الإعلام في مواجهة الشريعة، مؤكداً على ضرورة الحوار القائم على أن الإعلام لا يمكنه الخروج من القواعد الأساسية للشريعة، وأن يعكس صورة الإسلام.
ويتابع: «من الضرورة إنشاء هيئة شرعية في وزارة الثقافة والإعلام تصوّب الأخطاء، وتزن الأمور بميزان الشرع، والموازنة بين احترام القواعد الشرعية، ومواكبة العصر».
ويشير عشقي إلى بعض الممارسات الإعلامية التي يرى فيها خطأً، «الإعلام يتجنى كثيراً على الذات وليس على الخطأ ذاته، فهو يقول إن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخطئة، ولا يقول إن تصرفها هو الخاطئ، ويطالب بعض الإعلاميين بحلها، مع أن وجودها ضروري».
وعلى رغم إيمانه بالتزام الإعلام السعودي في العموم بالمنطلقات الشرعية، إلا أن الدكتور أنور عشقي يطالب بإجراء مراجعات مهمة على الأداء الإعلامي، مستشهداً بحادثة معرض الكتاب في الرياض حينما توجّه أحد المحتسبين بلهجة شديدةٍ لوزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة، «صمت الوزير ولم يرد على المحتسب، لكن لو كان لدى وزارته هيئة شرعية، لطالبه بعرض ملاحظاته وشكايته عليها».
أما قضية التزام الإعلام المحلي بنصوص الدعوة إلى الله، فلعشقي ملاحظات عدة عليها، فهو يرى أن «هناك ضعفاً في الاهتمام بهذا الجانب، ماعدا موسمي رمضان والحج، المملكة ذات هوية إسلامية، وعلى إعلامها مواكبة هذه الهوية، والسبب في التقصير أن قديم الرسالة الإعلامية، لا يمكننا أن نواجه به الحديث، إذ لا بد من ابتكار نظمٍ إعلامية جديدة».
ويعلّق رئيس النادي الأدبي في الطائف حماد السالمي على مطالب بعض المتدينين في الحوار الوطني بإلغاء المسلسلات والأفلام عن شاشات التلفزيون السعودي، والحفاظ على الهوية المحافظة للبلاد بقوله: «هناك تيارات وشرائح في المجتمع تريد أن تفصّل الإعلام على المقاس الذي يناسبها، والبعض الآخر يريد فرض وصايته، ووصل الأمر ببعضهم إلى المطالبة بمنع ظهور المباريات على التلفزيون بحجة عدم فائدتها، وبدلاً من أن نفكر في تطوير إعلامنا لمواكبة الإعلام العربي، نجهد للتضييق عليه، مع أننا نعيش في ظروف ومناخات تلقي بكثير من العبء على إعلامنا، تحتّم عليه أن يكون منافحاً عن البلاد».
ساحة النقاش