هل ترى تلك المرأة الحدباء التي تهيم خلف الحشرات؟
هل تصدّق أنها كانت منذ بضعة أيام فقط: أجمل بنات القرية؟
لو أنك من قريتنا فأنت تعرف جيدًا (آسيا)، ولو لست منها فأرجوك ألا تتهمني بالمبالغة، أنت في حياتك لن ترى أجمل منها، حتى تلك البثرة على وجنتها يمكنك ببساطة مريعة أن تتغاضى عنها، إن صخرة على سطح القمر لن تمنعك أن تصفه بأنه ’القمر‘.
وهي تعلم هذا، ولهذا لم تحاول أبدًا إزالة البثرة، إنها تلك الثنائية الشهيرة: ’جميلة، ومغرورة‘.
لكنها لم تعلم أن المثلث كاملاً هو: ’جميلة، ومغرورة، وتعسة الحظ إلى أقصى مدى‘، يا لأختي المسكينة! أنا أختها وأعرف عنها كل شيء، وسأحكي لك..
.
.
.
في الصباح كنّا نتجول حول البحيرة.. داعبَت خصلات شعرها وقالت لي:
- وهل تصدّقين أنني أنا قد أعشق فتىً، من كان!
- إن لم تحبيه فاتركيه ولا تعذّبيه وتسخري منه وسط الجميع
تضحك وتقول:
- يجب أن يفرح يا (فاطمة)، كم فتى بالقرية منحته بعضًا من اهتمامي لأسخر منه؟
يمر بنا أحد الشباب فيبدأ بمعاكستها:
- يا إله السماء، هل أرسلتَ إلهة الجمال إلى الأرض؟
تلتفت إليه ولم تفارقها الضحكة:
- وأرسل معها إله السماجة أيضًا.
يلفت انتباهنا مجذوب القرية، إنه رجل عجوز أحدب في ملابس رثة، وله نبرة قوية ومزعجة جدًا إذ يردد:
- المقسوم... المقسوم... المقسوم... المقسوم
ثم يقترب منّا باسطًا إلينا كفًّا فارغة. تميل (آسيا) لتتفحص وجه المجذوب فتتجعد عضلات وجهها في اشمئزاز:
- يا إلهي المجيد! هل يُعقل أن الذي خلقني قد خلقك؟
يمتعض وجه المجذوب ويشيح عنّا قليلاً بينما يقول بنبرة منخفضة:
- المقسوم.
تستدرك (آسيا):
- ثم ما هذا الصوت؟ هل ابتلعتَ ضفدعًا أم....
تنظر لي وتضحك:
- أم أنك تربيهم في هذا الإتْب على ظهرك!
تلتمع نظرة غضب بعين العجوز، يدير وجهه إليها ويمد إصبعًا نحو البثرة على وجنتها حتى يلمسها فيقول بنبرة رهيبة:
- المقسوم.
تنتفض (آسيا) في مكانها للحظة كأنما تكهربت، يُنزِل العجوز يده ويمضي إلى بعيد مرددًا كلمته الوحيدة، بينما تحاول (آسيا) أن تنفض نظرته عنها، تفتعل ضحكة مرتبكة:
- أيًا كان!
ثم تأخذني من ذراعي، إلى البيت.
~
تقف (آسيا) أمام مرآتها:
- مرآتي يا مرآتي.. من أحلى مني بالـ....؟
لسنوات اعتادت أن تقف أمام المرآة تقول ذات الكلمات، ولا يشتت انتباهها أبدًا وجود البثرة على وجهها، فلماذا اليوم بالذات لا تستطيع أن تتم الجملة؟
تلتفت إليّ بحزم:
- لنذهب إلى الحكيم.
أصطحبها إلى هناك. يتمعن حكيم القرية في النظر إلى وجنتها وأظنه يسرح حينًا في جمالها ثم يقول:
- أنا لا أرى حاجة لإزالتها
- أنت تقوم بعملك وكفى.
تصدمه عبارتها، ينتقل إلى خزانته فيجلب بعضًا من الأعشاب المطحونة، ويخبرها أن تضعها بانتظام كل يوم.
~
تنظر (آسيا) إلى البثرة التي تتضخم يومًا بعد يوم، وتقول ببساطة:
- إنه حمار!
تتلفح بوشاحها وتقول:
- أنا سأذهب إلى الشيخ (جِرجار).. يقولون أن سره باتع.
يتملكني القلق:
- لكن.. نحن لا نريد أن نذهب إلى هذه الأماكن يا (آسيا)
- لو خائفة، ابقِ أنتِ.
ثم تتركني وتتقدم، ألتقط ملاءتي وأسرع خلفها.
تخنقني رائحة البخور المحترق، يضع الشيخ (جرجار) مزيدًا منه في النار ويطلب منها مزج بعض الأعشاب مع ساق ضفدع مطحونة واستخدامها للدهان، تهم (آسيا) أن تعترض:
- ولكن...
- لا كلام قبل ساق الضفدع المطحونة.
~
تنحني (آسيا) حول حواف البحيرة محاولة الإمساك بأحدهم، لكنهم دائمو القفز، وحين تنجح أخيرًا في القبض على ضفدع يفرز سائلاً لزجًا فوق يدها فلا يفارق الاشمئزاز وجهها حتى البيت.
يصدر الضفدع نقيقًا يفوق حجمه الصغير بمراحل ويكاد يوقظ الأموات وهي لا تريد إيقاظ الجيران، تود أن تضع يدها على فمه تغلقه لكن الغريب أنه مغلق أصلاً، فمن أين يُصدِر هذا الصوت؟
تثبته بيديها إلى المائدة، وتخبرني أن أسرع بإحضار السكين، ثم تطلب مني أن أقيّده بدلاً عنها، يرتفع نقيق الضفدع إلى أقصى حد، وفي أقل من لحظة: تُسقِط السكين على ساقه فتفصلها.
أشهق وأجذب يدي لأخفي فمي، يكف الضفدع عن النقيق، ينتفض على ساق واحدة فيختل توازنه ويسقط، ينظر إلى ساقه الممدة على طاولتنا نظرة طويلة قبل أن يزحف على ثلاث صانعًا خيطًا من دمٍ إلى الباب.
تجذب (آسيا) أطراف جلد الساق إلى الخارج، ثم تلقي بالساق المسلوخة على المائدة وتذهب إلى المطبخ، أنظر بذعر إلى الساق المفترض أنها ميتة، لكنها لا تكف عن الانتفاض، تعود (آسيا) بيد الهاون، أقول بينما ترفع الهاون وتهوي به على الساق:
- ألم يكن يُفترَض أن تقتلي الضفدع أولاً، بدلاً عن تعذيبه؟
~
تقف (آسيا) أمام المرآة، تأخذ مسحة من معجون ساق الضفدع على إصبعها وتدهن بها البثرة في ابتهاج:
- مرآتي يا مرآتي، هل أعود أجمل امرأة بالكون؟
ثم تلتفت لي، تتسع عيني بينما أرمق خدها ينتفخ كالبالون، تنظر بذعر إلى عيني المتسعة فتعود تنظر للمرآة، وتصرخ:
- الحقيني يا (فاطمة)، ما الذي يحدث لي؟!
- لابد أنه تورّم، يبدو أن لديك حساسية من ساق الضفدع هذه.
آخذها إلى الحوض:
- يجب أن نغسل هذا الدهان بسرعة
تميل رأسها إلى جانب الخد الآخر:
- لكنه ثقيل يا (فاطمة)، هذا التورّم لا يمكنني حمله... إلى من أذهب بعد هذا؟
أوسدها فراشها:
- نامي الآن، والصباح رباح.
~
في الصباح كانت غرفة (آسيا) تعج بالضجيج، شيئًا مثل: ألف ضفدع ينق، لكن من أين يأتي هذا الصوت؟
أفتش جيدًا تحت الفراش وفي الخزانات، ثم تتملك الفكرة مني فأقترب ببطء من الفراش، وفي لحظة أزيح الغطاء عن (آسيا)، فيعلو الصوت دفعة واحدة، ولازلتُ لا أرى ضفادع.
تفتح (آسيا) عينها فتنظر لي بشكٍ، وأنظر لها بشكٍ، تضيّق عينها للحظة وترهف السمع قائلة:
- هل تسمعين ما أسمعه يا (فاطمة)؟
تحك جسدها بالفراش عدة مرات، ثم تعتدل جالسة:
- لا أدري لم لا يريحني هذا الفراش!
ولكن من قال أن المشكلة بالفراش؟ المشكلة أنه لا يمكن لأحد أن يرتاح في نومته على ظهره إن كان ظهره محدّبًا. تجلس (آسيا) على حافة الفراش، رأسها لأسفل وإلى جانب:
- أشعر ثقلاً على ظهري يا (فاطمة)
تحاول أن ترفع رأسها وتدفع بكتفها للأمام علّها ترى، تفشل لكنها تفلح في معرفة ما هنالك، تنظر إليّ بذعر بينما تصرخ وتلطم خديها:
- هل صار لي إتبْا يا (فاطمة)... هل صار لي إتبْا؟!!
ابتلعت الكلمة في حلقي.. كيف يمكن أن أقول: نعم يا (آسيا)، وتسكنه الضفادع أيضًا.
أميل عليها لتهدئتها، في حين تقف ذبابة على وجهي، وفي أقل من ثانية يمتد لسانًا من خدّها يلتقط الذبابة ويعود للداخل.
في الأيام التالية صار معتادًا أن ترى امرأة حدباء تخفي نصف وجهها بالوشاح وتهيم في أرجاء القرية منحنيةً نحو الأركان، ومصدّرةً خدها المتضخم لأي حشرة عابرة. حينها لتعرف أنها أختي (آسيا).
نشرت فى 4 يونيو 2014
بواسطة khalefawy
أقسام الموقع
عدد زيارات الموقع
13,106
ساحة النقاش