إن المجامع وكليات اللغة العربية لا تزال تسير خلف الإعلام، تتعقبه بكسر همزة أو بفتحها، أو بتعريب مصطلح شائع، وتبذل الجهود الكبيرة للإبقاء على الوسائل القديمة لتعليم العربية، وكأن وسائل تعليم العربية وطرقها القديـمة مقـدسة لا تمس، لذلك فهي تـحول دون الارتقاء إلى وسائل معاصرة في تعليم اللغة، أو على الأقل الإفادة من (الآخر )، في ميدان التنافس والمدافعة اللغوية والحضارية، الذي يفرد لكل فن إعلامي وعلمي لغة وأسلوبًا ومصطلحات، بل لقد بات يسوق علينا مصطلحاته ومفاهيمه .
وقد يكون من المفيد الإشارة والإشادة بوجهة مجمع اللغة العربية في دمشق، حيث عقد ندوة في تشرين الثاني 1998م، تحت عنوان: "اللغة العربية والإعلام "، عرض فيها لواقع اللغة العربية في وسائل الإعلام المتعددة من مكتوبة ومسموعة ومرئية، شارك فيها مجموعة من الخبراء والعلماء، في اللغة، والأكاديميين، وأصحاب التجارب السابقة والإعلاميين.
ولقد حاولت الندوة توصيف المشكلة، أو أزمة العربية في وسائل الإعلام، وبحث سبل العلاج، وانتهت إلى مجموعة توصيات يمكن أن تعتبر نقطة انطلاق لمزيد من التفكير، والتنظير، والمثقافة، والمعالمة، إن صح التعبير.
ولا شك أن محاولة المجمع المرابطة في المواقع اللغوية الفاعلة والمؤثرة يعتبر جهدًا مقدورًا يثير الاقتداء.
ولعل إلقاء نظرة على بعض عناوين المساهمات المطروحة في الندوة، يمنح قدرًا من إبصار المشكلة والرؤية التشخيصية لها، الأمر الذي يعتبر أول الطريق للعلاج والتصويب.
ومن العناوين البارزة في الندوة: الإعلام وتنمية الملكة اللغوية، اللغة العربية والإعلام المرئي والمسموع (مقترحات في سبل العلاج والتنمية )، سلطان العربية في مضمار الإعلام، واقع اللغة العربية في الإعلام المسموع والمرئي، اللغة العربية والإعلام المسموع والمرئي، خير الكلام في لغة الإعلام، العربية والقنوات الفضائية، الفصحى ضرورة العصر، دور العربية في مواكبة المصطلح الأجنبي في الإعلام... ونشرت وقائع الندوة وأعمالها في جزأين من المجلد الرابع والسبعين من مجلة المجمع، تاريخ ربيع الأول 1420هـ (تموز-يوليو-1999م )و جمادى الآخرة 1420هـ (تشرين الأول -أكتوبر-1999م ).
وهذا التوجه ليس جديدًا على مجمع اللغة العربية بدمشق، فقد سبق له أن أصدر مجموعة معاجم في المصطلحات العلمية والطبية، الأمر الذي ساهم بالمسيرة التعليمية، وعلى الأخص تعليم العلوم التجريبية من طب وهندسة... الخ، باللغة العربية.
كما أقام المجمع ندوة أخرى تصب في الموضوع نفسه تحت عنوان: حول منهجية موحدة لوضع المصطلح.
وبهذه المناسبة لا يفوتنا أن نذكر أن من بوادر اليقظة اللغوية والثقافية والمعرفية أيضًا، التوجه صوب المصطلح كخيار لغوي وسمة حضارية، والبحث في منهجية التعامل معه ، حيث عقدت ندوة في المغرب، أو دورة علمية تدريبية للباحثين في التراث العربي الإسلامي، قام عليها معهد الدراسات الـمصطلحية في جـامـعـة سيدي محمد ابن عبد الله الفاسي والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، وشاركت فيها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، عرض فيها لمفهوم المنهجية، ومفهوم التراث، ومنهجية خدمة التراث، وتوظيف التراث، وتدريس النص التراثي، ونشرت أعمالها في مؤلف خاص صدر عن معهد الدراسات المصطلحية والمعهد العالمي للفكر الإسلامي.
لقد بيّن أصحاب الخبرات الطويلة، في البحث اللغوي واللساني وتعليم العربية، أن أفضل طريقة لتعليم اللغة وأيسرها وأقربها إلى مسايرة الطبيعة هو خلق بيئة سماعية، تنطق فيها العربية الفصيحة بمفرداتها وتراكيبها وعباراتها الثرية المضامين والدلالات.. يقول الدكتور إبراهيم مصطفى وزملاؤه (تحرير النحو العربي، دار المعارف، مصر، 1958م ):
إن أفضل طريقة لتعليم اللغة وأيسرها وأقربها إلى مسايرة الطبيعة، هي أن نستمع إليها فنطيل الاستماع، ونحاول التحدث بها فنكثر المحاولة، ونكل إلى موهبة المحاكاة أن تؤدي عملها في تطويع اللغة وتملكها، وتيسير التصرف بها، وتلك سنة الحياة في اكتساب الأطفال لغاتهم من غير معاناة ولا إكراه ولا مشقة، فلو استطعنا أن نصنع هذه البيئة التي تنطلق فيها الألسن بلغة فصيحة صحيحة، نستمعها فتنطبع في نفوسنا، ونحاكيها فتجري بها ألسنتنا، إذًا لملكنا اللغة من أيسر طرقها، ولمهد لنا كل صعب في طريقها.
ونعتقد أنه بإمكان وسائل الإعلام المتنوعة أن تكون معلمة للغة أيضًا، وذلك بإسهامها في إيجاد هذه البيئة السماعية الفصيحة.. وبإمكان هذه البيئة، بيئة السماع والمشاهدة، إذا ما أحسن استثمارها وتوظيفها، أن تجعل اللغة العربية الفصيحة المعاصرة الميسرة السهلة لغة الإعلام، في كل فعالياته ومجالاته وبرامجه.
فالإعلام إذا كان بالمستوى المطلوب، لغة وأداءً، يصبح مدرسة لتعليم اللغة.. ذلك أنه مع استمرار السماع ينضج الأسلوب والطريقة في الذهن، فتتولد المقدرة على المحاكاة، فيبدأ الإنسان في استخدام اللغة السليمة في حاجاته وأغراضه وأفكاره.
وهذا يعني أن وسائل الإعلام قادرة على تنمية الملكة اللغوية عند المتلقي، مما سوف يؤدي إلى الارتقاء بالإعلام نفسه، والتحول من لغة الأمية والجهل "العامية " إلى لغة العلم والحضارة "الفصحى"، والارتقاء بالأداء، وبناء القاعدة اللغوية والثقافية المشتركة، الفصحى، وبذلك يشكل الإعلام، بكل عطائه، موقعًا مساندًا للعملية التعليمية والتربوية، ولا يتحول إلى وسيلة استلاب ثقافي متقدمة في داخل الأمة وجسرًا لنقل (الآخر ) بكل أحماله المقترنة بالكلمة والصورة.
ولابد من الانتباه إلى التعبير بسائر أدواته، فالتعبير بالصورة سبيل إلى التعبير بالكلمة، ذلك أن الجمهور العام يستهلك الصورة الإعلامية أكثر من قدرته على استهلاك معانيها، ومن ثم ينتقل ذهنيًا ولسانيًا من المجسد إلى المجرد.
وبعد، فهذا الكتاب يمكن أن يعتبر إلى حد بعيد، محاولة لطرح الموضوع واستدعائه إلى ساحة الاهتمام، حسبها أنها لفتت النظر إلى قضية على غاية من الأهمية والخطورة، وهي لغة الإعلام، أو واقع العربية في وسائل الإعلام وسبل الارتقاء بها.
ذلك أن الإشكالية الكبيرة -فيما نرى- ليست باحتلال العامية الكثير من وسائل الإعلام، أو اللحن بالعربية وإشاعة اللحن في ألسنة وعقول المتلقين فقط -ولقد بدأت العامية بالتراجع أمام ارتفاع نسبة التعليم وانحسار الأمية- وإنما الإشكالية الأساس أيضًا هي في اختيار المفردات اللغوية، والأسلوب المناسب، لأنواع الأوعية الإعلامية، من مقروءة ومسموعة ومرئية، ولطبيعة المادة الإعلامية، وفنون التعبير من خبر وتقرير واستطلاع ومقابلة وحوار وتعليق ...الخ، وطبيعة المضامين الإعلامية، حيث يمتد الإعلام اليوم ليغطي جميع جوانب الحياة والمساحات الإنسانية.
فهناك الإعلام السياسي، والإعلام الاقتصادي، والإعلام الرياضي، والإعلام الثقافي، والإعلام الأدبي، والإعلام العلمي والطبي، والإعلام الاجتماعي... الخ، ولكلٍ من هذه الأجناس الإعلامية خصائصه ومتطلباته المعرفية، ومفرداته، ومصطلحاته اللغوية والعلمية، وأساليبه المؤثرة، التي تجمع بين مواصفات الخطاب العام والخطاب النوعي في آن واحد.
واللغة العربية، بما تمتلك من الإمكان والتنوع، والمترادفات، التي تشترك في معنى واحد، وتتمايز في الوقت نفسه لاختصاص كل مفردة بمعان خاصة بها، تلك الخصوصيات التي قد تغيب في مراحل العجز والتخلف اللغوي فلا تدرك الفروق اللغوية، مؤهلة لتغطية هذه المساحات جميعًا.. ولو كنا في مستوى لغتنا وتقنيات عصرنا، لاستشعرنا بالواجب نحو اكتشاف آفاق للامتداد بثقافتنا وعقيدتنا ورؤيتنا الحضارية.
فالإشكالية ليست في استعمال العامية وفشو اللحن اللغوي فقط - كما أسلفنا - لأن هذا أمر قد يكون بسيط المعالجة، وإنما تلك الإشكالية المركبة ذات أبعاد أخرى، لابد أن تتوفر عليها مجموعة اختصاصات معرفية -واللغوية في مقدمتها - للنظر فيها، وتطوير الأدوات لتتوازى مع تطور الإعلام، وبذلك يكون الإعلامي معلَّمًا ومعلِّمًا في الوقت نفسه.
نشرت فى 20 ديسمبر 2011
بواسطة ketaba
عدد زيارات الموقع
243,995
ساحة النقاش