السجينة ..عصفورتي الحزينة !
صوتها وهي تغرد مدجج بالألم ..
أنات تزفرها مع غنائها ..
عصفورتي الحزينة ..
حبسوك في القفص ..
لم تُغن ألوانك الزاهية ولا منظرك البديع لنيل حريتك..
أُعجب بك الكثيرون ..
حتى اختارك من بلغ من العمر أرذله لتكوني له رفيقة..
نيران شبابك وعواطفك الملتهبة لا تجد إلا القش البارد في قفصك ..
عصفورتي الحزينة !
لا تهملي تغريدك ..
عسى القيود الحديدية أن تنهار ..
تنكسر ..
تتحطم أغلالك ..
فتنطلقين فوق الشجر المورق دوماً بالخضرة ..
بغناء صافٍ ..
عذبٍ..
يؤلمني تلك القطع الحجرية التي تتلاصق بتماسك شديد في قصرك المشيد ..
كانت الأحجار حرة في مناجمها ..
من قطع صخرية ضخمة كانت تَنْعمُ بالحرية في الصحراء الواسعة ..
تداعب الشمس وتداعبها ..
ويهدهدها المطر برذاذه ..
والنسيم بحفيفه ..
والأزهار البرية تنفحها بعضاً من أريجها .. لكن اليوم ..
تراصت الصخور في صمت قاتل ..
حصن منيع ..
سجن القصر ..
أو قصر السجن ..
الأعين متربصة ..
الحراس علنيون وسريون ..
يعدون الأنفاس ..
نعم ..
ستة عشر نفساً في الدقيقة الماضية ..
لا سبعة عشر نفساً ...
حتى الاتصالات مُراقبة ..
حتى الوصيفات مجندات لخدمة السيد .. ومسرور السياف جاهز لقطع الأعناق إن اشرأبت نحو نافذة النور.
ما فائدة الحرير والحياة المخملية ..
ما جدوى الرفاهية ..
قلب بارد وعواطف انطفت نيرانها منذ زمن سحيق ..
لوح الثلج هو الرفيق ..
اقتني قارورة العطر ليشم عبيرها ..
يتضوع بمسكها ..
لكن العطر حبيس القنينة!
عصفورتي الحزينة ..
كانت الرمال ترتع في الصحراء الواسعة .. والبادية الرائعة ..
حبسوا الرمال في بناء قصر منيف ..
مهيب ..
هكذا أنت عصفورتي الحزينة..
جناحاك يرفرفان في حيز القفص ..
لا يقويان على الطيران ..
كغيرك من الطير ..
لمسافات بعدية ..
في الفضاء اللانهائي.
اللؤلؤ حبيس القوقعة ..
المحارة ..
ولولاه ما صار للمحار ثمنٌ ..
المحار كثير لكن اللؤلؤ نادر ..
في كل مائة الف محارة توجد لؤلؤة ثمينة .. وأنت هي اللؤلؤة يا عصفورتي الحزينة..
باعوك بثمن باهظ للسيد ..
لم يدرك قيمتك ..
ولا ألوان ريشك الزاهية ولم يدرك بريق عينيك ..
لم تصله رسالة من العصفورة ...
أنها تشتاق للحرية...
شوق الوليد إلى ثدي أمه ..
إلى الحياة ..
أصم أذنيه عن تغريدة البجعة ..
فالبجعة ..
كما تعلمين يا عصفورتي الحزينة ..
تغرد أجمل تغريدة في عمرها قبل أن تصعد روحها إلى بارئها..
ارتدي النظارة الفاحمة السواد كي لا يرى عذاب ..
واحتراق عصفورتي الحزينة ..
لم ينطق لسانه بكلمه حب للعصفورة الحزينة ..
لم يدرك كُنه مشاعرها ..
لم يعاملها كروح طموح وثابة ..
لكنه اكتفى بالقفص الحديدي الثمين ليحبس العصفورة ..
اهنأي بحبسك ..
عصفورتي الحزينة ..
واحمدي الله واسجدي له شكراً أنك وُجدتِ في زمن لا يئدون فيه إناثَ لعصافير ..
كانوا يهيلون عليها الرمال وهي حية ..
لم يرحموا ضعفها .. ولا زقزقتها البريئة التي تنادي في أعماق المجهول ..
الصرخة الأخيرة ..
بعدها صمت القبور المطبق...
هكذا كانوا يفعلون في إناث العصافير بمجتمعاتنا العربية ..
أما الآن فيكتفون بعشرات الحراس .. مدججو ن بالسلاح ..
والوصيفات مجندات ..
بلا قلوب ..
لا يعصون السيد ما أمرهم ..
ومسرور السياف واقف بالباب ..
فاحذري عصفورتي ..
عصفورتي الحزينة ..
قلبي معك ..
لكن لا أدرك كيف السبيل إلى فك قيدك .. وتحطيم قفصك الذهبي..؟
أسلاك شائكة تحيط بحدود عشك الذهبي .. رهينة المحبسين ..
عصفورتي ..
قفصك الذهبي والقلعة البيضاء الحصينة .. لست كأبي العلاء المعري ..
كان رهين المحبسين أيضاً ..
عماه وبيته ..
أما عصفورتي الحزينة فقد أحكم السجان القيود على روحها وعقلها ووجدانها، وأطفأ بكرات الثلج ألسنة النيران ..
هل سمعت عصفورتي الحزينة عن الفيلسوف الألماني "نيتشه" ؟
نعم هو ..
إنه الذي قال بتمجيد إرادة القوة ..
كان المرض ينهش جسده النحيل بلا شفقة أو رحمة ..
ضربه الشلل في أطرافه ..
أما أهله وذووه فقد وسدوه فراشاً ..
كائناً مسجيً يحتضر..
لكن روحه الوثابة دفعت الطاقة إلى جسده .. وعقله الجبار ..
أرسل إشاراته إلى أطرافه أن تحركي .. وبمرور الأيام بدأ يحرك أصابع قدميه ويديه ..
بدأ يتقلب على فراشه بإرادته الحرة .. لقد بعثه الله من مرقده، فقام على رجليه واقفاً .. وكطفل يتعلم المشي ..
كان يقف ويسير خطوات قليلة...ثم يشعر ببداية سقوطه على الأرض، فيلتمس جداراً يتوكأ عليه ..
وشيئاً فشيئاً بدأ يخرج إلى الناس ..
ليرى "ديوجين" ذلك الفيلسوف العبقري حاملاً مصباحه الزيتي في وضح النهار بدعوى بحثه عن الحقيقة ..
وليدرك "نيتشه" بإصغاء السمع إلى ديكارت بفلسفته الوجودية ..
أنا أفكر ..
إذاً أنا موجود ..
وهكذا خرج فيلسوف ألمانيا من كبوته ..
إنها إرادة القوة في أوج مجدها وعنفوانها ..
لا تيأسي عصفورتي الحزينة ..
الصغيرة ..
فعسى الله أن يفك قيودك ويعمي أبصار سجانيك ..
ولا يخرج سيف "مسرور" من غمده ..
" إن الله رحيم بالمؤمنين "..
أنتهى
د.محمود رمضان
http://www.abou-alhool.com/arabic1/details.php?id=33199#.VlsRPxCEbqC
ساحة النقاش