الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام، وشرح صدورنا للإيمان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:- يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ* فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)، «سورة الماعون الآيات 1 - 7».

جاء في كتاب تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور: «قيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقيل في الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل في عمرو بن عائذ المخزومي، وقيل في أبي سفيان بن حرب قبل إسلامه بسبب أنه كان يَنحر كل أسبوع جَزوراً فجاءه مرة يتيم فسأله من لحمها فقرعه بعصا، وقيل في أبي جهل: كان وصياً على يتيم فأتاه عرياناً يسأله من مال نفسه فدفعه دفعاً شنيعاً»، (تفسير التنوير والتحرير لابن عاشور 30/565-566).

وذكر صاحب صفوة التفاسير في تفسير الآية السابقة: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بالدِّينِ)؟ استفهام للتعجيب والتشويق أي هل عرفت الذي يكذب بالجزاء والحساب في الآخرة؟ هل عرفت من هو، وما هي أوصافه؟ إن أردت تعرفه (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي فذلك هو الذي يدفع اليتيم دفعاً عنيفاً بجفوة وغلظة، ويقهره ويظلمه ولا يعطيه حقه»، (صفوة التفاسير للصابوني 3/609).

 

مال الأيتام

 

إن الأيتام يحظون باهتمام كبير في ديننا الإسلامي الحنيف، حيث نرى ذلك واضحاً من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فقد جاءت النصوص الشرعية تدعو المسلمين إلى وجوب الاهتمام بالطفل اليتيم ورعايته وتهذيبه وتربيته، والحفاظ على أمواله، وحسن الإنفاق عليه، كما في قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، «سورة البقرة: الآية 220».

كما وجاء في القرآن الكريم اقتران توحيد الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الوالدين وذوي القربى واليتامى والمساكين، كما في قوله تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بهِ شَيْئًا وَبالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بالجَنبِ وَابْنِ السَّبيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً)، «سورة النساء: الآية 36».

كما وينهى عن نَهْرِ اليتيمِ وَقَهْرِهِ، يقول تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)، «سورة الضحى: الآية 9»، ويقول أيضاً: (لَّيْسَ الْبرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبرَّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى...)، «سورة البقرة: الآية 177».

كما وحذَّر من أكل مال اليتيم، وَتَوَعَّدَ مَنْ يفعل ذلك بعقوبة شديدة كما في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)، «سورة النساء: الآية 10».

كما وجعل الله الإحسان إلى اليتيم سبيلاً للنجاة من عذاب يوم القيامة، (فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ)، «سورة البلد: الآية 11 - 16».

فضل كفالة اليتيم

اليُتْمُ كلمة لها أثر في النفس، فاليتم بؤس وروعة... هو بؤس لأنه يحرم الطفل وهو في مبتكر حياته من أكبر القلوب عطفاً عليه، وحنيناً له..، وهو رائع لأن الله عز وجل اختاره لخير خلقه، وخاتم رسله.. فقد جعل الله اليتم له مهداً، وحين كان أترابه يلوذون بآباء لهم، ويمرحون بين أيديهم كان - عليه الصلاة والسلام - يُقَلِّب وجهه، لم يقل قط يا أبي، لأنه لم يكن له وقتئذ أب يدعوه، فقد تُوفي أبوه وهو ما زال جنيناً في بطن أمه، وَتُوفيت أمه وهو فتى صغير، وَتُوفي جده وهو في الثامنة من عمره، وكفله عمه أبو طالب، وما زال - صلى الله عليه وسلم - ينشأ ويترعرع حتى إذا بلغ أشده أوحى الله إليه، وَشَرَّفه بحمل خاتم الرسالات، هذه الرسالة التي أخرجت البشرية من الظلمات إلى النور، فصلوات الله وسلامه عليه.

حسن المعاملة

ومن المعلوم أن ديننا الإسلامي الحنيف قد اهتم باليتيم اهتماماً كبيراً، وأجزل الثواب لمن يتولى كفالته، ويحسن معاملته وتربيته وتأديبه، وتوفير ما يحتاجه من طعام وشراب وكساء، فنحن أمة ذات رسالة، حملنا الإسلام منذ قرون طويلة، وطبقنا أحكامه، فانتشر الحب والأمان والتكاتف بين أبناء المجتمع الإسلامي.

وقد ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري بشرح صحيح البخاري في شرح حديث: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا...» أنَّ كافل اليتيم هو القيم بأمره ومصالحه.

وعند دراستنا للسنة النبوية الشريفة نرى أحاديث رسولنا - صلى الله عليه وسلم - تتلألأ في الحث على وجوب كفالة الأيتام ورعايتهم والإحسان إليهم وضرورة العناية والاهتمام بهم منها:

- عنْ سَهْل بْنَ سَعْدٍ- رضي الله عنه- قَالَ:- قَالَ رَسُولُ الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا، وأَشَارَ بالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا»، (أخرجه البخاري).

- وعَنْ أبي هريرة- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ»، وَأَشَارَ مَالِكٌ بالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى (أخرجه مسلم).

- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَال:َ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ عَالَ ثَلاثَةً مِنْ الأَيْتَامِ كَانَ كَمَنْ قَامَ لَيْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ، وَغَدَا وَرَاحَ شَاهِرًا سَيْفَهُ فِي سَبيلِ اللَّهِ، وَكُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ أَخَوَيْنِ كَهَاتَيْنِ، أُخْتَانِ» وَأَلْصَقَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى» (أخرجه ابن ماجه).

كفالة الأيتام

من المؤسف أن الأمة التي حثَّ رسولها- صلى الله عليه وسلم- على رعاية اليتيم وكفالته، هي وللأسف من أفقر بلاد الله من حيث وجود المؤسسات التي ترعى الأيتام.

أهذه هي الأمة التي رسولها محمد- عليه الصلاة والسلام-؟!، أهذه هي الأمة التي مَجَّد رسولها- صلى الله عليه وسلم- اليتيم؟!

يقول الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»، (أخرجه الطبراني)، ويقول أيضاً: «والذي بعثني بالحق، لا يُعَذِّبُ الله يوم القيامة مَنْ رَحِمَ اليتيم، وَلاَنَ لَهُ في الكلام، وَرَحِمَ يُتْمَهُ وَضَعْفَهُ...»، (أخرجه الطبراني)، ويقول أيضاً: «مَنْ مَسَحَ على رأسِ يتيمٍ لم يَمْسَحْه إلا لله، كان له في كُلِّ شعرةٍ مَرَّت عليها يَدُهُ حسنات، وَمَنْ أَحْسَنَ إلى يتيمةٍ أو يتيمٍ عنده، كنتُ أنا وهو في الجَنَّةِ كهاتين، وَفرَّقَ بين أُصْبَعيه: السَّبابة والوسطى»، (أخرجه أحمد)، ويقول أيضاً: «خيرُ بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يُحْسَنٌ إليه، وَشَرُّ بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيمٌ يُسَاءُ إليه»، (أخرجه ابن ماجه).

فأين نحن من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا لم نكفل الأيتام؟! وإلى مَنْ نَدَعْ ذلك الطفل اليتيم الذي فقد أباه أو أمه أو والديه كليهما؟! فَمَنْ سَيُحِيطه بالعطف والحنان والشفقة والإحسان؟! وَمَنْ لأولئك الأيتام الذين فَقَدُوا مُعِيليهم؟، لذلك يجب أن تتكاتف جميع الأيدي الرحيمة للإحاطة بأولئك اليتامى كي يُعَوِّضوهم عَمَّا فقدوه من حنان الوالدين.

الدكتور يوسف جمعة سلامة

خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 158 مشاهدة
نشرت فى 20 إبريل 2013 بواسطة islammy7

إسلامي

islammy7
»

ابحث

عدد زيارات الموقع

180,062