بسم الله الرحمن الرحيم
المواقيت في الجاهلية:
• أسماء الأيَّام:
السبت: شِيَار، والأحد: أَوَّل، والاثنين: أَهْون، وأوْهَد، والثلاثاء: جُبَار، والأربعاء: دبُار، والخميس: مُؤْنِس، والجمعة: عَرُوبة.
واليوم في عُرْفِ عُلَماء اللغة من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يتوسَّع في معناه فيُراد به الدهر.
واصطِلاحًا هو جزءٌ مِنَ الأسبوع والشهر والسنة، واليوم ليل ونهار مجتمعان، وقد يُستَعمَل اليوم اسمًا للنهار خاصَّة.
ومبدأ اليوم من وقت غروب الشمس، إلى ابتداء الغروب التالي له، فالليل سابقٌ للنهار عند العرب، فاليوم بليلته من لدن غروب الشمس عن الأفق.
لهذا السبب غلَّبت العرب الليالي على الأيَّام في التأريخ؛ "لأنَّ ليلة الشهر سبَقتْ يومَه، ولم يلدها وولدته، ولأنَّ الأهلَّة لليالي دون الأيَّام، وفيها دخول الشهر، والعرب تستَعمِل الليل في الأشياء التي يُشارِكه فيها النهار، فيقولون: أدرَكنِي الليل بموضع كذا، وصُمنَا عشرًا من شهر رمضان، وإنما الصوم للأيَّام، ولكنَّهم أجازوه إذ كان الليل أوَّل شهر رمضان"[1].
• الأسبوع:
يقسم الشهر أربعًا، كل قسم منها أسبوع، والأسبوع سبعة أيام، وتُعزَى فكرة هذا التقسيم إلى البابليِّين، ولكن ضبط الأسابيع وتتابعها على النحو المعروف حتى اليوم هو نِظامٌ ظهَر بعدَهم بأمدٍ، وقد ذُكِر الأسبوع "شبوعة" Shabu'a في التوراة، في سفر التكوين، وعلى أساس الجمع بين السبت اليهودي وقصة الخلق، نظم الأسبوع بحسب العرف الشائع اليوم.
• الغرر: قسَّم الجاهليون الشهر إلى عشرة أقسام، يتألَّف كلُّ قسم منها من ثلاث ليالٍ، هي: غرر، والغرر: ثلاث ليال من أوَّل كلِّ شهر، وغرَّة الشهر ليلة استهلال القمر[2]، وذكَر بعضُ أهل الأخبار أنَّ العرب كانت "تُسمِّي الثلاث الأولى من ليالي الشهر، فتقول: ثلاث غرر، والثلاث التي تَلِيها ثلاث سَمَر، والثلاث التي تَلِيها ثلاث زهر، والثلاث التي تَلِيها ثلاث درر، والثلاث التي تَلِيها ثلاث قمر، وثلاث بيض.
وتقول في النصف الثاني من الشهر في الثلاث الأول ثلاث درع، وفي الثلاث التي تَلِيها ثلاث ظلم، وفي الثلاث التي تَلِيها ثلاث حناديس، وفي الثلاث التي تَلِيها ثلاث دواري، وفي الثلاث التي تَلِيها ثلاث محاق.
وقيل: إنَّه يُقال لليالي الشهر: ثلاث هلل، وثلاث قمر، وست نقل، وثلاث بيض، وثلاث درع، وثلاث بهم، وست حناديس، وليلتان داريتان، وليلة محاق.
• أسماء الشهور:
المُؤْتَمِر: وهو المحرَّم، وناجِر: صفر، وخَوَّان: شهر ربيع الأول، بصَان: ربيع الآخر، الحَنِين: جمادى الأولى، رِنة، وربَّى: جمادى الآخرة، الأَصَمُّ: رجب، عادل: شعبان، ناتِق: رمضان، وَعِل: شوَّال، هُوَاع، ووَرْنَة: ذُو القعدة، بُرَك: ذو الحجة[3].
وقال ابن خالوَيْه: اختلف في جمادى الآخرة فقال قُطْرب وابن الأنباري وابن دُرَيد: هو رُبَّى بالباء، وقال أبو عمر الزاهد: هذا تصحيف إنما هو رُنَّى، وقال أبو موسى الحامض: رِنَة، وقال القالي: في "المقصور والممدود": قال ابنُ الكلبي: كانت عاد تسمِّي جمادى الأولى: رُنَّى، وجمادى الآخرة: حَنِينًا.
• أقسام السنة:
قسَّم العربُ في الجاهليَّة شهور السنة إلى قسمَيْن: أشهر اعتياديَّة هي ثمانية شهور، وأشهر أربعة حرم مقدسة خصَّت بآلهتهم، لا يجوز فيها قتالٌ ولا بغيٌ ولا انتهاكٌ لحرمات، وكانوا يُقاتِلون في الأشهر الثمانية يغزو بعضهم بعضًا، ويغير بعضُهم على بعض، ثم يتوقَّفون عن القتال في الأشهر الحرم الباقيَّة.
والأشهر الحرم هي أربعة: ثلاث متواليات سرد، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وشهر منفرد هو شهر "رجب"، فهي ثلث السنة، وكان الجاهليون يعظمونها، ولا يستَبِيحون القتال فيها، حتى إنَّ الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهيجه، استِعظامًا لِحُرمة هذه الأشهر التي هي هدنة، تستَرِيح فيها القبائل فتنصرف إلى الكيل والذهاب إلى الأسواق وهي آمنةٌ مستقرَّة لا تخشى اعتداءً ولا هجومًا مفاجئًا.
وتحريم هذه الأشهر ضرورةٌ من الضرورات استوجبَتْها طبيعة الحياة في البادية؛ فأهل البادية بما هم فيه من فقرٍ وضنكِ عيشٍ، يَتنافَسون فيما بينهم ويَتقاتَلون على الكلأ والماء وعلى أخْذ حقِّ المرور من القَوافِل وعلى الغزو والغارات يعيشون، وحياة عاصفة هذا شأنها لا بُدَّ لها من فترةٍ تستَرِيح فيها، وتمتار فيها، وتصفِّي فيها حسابها بدفْع أثمان الديات بهدوء، وبتسوية المشكلات بالمساوَمة والمفاوَضة، وتلك الفترة هي الأشهر الحرم[4].
• الشهور المستعملة حين ظهور الإسلام:
المحرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الثاني، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
قيل: إنَّ أسماءها وُضِعتْ على هذه الصورة باتِّفاقٍ حال وقعَتْ في كلِّ شهر منها، فسُمِّي الشهر بها عند ابتداء الوَضْع، وذكَرُوا التعليل الذي روَوْه عن كلِّ تسمية، وذكَرُوا أيضًا أنَّ أوَّل مَن سمَّاها بهذه الأسماء هو كلاب بن مرَّة، ومن هذه الشهور أربعة حرم لا يجوز فيها غزوٌ ولا قتالٌ.
قال الطبري: "وكان المشركون يُسمُّون الأشهر: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة"[5].
ومن أسماء الشهور ما هو تكرار للاسم الواحد، وهي ربيع الأول وربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الآخرة، ومجموعها أربعة أشهر، فهي ثلث السنة إذًا، وتقع في النصف الأول من السنة وعلى التوالي، تليها أشهر مفردة، ثم شهران يبتَدِئ اسماها المركَّبان بكلمة "ذو"، وهما: ذو العقدة وذو الحجة، وهما آخِر شهور السنة، ويُروَى أنَّ الاسم القديم للمحرم هو صفر الأول فتصبح الأشهر المكونة للنصف الأول من السنة أشهرًا مزدوجة تتألَّف من ثلاثة أزواج، هي: صفران ورَبيعان وجماديان.
وأسماء الشهور في الجاهليَّة لا تُشبِه أسماء الشهور البابليَّة ولا الشهور السريانيَّة والعبرانيَّة، ولا أسماء الشهور العربيَّة الجنوبيَّة على اختلافها[6].
وقد انتَبَه عُلَماء العربيَّة إلى أنَّ أسماء بعض الأشهر التي استُعمِلت في الإسلام مثل رمضان، لا تنطَبِق مع المعاني التي تُفهَم منها، فرمضان من الرمض، وهو الحرُّ الشديد؛ ممَّا يدلُّ على أنه من أشهر الصيف، بينما هو شهر متنقِّل، يأتي في كلِّ المواسم، ويظهر من تفسير أسماء بعض الأشهر وتعليلها أنَّ لتسمياتها علاقة بالمواسم وبالعَوارِض الطبيعيَّة الجويَّة؛ مثل: البرد والحر والاعتدال في الجو، وأنَّ مسمياتها - أي: الشُّهور المسمَّاة بها - كانت شهورًا ثابتةً في الأصل، لكن اتباع المسلمين التقويم القمري دعا إلى تحرُّك الشهور وتنقُّلها في الفصول، لكون الشُّهور القمريَّة غير ثابتة على نمط الشُّهور الشمسيَّة.
بداية السنة في الجاهليَّة بالشهر المحرَّم؛ لذا أُبقِي عليه بعد الإسلام أوَّل السنة من التقويم الهجري، مع العلم أنَّ هجرة الرسول إلى المدينة لم تكن في شهر "محرم" حتى يكون الشهر الأوَّل من السنة الهجريَّة لهذه المناسبة؛ "إذ كانت الهجرة في شهر ربيع الأول، وأرخ بها؛ لذلك يكون الابتداء بشهر محرم هو إقرار لما كان عليه الجاهليون من ابتدائهم بـ"محرم"، مبدءًا لشهور السنة"[7].
المواقيت الهجرية ومعانيها:
محرم: سُمِّيَ بذلك لأنَّ العرب قبل الإسلام حرَّموا القتال فيه.
يذكُر الإخباريُّون أنَّ الاسم القديم للمحرَّم هو صفر، وكان يُعرَف عندهم بـ"صفر الأول"، ثم قيل له "المحرم"، وقد عُرِف الشهران: المحرم وصفر لذلك بـ"الصفرين"، ويظنُّ بأنَّ التسمية الجديدة - أي: المحرم لصفر الأول - إنما ظهَرتْ في الإسلام، وذهَب بعض عُلَماء اللغة إلى أنَّ لفظة "موجب" هي الاسم العادي للمحرم؛ أي: التسمية القديمة لهذا الشهر عند قدماء العرب، فلفظة "محرم" إذًا لم تكن تسميةً لذلك الشهر، وإنما كانت صفةً له لحرمته، ثم غلبت عليه فصارت بمنزلة الاسم العلم عليه، وأمَّا اسمه عند الجاهليين، فهو: صفر، أي صفر الأول، تمييزًا له عن صفر الثاني، الذي اختصَّ بهذه التسمية - أي: "صفر" - بعد تغلُّب لفظة "المحرم" على صفر الأول؛ بحيث صار لا يُعرَف إلا به، فصار صفر لا يُعرَف بعد ذلك إلا بـ"صفر"[8].
قال "السخاوي": "إنَّ المحرم سُمِّي بذلك لكونه شهرًا محرمًا، وعندي أنَّه سُمِّي بذلك تأكيدًا لتحريمه؛ لأنَّ العرب كانت تتقلَّب به فتحله عامًا وتحرِّمه عامًا".
وذكَر أنَّ المحرم لم يكن معروفًا في الجاهلية، "وإنما كان يُقال له ولصفر: الصفرين، وكان أوَّل الصفرين من أشهر الحرم، فكانت العربُ تارَةً تحرِّمه، وتارَةً تُقاتِل فيه، وتحرِّم صفر الثاني مكانَه"، "فلمَّا جاء الإسلام، وأبطَلَ ما كانوا يفعَلُونه من النَّسِيء، سمَّاه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - شهر الله المحرم".
وهذا عند العلاَّمة "بكر أبو زيد" اشتباهٌ وقَع فيه أهل اللغة، سننقل بيانه حالَ ذكر شهر صفر، غير أنَّ تسميته كانت "محرم" بغير "أل" التعريف، فعرف للدلالة على ثباته؛ إذ كان أهل الجاهلية يحرِّمونه عامًا ويحلُّونه آخَر، فأنكر الله عليهم ذلك، وعرف لثبوت حرمته.
قال الطبري في تفسيره الآية: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ [التوبة: 5]: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ﴾، وهي الأربعة؛ يعني: عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيعًا الأول، وعشرًا من شهر ربيع الآخر، وقال قائلو هذه المقالة: قيل لهذه: الأشهر الحرم؛ لأنَّ اللّه - عزَّ وجلَّ - حرَّم على المؤمنين فيها دماء المشركين والعرض لهم إلا بسبيل خير"[9].
صفر: سُمِّي بذلك لأنَّ ديار العرب كانتْ تَصْفَر؛ أي: تخلو من أهلها؛ لخروجهم فيه ليقتاتوا، ويبحَثُوا عن الطعام، ويُسافِروا هربًا من حرِّ الصيف.
ومن الضَّلالات التي اعتَقدَها العربُ؛ اعتِقاد أنَّ شهر صفر شهرٌ مشؤوم، وأصْل هذا الاعتقاد نشَأ من استِخراج معنى ممَّا يقارن هذا الشهر من الأحوال في الغالب عندهم، وهو ما يَكثُر فيه من الرَّزايا بالقِتال والقَتل؛ ذلك أنَّ شهر صفر يقع بعد ثلاثة أشهر حرم نسقًا، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وكان العرب يتجنَّبون القِتال والقَتل في الأشهر الحرم؛ لأنَّها أشهر أمْن؛ قال الله - تعالى -: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ...﴾ [المائدة: 97] الآية، فكانوا يقضون الأشهر الحرم على إحنٍ من تطلُّب الثارات والغزوات، وتشتت حاجتهم في تلك الأشهر، فإذا جاء صفر بادَر كلُّ مَن في نفسه حنقٌ على عدوِّه فثاوَرَه، فيكثر القتل والقتال؛ ولذلك قيل: إنَّه سُمِّي صفرًا؛ لأنَّهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون مَن لقوه صفرًا من المتاع والمال؛ أي: خلوًا منهما، قال الذبياني يحذِّر قومه من التعرُّض لبلاد النُّعمان بن الحارث ملك الشام في شهر صفر:
لَقَدْ نَهَيْتُ بَنِي ذُبْيَانَ عَنْ أُقُرٍ -- وَعَنْ تَرَبُّعِهِمْ فِي كُلِّ أَصْفَارِ
ولذلك كان مَن يريد العمرة منهم لا يعتَمِر في صفر؛ إذ لا يأمن على نفسه، فكان من قواعدهم في العمرة أنْ يقولوا: "إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر - حلَّت العمرة لِمَن اعتمر"، على أحد التفسيرين في المراد من صفر، وهو التأويل الظاهر، وقيل: أرادوا به شهر المحرم، وأنَّه كان في الجاهلية يُسمَّى صفر الأول، وأنَّ تسميته محرمًا من اصطِلاح الإسلام، وقد ذهَب إلى هذا بعض أئمَّة اللغة، وأحسب أنَّه اشتباهٌ؛ لأنَّ تغيير الأسماء في الأمور العامَّة يُدخِل على الناس تلبيسًا لا يقصده الشارع، ألاَ ترى أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَمَّا خطَب حجَّة الوَداع فقال: ((أي شهر هذا؟))، قال الراوي: فسكتنا حتى ظننَّا أنَّه سيُسمِّيه بغير اسمه، فقال: ((أليس ذا الحجة؟))، ثم ذكَر في أثناء الخطبة الأشهر الحرم، فقال: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جماد وشعبان، فلو كان اسم المحرم اسمًا جديدًا لوضَّحَه للحاضرين الوارِدين من الآفاق القاصية، على أنَّ حادثًا مثل هذا لو حدث لتناقله الناس، وإنما كانوا يُطلِقون عليه وصفر لفظ الصفرين تغليبًا، فنهى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن التشاؤم بصفر.
روى مسلمٌ من حديث جابر بن عبدالله وأبي هريرة والسائب بن يزيد - رضِي الله عنهم - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا عدوى ولا صفر))، اتفق هؤلاء الأصحاب الثلاثة على هذا اللفظ، وفي رواية بعضهم زيادة: ((ولا هامة ولا غول، ولا طيرة ولا نوء)).
وقد اختلف العلماء في المراد من صفر في هذا الحديث، فقيل: أراد الشهر، وهو الصحيح، وبه قال مالك وأبو عبيدة مَعمَر بن المثنى، وقيل: أراد مرضًا في البطن سُمِّي الصفر، كانت العرب يعتَقِدونه معديًا، وبه قال ابن وهب ومطرف وأبو عُبَيد القاسم بن سلاَّم، وفيه بُعدٌ؛ لأنَّ قوله: ((لا عدوى)) يُغنِي عن قوله: ((ولا صفر))، وعلى أنَّه أراد الشهر فقيل: أراد إبطال النَّسِيء، وقيل: أراد إبطال التشاؤم بشهر صفر، وهذا الأخير هو الظاهر عندي، ووجه الدلالة فيه أنَّه قد علم من استعمال العرب أنَّه إذا نفى اسم الجنس ولم يذكر الخبر أن يقدر الخبر بما يدلُّ عليه المقام، فالمعنى هنا: لا صفر مشؤوم؛ إذْ هذا الوصف هو الوصف الذي يختصُّ به صفر من بين الأشهر، وهكذا يقدر لكلِّ منفي في هذا الحديث على اختلاف رواياته بما يناسب معتقد أهل الجاهلية فيه.
وسواء كان هذا هو المراد من هذا الحديث أم غيره، فقد اتفق علماء الإسلام على أنَّ اعتقاد نحس هذا الشهر اعتقادٌ باطل في نظَر الإسلام، وأنَّه من بَقايا الجاهليَّة التي أنقَذَ الله منها بنعمة الإسلام، قد أبطَلَ الإسلام عَوائِد الجاهليَّة فزالَتْ من عقول جمهور المؤمنين، وبقِيَت بَقاياها في عُقُول الجهَلَة من الأعراب البعداء عن التوغُّل في تعاليم الإسلام، فلصقت تلك العقائد بالمسلمين شيئًا فشيئًا مع تخييم الجهل بالدين بينهم، ومنها التشاؤم بشهْر صفر، حتى صار كثيرٌ من الناس يتجنَّب السفر في شهر صفر اقتباسًا من حذَر الجاهليَّة السفر فيه خوفًا من تعرُّض الأعداء، ويتجنَّبون فيه ابتِدَاء الأعمال خشية ألاَّ تكون مباركة، وقد شاعَ بين المسلمين أنْ يصفوا شهر صفر بقولهم: صفر الخير، فلا أدري هل أرادوا به الرد على مَن يَتشاءَم به، أو أرادوا التفاؤل لتَلطِيف شرِّه كما يُقال للملدوغ: السليم؟ وأيًّا ما كان فذلك الوصف مؤذن بتأصُّل عقيدة التشاؤم بهذا الشهر عندهم.
ولأهل تونس حظٌّ عظيم من اعتقاد التشاؤم بصفر، لا سيَّما النساء وضعاف النفوس، فالنساء يسمِّينه "ربيب العاشوراء"؛ ليجعلوا له حظًّا من الحزن فيه وتجنب الأعراس والتنقُّلات[10].
ربيع الأول: سُمِّي بذلك لأنَّ تسميته جاءَتْ في الربيع فلزمه ذلك الاسم.
والرَّبْعُ: المحلَّة، يقال: ما أوسَعَ رَبْعَ بني فلان! ورَبَعَتِ الإبلُ، إذا وَرَدَت الربْع، يقال: جاءت الإبل رَوابِعَ، قال ابن السِّكِّيت: رَبَعَ الرجل، يَرْبَعُ، إذا وقَف وتحبَّس.
والرَّبيعُ عند العرَب رَبيعانِ: رَبيع الشهور، ورَبيعُ الأزمنة، فربيعُ الشهور شهران بعد صفر، ولا يُقال فيه إلاَّ شهر رَبيعِ الأول، وشهر رَبيعٍ الآخِر، وأما ربيعُ الأزمنة؛ فرَبيعانِ: الربيعُ الأوَّل، وهو الفصل الذي تأتي فيه الكمأةُ والنورُ، وهو ربيعُ الكلأ، والربيعُ الثاني وهو الفصل الذي تُدركُ فيه الثمارُ، وفي الناس مَن يُسمِّيه الربيعَ الأوَّل، وجمع الربيع: أربعَاء وأربعة، مثل نصيب وأنصباء وأنصبة، قال يعقوب: ويجمع ربيع الكلأ أربعة، وربيع الجداول أربعاء، والربيع: المطر في الربيع، تقول منه: ربعت الأرض فهي مربوعة[11].
ربيع الآخِر: سمي بذلك لأنَّ تسميته جاءَتْ في الربيع أيضًا، فلزمه ذلك الاسم، ويُقال فيه: "ربيع الآخِر" ولا يُقال: "ربيع الثاني"؛ لأن الثاني تُوحي بوجود ثالث؛ إذ يستعمل الثاني فيما يليه ثالث ورابع... و"الآخِر" فيما لا يتبعه شيء، ولهذا قيل في صفاته - تعالى -: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ﴾ [الحديد: 3]، ولم يقل: والثاني؛ لأنَّه ليس بعده - تعالى - شيءٌ، وعلى هذا يتبيَّن خطَأُ ما هو شائع في لغة الإعلام من قولهم: ربيع الثاني، وجمادى الثانية، ويتبيَّن أنَّ الصواب: ربيع الآخِر، وجمادى الآخِرة[12].
جُمادَى الأولى: سُمِّي بذلك لأنَّ تسميته جاءَتْ في الشتاء حيث يتجمَّد الماء؛ فلَزِمه ذلك الاسم، وجُمادَى: اسمٌ للشهرين: الخامس والسادس من شهور السنة القمرِيَّة، وهما: جمادى الأولى وجمادى الآخِرة، قال أُحَيحةُ بن الجُلاح:
إِذَا جُمَادَى مَنَعَتْ قَطْرَهَا -- زَانَ جَنَابِي عَطَنٌ مُغْضِفُ
والعرب تَعُدُّ جمادَى من أزمان القحْط والضر؛ قال المتوكِّل اللَّيْثِى، يمدح:
فَإِنْ يَسْأَلِ اللهُ الشُّهُورَ شَهَادَةً --- تُنَبِّئْ جُمَادَى عَنْكُمُ وَالْمُحَرَّمُ
ويقال: ظلَّت العين جمادى؛ أي: جامدة لا تدمع، وفى اللسان؛ قال الشاعِر:
مَنْ يَطْعَمِ النَّوْمَ أَوْ يَبِتْ جَذِلاً --- فالعَيْنُ مِنِّي لِلْهَمِّ لَمْ تَنَمِ تَرْعَى جُمَادَى النَّهَارَ خَاشِعَةً --- وَاللَّيْلُ مِنْهَا بِوَادِقٍ سَجِمِ[13]
وقال ابن شميل: الجمد قارة ليست بطويلة في السماء، وهي غليظةٌ تغلظ مرَّة وتلين أخرى، تنبت الشجر، ولا تكون إلاَّ في أرض غليظة، سميت جمدًا من جمودها؛ أي: من يبسها، والجمد أصغر الآكام، يكون مستديرًا صغيرًا، والقارة مستديرة طويلة في السماء[14].
جمادى الآخِرة: سُمِّي بذلك لأنَّ تسميته جاءَتْ في الشتاء أيضًا؛ فلزمه ذلك الاسم، ويُقال فيه: "جمادى الآخِرة"، ولا يُقال: "جمادى الثانية"؛ لأنَّ الثانية تُوحِي بوجود ثالثة، بينما يُوجَد جُماديان فقط.
رجب: سُمِّي بذلك لأنَّ العرب كانوا يُعظِّمونه بترك القِتال فيه، يُقال: رجب الشيءَ؛ أي: هابَه وعظَّمَه، قال أبو بكر: قال اللغويون: إنما سُمِّي رجب رجبًا لتَعظِيم العرب له في الجاهليَّة، من قولهم: رَجَبت الرجل أَرجُبُه رِجبًا، إذا أفزَعته، قال الشاعر:
إِذَا العَجُوزُ اسْتَنْخَبَتْ فَانْخَبْهَا --- وَلاَ تَهَيَّبْهَا وَلاَ تَرْجَبْهَا[15]
فإذا ضمُّوا إليه شَعبان فهما الرَّجَبانِ، والجمع أرجاب، والترجيب أيضًا: أنْ تدعم الشجرة إذا كَثُرَ حملها؛ لئلاَّ تنكسر أغصانها، قال الحباب بن المنذر: "أنا عُذَيقها المُرجب"، وربما بنى لها جدارًا تعتمد عليه لضعفها، والاسم: الرجبة، والجمع: رجب، مثل: ركبة وركب، والرجبية من النخل: منسوبة إليه، قال الشاعر:
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلاَ رُجَّبِيَّةٍ --- وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ[16]
ومنه ترجيب العتيرة، وهو ذبحها في رجب، يقال: هذه أيَّام ترجيب وتعتار، وكانت العربُ تُرَجِّبُ، وكان ذلك لهم نُسُكًا وذبائِحَ في رَجَبٍ، والرَّجبُ: الحياء والعفوُ، قال: فغيرك يستحيي وغيرك يَرجبُ، وتقول: رَجِبتُه؛ أي: خِبتُه مرجبًا ومَهابًا[17].
شعبان: سُمِّي بذلك لأنَّ العرب كانت تتشعَّب فيه - أي: تتفرَّق - للحرب والإغارة، بعد قعودهم في شهر رجب.
ويشاعب: يفارق؛ أي: يفارقه، وانشَعَب عني فلان: تَباعَد، شعبه يشعبه شعبًا فانشعب: انصَلَح[18].
وشعبان شهرٌ بين رجب ورمضان، جمعه: شعبانات وشعابين، كرمضان ورماضين، ووجه التسمية من تشعَّب إذا تفرَّق كانوا يتشعَّبون فيه في طلب المياه، وقيل: في الغارات.
وقال ثعلب: قال بعضهم: إنما سُمِّي شعبان شعبانًا لأنَّه شعب - أي: ظهر - بين شهري رمضان ورجب، كانشعب الطريق إذا تفرَّق، وكذلك أغصان الشجرة، وانشعب النهر وتشعَّب: تفرَّقت منه أنهار، والزرع يكون على ورقه ثم يشعب، وشعب الزرع وتشعَّب: صار ذا شعب؛ أي: فرق.
قال الأزهري: وسماعي من العرب عصا في رأسها شعبان، بغير تاء، كذا قاله ابن منظور، وفي "الأساس": قبيلةٌ بالشام، وفي "لسان العرب": شعبان: بطنٌ من همدان تشعب من اليمن، إليهم يُنسَب عامر الشعبي على طرح الزائد، وقد تقدَّم أنَّ مَن نزل الشام من ولد حسان بن عمرو الحميري يُقال لهم: الشعبانيون[19].
رمضان: سُمِّي بذلك اشتقاقًا من الرمضاء؛ حيث كانت الفترة التي سُمِّي فيها شديدة الحر.
رَمَضَانَ: مفرد؛ جمعه: رَمَضانات ورَمَضانُون وأرْمِضَةٌ، وأرْمُضٌ شاذٌّ، سُمِّي به لأنهم لَمَّا نقَلُوا أسماء الشُّهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقَعت فيها، فوافَق "ناتِقٌ" زمن الحر والرَّمَضِ، أو من رَمض الصائم: اشتدَّ حرُّ جوفِه، أو لأنَّه يحرق الذنوبَ، والرَّمَضِيُّ محرَّكةً من السحابِ والمطر: ما كان في آخِر الصَّيف وأوَّل الخريف، وأرْمَضَه: أوجَعَه وأحرَقَه، والحرُّ القومَ: اشتدَّ عليهم فآذاهم، ورَمَّضته تَرْميضًا: انتظرتُه شيئًا قليلاً ثم مَضَيْتُ، والصوم: نَوَيْتُه[20].
شوال: سُمِّي بذلك لأنَّه تسمَّى في فترة تشوَّلت فيها ألبانُ الإبل، والشَّول من الإبل: التي قد ارتَفعَتْ ألبانها، الواحدة شائل، واللواتي لقِحَتْ فرفعَتْ أذنابَها، والواحدة شائلة، قال الراجز:
كَأَنَّ فِي أَذْنَابِهِنَّ الشُّوَّلِ --- مِنْ عَبَسِ الصَّيْفِ قُرُونَ الإِيَّلِ
والشَّولة: نجمٌ من نجوم السَّماء، ومنه اشتقاق شَوَّال؛ لأنَّه كان في أيَّام الصَّيفِ، شالَتْ فيه الإبلُ بأذنابها، فسُمِّي بذلك[21].
ذو القعدة: ذو القعدة بالفتح والكسر سُمِّي بذلك لأنَّ العرب قعدت فيه عن القِتال تعظيمًا له، وقيل: لقعودهم فيه عن رحالهم وأوطانهم[22].
قَعَدَ (يَقْعُدُ) (قُعُودًا) و(القَعْدَةُ) بالفتح المرَّة وبالكسر هيئة نحو (قَعَدَ) (قِعْدَةً) خفيفة، والفاعل (قَاعِدٌ)، والجمع (قُعُودٌ)، والمرأة (قَاعِدَةٌ)، والجمع (قَوَاعِدُ) و(قَاعِداتُ)، ويتعدَّى بالهمزة فيقال (أَقعَدته) و(المَقعَد) بفتح الميم والعين موضع القعود، ومنه (مَقَاعِدُ) الأسواق، وهو الزمن أيضًا، و(ذو القَعْدَةِ) بفتح القاف والكسْر لغة شهرٌ، والجمع (ذوات القَعْدَةِ) و(ذوات القَعَدَاتِ)، والتثنية (ذواتا القَعْدَةِ) و(ذواتا القعدتين) فثنوا الاسمين وجمعوهما وهو عزيزٌ؛ لأنَّ الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة ولا تَتوالَى على كلمة علامتا تثنيةٍ ولا جمع[23].
ذو الحجة: سُمِّي بذلك لأنَّ العرب عرَفَت الحجَّ في هذا الشهر، ذُو الْحِجَّةِ؛ من أشهر الحج، ونذر خمس حِجَجٍ، ومنه الحُجَّة لأنَّها تقصد وتُعتَمد، أَو بِها يُقصَد الحقُّ المطلوب، وقد حاجَّه فَحَجَّهُ؛ إذا غلَبَه في الحجَّة، وهو حَاجٌّ، وهو أحج منه والْمَحْجُوجُ المغلوب[24].
------------------------------------------------------- [1]"المفصل في تاريخ العرب"؛ جواد علي، ج15، ص297. [2]المرجع نفسه: ج15، ص 296. [3]"المزهر في علوم اللغة وأنواعها"؛ عبدالرحمن جلال الدين السيوطي، ج1، ص158، 159. [4]"المفصل في تاريخ العرب": ج15، ص303. [5] "تفسير الطبري"؛ ابن جرير الطبري. [6]"المفصل في تاريخ العرب": ج15، ص291. [7]المرجع نفسه: ج15، ص292. [8]المرجع نفسه: ج15، ص290. [9] "تفسير الطبري"؛ الطبري، سورة براءة. [10]"معجم المناهي اللفظية"؛ بكر أبو زيد، ج15، ص17، 18، 19، 20. [11]"الصحاح في اللغة"؛ الجوهري، ج1، ص238. - "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير"؛ أحمد الفيومي، ج1، ص216. - "المفصل في تاريخ العرب": ج15، ص275. [12]"أخطاء اللغة العربية المعاصرة"؛ أحمد مختار عمر، ص 131، 269. [13]"بحوث ودراسات في اللهجات العربية"؛ من إصدارات مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ج31، ص12. [14]"تاج العروس"؛ الزبيدي ج8، ص198. [15]"الزاهر في معاني كلمات الناس"؛ لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري، ج2، ص297. [16]"صحاح العربية"؛ للجوهري، ج1، ص339. [17]"العين"؛ للخليل بن أحمد، ج1، ص478 - "التوقيف على مهمات التعاريف"؛ للمناوي، ص 357. [18]"تاج العروس"؛ الزبيدي، ج4، ص37. [19]"تاج العروس"؛ للزبيدي، ج4، ص34. [20]"القاموس المحيط"؛ للفيروز آبادي، ص 831. - "صحاح العربية"؛ للجوهري، ج5، ص229. [21] "الاشتقاق"؛ لابن دريد، ص 135. - "العين"؛ للخليل بن أحمد، ج2، ص11. - "المحيط في اللغة"؛ ابن عباد، ج2، ص180. [22]"المطالع على أبواب الفقه"؛ محمد الحنبلي، ص 167. [23]"المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي"؛ لأحمد الفيومي، ج2، ص510. [24]"المغرب"؛ لأبي الفتح ناصر الدين المطرزي، ج1، ص440.
|