موقع الدكتور نجاح

موقعنا منارة فكرية تهدف إلى تفعيل القيم الإيجابية من خلال التوعية وتقديم البديل العملي للقيم السلبية

بسم الله الرحمن الرحيم

 بحث

"منهجية تطوير المنتجات المصرفية الإسلامية"

حالة

"التورق المصرفي المنظم"

إعداد: دكتور/ نجاح عبد العليم عبد الوهاب أبو الفتوح

جامعة اليرموك, كلية الشريعة والدراسات الإسلامية, شعبة الاقتصاد والمصارف الإسلامية

ملخص البحث

1.        يثير هذا البحث تساؤلا منهجيا هاما: من أين ينبغي أن ينطلق الاجتهاد لابتكار المنتجات المصرفية الإسلامية؟ هل يبدأ من الوفاء بمصالح معتبرة من حيث خدمتها لمقاصد الشريعة الإسلامية, أم يبدأ من تعقب وتقليد وتنقيح منتجات مصرفية في الاقتصاد التقليدي؟

2.        ورغم بداهة الإجابة على هذا التساؤل على المستوى النظري إلا أن واقع تطوير المنتجات المصرفية الإسلامية قد يوحي بإجابة غير صحيحة في بعض الحالات.

3.        ومن المعلوم أنه في نطاق المصلحة المعتبرة كانت الاجتهادات الفقهية لبعض قدامى الفقهاء الأكارم والتي من بينها إجازة ما عرف عند بعض فقهاء الحنابلة بالتورق .

4.        ولا ينبغي أن يغفل المجتهدون في تطوير المنتجات المالية الإسلامية عن ذلك فلدى ممارسة الاجتهاد, في هذا الصدد, , ينبغي أن تكون نقطة البدء وجود مصلحة معتبرة شرعا يتم تطوير المنتج المصرفي للوفاء بها.

5.        وهذا البحث يقدم تقويما لواقع "التورق المصرفي المنظم" ويرى أنه لا يخدم, كما تمارسه بعض المصارف الإسلامية, مصلحة معتبرة من خلال توفير النقد للمحتاجين له سواءً لأغراض الاستثمار أو الاستهلاك, ولأن هذه الحاجات, في الواقع, لا تستوفي ضوابط الضرورة أو الحاجة المعتبرة شرعا.

6.        فإذا ما كان التورق المصرفي لتمويل الاستثمار, وهو ليس كذلك في حالات كثيرة, فإن هناك بدائل مشروعة متفق على حِلِّها وخلوها من الشبهات مثل المشاركة والمضاربة وغيرهما, فضلا عن بدائل إسلامية أصيلة خارج نطاق المصرفية الإسلامية.

7.        وإذا كان التورق المصرفي لتمويل الاستهلاك, وهو واقع هذا التمويل في حالات كثيرة, فإنه يتم في الواقع مجاراة لأساليب تمويلية تقليدية لتمويل إنفاق تكتنفه شبهات مجاوزة الاعتدال والاستطاعة. كما أن هناك, فيما نرى, بدائل مشروعة للوفاء بالحاجات الاستهلاكية المعتبرة تغني عن اللجوء إلى هذا المنتج الذي ثارت حوله الشبهات. 

8.           وقي ضوء ما تقدم فإننا نرى أن يبذل الجهد في تفعيل المؤسسات الإسلامية الأصيلة وتفعيل الأساليب التمويلية المشروعة, وذلك بدلا من بذل هذا الجهد في ابتكار منتجات تدفع  المصرفية الإسلامية لتقتفي أثر المصرفية التقليدية في الحاجات والمنتجات والأهداف, ودونما مبرر من تحقيق مصالح معتبرة. 

 

 

 

 

 

 

 

 

بحث

"منهجية تطوير المنتجات المصرفية الإسلامية"

حالة

"التورق المصرفي المنظم"

البحث منشور في مجلة صالح كامل للاقتصاد الإسلامي, جامعة الأزهر الشريف, مصر , 2011م

مقدمة البحث

     تشمل هذه المقدمة تحديدا لموضوع البحث وأهميته والإضافة المرجوة منه, و ثبتا لتساؤلات البحث ومنهجه وخطته.

موضوع البحث وأهميته:

     يتحدد موضوع هذا البحث في دراسة "منهجية تطوير المنتجات المصرفية الإسلامية, "حالة "التورق المصرفي المنظم". ويهتم بالتأكيد على ضرورة الالتزام بنقطة البداية المنهجية في الاجتهاد الفقهي وهي المصلحة المعتبرة شرعا, ويتناول التورق المصرفي المنظم, الذي تم استحداثه من خلال تطوير صيغة للتورق الفردي أجازها جمهور الفقهاء, ليبحث مدى وجود مصلحة معتبرة تبرر ذلك.  ويؤكد البحث على أنه لا ينبغي أن يجرَّد اجتهاد الفقهاء في إباحة التورق الفردي من تصوره, فهذا الاجتهاد تم لتحقيق مصلحة معتبرة وفي إطار تصور معين لوقائع محددة, وربما كاستثناء وليس حكما عاما.

     وترجع أهمية هذا البحث إلى أهمية المصارف الإسلامية نفسها من حيث كونها مؤسسة تسهم في رعاية مقصد الشريعة في  الحفاظ على الأموال من خلال تحقيق العدل والإعمار والمساهمة في إنجاز مهام استخلاف المولى الكريم للإنسان على هذه الأرض. كما ترجع أهمية البحث أيضا إلى ضرورة تصويب توجه المصارف الإسلامية لتظل في نطاق مقاصد الشريعة, والابتعاد بها عن اقتفاء أثر المصرفية التقليدية التي ترتكز على أسس قيمية تختلف عن تلك الخاصة بالنظام الإسلامي.

الإضافة المرجوة للبحث:

     تتعدد الدراسات السابقة ذات الصلة بموضوع البحث والتي أسهبت  في تبيين المفاهيم الأساسية والفوارق بين التورق العادي (الذي أجازه جمهور الفقهاء) والتورق المصرفي المنظم ( كما تمارسه بعض المصارف الإسلامية), وكذا تتعدد الأبحاث التي بينت المخالفات الشرعية في هذا النوع الأخير من التورق ومآلاته على الاقتصاد عموما وعلى المصرفية الإسلامية على وجه الخصوص, وهذا بالإضافة إلى الأبحاث التي انتهت إلى إجازة التورق المصرفي المنظم. وما يرجى من إضافة في هذا البحث هو التذكير بضرورة البدء من البداية المنهجية الصحيحة والتي تسبق البحث في مشروعية بنية المنتج المصرفي  ومآلاته, ألا وهي ضرورة تمحيص الحاجات التي يرجى الوفاء  بها من خلال المنتج المقترح: فإذا كانت حاجات غير معتبرة, فإنه لا مجال أصلا للبحث في مشروعية بنية  المنتج ومآلاته. وفي ضوء هذه المنهجية يقدم البحث تقويما  للتورق المصرفي المنظم  من خلال تقويم الحاجات التي يزعم الوفاء بها.

 

 

 

 

تساؤلات البحث, ومنهجه, وخطته:

     يحاول هذا البحث تقديم إجابة علمية رصينة عن تساؤلين:

الأول: ما هي معالم نقطة البداية المنهجية لاستحداث منتجات مصرفية جديدة؟

والثاني: هل يستوفي التورق المصرفي المنظم المعايير الخاصة بنقطة البداية المنهجية في استحداث المنتجات المصرفية الإسلامية؟

     وينهج البحث في ذلك منهجا وصفيا لمقاصد الشريعة باعتبارها البداية المنهجية في الاجتهاد, و يقوم باستقصاء المفاهيم الفقهية للحاجات المعتبرة وضوابطها, وأهم ضوابط الإنفاق في الإسلام , واستخدام ذلك في تقويم أحد المنتجات المصرفية المستحدثة وهو "التورق المصرفي المنظم كما تمارسه بعض المصارف الإسلامية".

وعلى ذلك تم تقسيم خطة البحث إلى مبحثين:

المبحث الأول: معالم البداية المنهجية في الاجتهاد الفقهي.

المبحث الثاني: تقويم التمويل بالتورق في ضوء المقاصد الشرعية.

 

 

المبحث الأول

معالم البداية المنهجية في الاجتهاد الفقهي

المطلب الأول: ضرورة استحضار المقاصد الشرعية في الاجتهاد

     من المعلوم أن مراعاة المصالح ودرء المفاسد منهج المجتهدين على مر تاريخ الفقه[1], يقول الإمام ابن قيم الجوزية مبينا أهمية المقاصد الشرعية وما يحدثه ضرر غيابها في الاجتهاد" هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به, فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل"[2], ونص الإمام السبكي في قاعدته الخامسة  على أن " الأمور بمقاصدها " وقال " وأحسن من هذه العبارة قول من أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام " إنما الأعمال بالنيات"[3] ويقول الإمام الشاطبي "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة, وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل, مشروعا لمصلحة فيه تستجلب, أو لمفسدة تدرأ, ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه, وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها, فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية, وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد, فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب الورود إلا أنه عذب المذاق محمود الغب (العاقبة) جار على مقاصد الشريعة"[4].

     وقد أكد قرار المجمع الفقهي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي على ضرورة استحضار المقاصد الشرعية عند الاجتهاد, حيث جاء بقرار المجمع رقم 167(5/68):

"رابعا: أهمية استحضار المقاصد الشرعية في الاجتهاد.

خامسا: إن الإعمال الصحيح للمقاصد لا يعطل دلالة النصوص الشرعية والإجماعات الصحيحة.

سادسا: أهمية دراسة الأبعاد المختلفة لمقاصد الشريعة في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والتربوية.

سابعا: أثر استحضار مقاصد الشريعة في تنزيل الأحكام الشرعية على الواقعات والنوازل للمعاملات المالية المعاصرة وغيرها لتحقيق التميز في الصيغ والمنتجات الإسلامية واستقلالها عن الصيغ التقليدية.[5]

المطلب الثاني: المصلحة المعتبرة, ومراتبها

     يقول الإمام الغزالي" ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة"[6]

    ويؤكد الإمام الشاطبي  أن استقراء الشريعة يبين  أنها وضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل معا فيقول "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه الرازي ولا غيره فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل وهو الأصل ﭽ ﭾ  ﭿ  ﮀ  ﮁ  ﮂ   ﮃ  ﮄ  ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮈﮉ  ﮊ  ﮋ  ﮌ  ﮍ   ﮎ  ﭼ النساء: ١٦٥  ﭽ ﮐ  ﮑ  ﮒ         ﮓ  ﮔ       ﮕ  ﭼ الأنبياء: ١٠٧ وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى"[7]. ثم يبين الإمام الشاطبي أن  تكاليف الشريعة التي ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق تنقسم إلى  ثلاثة أقسام:

1. مقاصد ضرورية، بمعنى لزومها لقيام مصالح الدنيا على استقامة، وليس على فساد في الدنيا وخسران في الآخرة، ومجموع الضروريات خمسة وهى، حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل.

2. مقاصد حاجية، وهى ما يفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدى في الغالب إلى الحرج والمشقة، فيترتب على عدم مراعاتها أن يدخل المكلفين على الجملة الحرج والمشقة دون أن يبلغ ذلك مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة .

3. التحسينيات أو المقاصد التحسينية، وتعنى الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات على حد تعبير الإمام الشاطبي . والتحسينيات زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية، إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجى وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين .

     ويتبين من ذلك أن المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية، فإن اختل الضروري اختلالا مطلقا يختل كل من الحاجي والتحسيني اختلالا مطلقا أيضا، وينبغي المحافظة على الحاجي والتحسيني للضروري، لأن التحسين والحاجي مكملات للضروري قد يختل باختلالهما، فكلا منهما خادم للأصل الضروري ومحسِّن لصورته الخاصة، ومن ثم فهو أحرى بأن يتأدى به الضروري على أحسن حالاته فالحاجيات كالتتمة للضروريات، وكذلك التحسينيات كالتتمة  للحاجيات، فالضروريات هي أصل المصالح .

والحفظ لهذه الأقسام الثلاثة يكون بأمرين الأول ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها, أي مراعاتها من جانب الوجود, والثاني ما يبعد عنها كل اختلال واقع أو متوقع فيها. وتعتبر المصلحة والمفسدة شرعا من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية، ودليل ذلك أن الشريعة جاءت لتخرج المكلفين من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عباد الله، ودليل ذلك أيضا أن المنافع الحاصلة للمكلف تشوبها المضار عادة، ودليل ذلك ثالثا وأخيرا أن المنافع والمضار ليست عامة في جميع الناس أو كل الأوقات، فالمصالح والمفاسد إذن مشروعة أو ممنوعة لإقامة هذه الحياة الدنيا لا لنيل الشهوات، وقد جاء الشرع بما يقيم أمر الدنيا والآخرة معا وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة فليس بخارج عن كونه قاصدا لإقامة مصالح الدنيا[8] .

 المطلب الثالث: ضوابط الضرورة والحاجة

      من المعلوم أن هناك أحكاما أولية نظمتها الشريعة للأشياء في حد ذاتها وبغض النظر عن عوارضها, كما أن هناك أحكاما ثانوية تنتجها الظروف القاهرة كالاضطرار والإكراه والغرر والحرج, فهي أمور تطرأ على الأشياء فتبدل من أحكامها[9]. ويترتب على وجود الضرورة أو الحاجة إذا توافر مفهوم كل منهما بدقة رفع الإثم عن المضطر ومنح المضطر أو المحتاج العمل ببعض الرخص الشرعية لأن الضرورة أو الحاجة تقدر كل واحدة منهما بقدرها, وقد نص الزركشي في المنثور على أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس

, كما أن الحاجة الخاصة تبيح المحظور ومنه لبس الحرير لحاجة الحكة والجرب[10],  وإلى جانب ذلك ينبغي التنبيه على أن الرخصة تظل استثناءً على الأحكام الأولية  ولا ينبغي التعلق بالرخص الشرعية حتى يصير الاستثناء هو القاعدة[11].

 

      والفارق بين الضرورة والحاجة يكون من وجهين:

الأول: أن الضرورة مبنية على فعل ما لا بد منه للتخلص من المسؤولية ولا يسع الإنسان الترك. أما الحاجة فهي مبنية على التوسع فيما يسع الإنسان تركه.

والثاني: أن الأحكام الاستثنائية الثابتة بالضرورة هي غالبا إباحة مؤقتة لمحظور منصوص صراحة على منعه في الشريعة. أما الأحكام المبنية على الحاجة فهي في الغالب لا تصادم نصا صريحا وإنما أكثر ما ورد فيها من الأحكام الشرعية هو على خلاف القياس لبنائها على الحاجة فهي تخالف القواعد العامة لا النص ويكون الحكم الثابت بها غالبا له صفة الدوام والاستقرار يستفيد منه المحتاج وغيره.

 

ضوابط الضرورة:

1.     أن تكون الضرورة قائمة حالة لا منتظرة, أي تحصل في الواقع خوف الهلاك أو التلف على النفس أو المال ونحوهما بغلبة الظن بحسب التجربة أو بتحقق المرء من وجود خطر حقيقي على إحدى الضروريات الخمس أو الأصول الخمسة الكلية التي صانتها جميع الأديان والشرائع السماوية وهي الدين والنفس والعقل والنسب أو العرض أو المال.

2.     أن يتعين على المضطر مخالفة الأوامر أو النواهي الشرعية فلا يجد سبيلا إلا ذلك.

3.     أن تكون الضرورة ملجئة, بحيث يخشى على نفسه أو عضو من أعضائه التلف. وكما يقول الزركشي في الجائع " والضرورة بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب كالمضطر للأكل واللبس بحيث لو بقي جائعا أو عريانا لمات أو تلف منه عضو وهذا يبيح تناول المحرم"[12]

4.     ألا يخالف المضطر أصول الشريعة الأساسية من حفظ حقوق الآخرين والتزام العدل وأداء الأمانة ودفع الضرر وصون أصول العقيدة والمقدسات الإسلامية فلا يحل, مثلا, اقتراف الزنى حتى في بلد غير إسلامي بحجة الاضطرار.

5.     أن يقتصر فيما يباح تناوله للضرورة الحد الأدنى اللازم لدفع الضرر.

6.     أن يصف الحرام طبيب مسلم عادل ثقة في دينه وعلمه وألا يوجد علاج آخر مباح يحقق المطلوب. وهذا في ضرورة الدواء.

7.     أن يتحقق ولي الأمر في حالة الضرورة العامة من وجود ظلم فاحش أو ضرر واضح أو حرج شديد أو منفعة عامة بحيث تتعرض الدولة للخطر ما لم تأخذ بمقتضى الضرورة.[13]

وفي حالة الضرورة بضوابطها السابقة فإنه يؤخذ بالرخص.

 أنواع الحاجة وضوابطها:

     الحاجة نوعان عامة وخاصة:

العامة: هي أن الناس جميعا يحتاجون إليها فيما يمس مصالحهم العامة من زراعة وصناعة وتجارة وسياسة عادلة وحكم صالح.

والخاصة: هي أن يحتاج إليها فئة من الناس كأهل مدينة أو أرباب حرفة معينة أو يحتاج إليها فرد أو أفراد محصورون.

ضوابط الحاجة

1.   "أن تكون المشقة الباعثة على مخالفة الحكم الشرعي الأصلي أو العام بالغة مرتبة المشقة غير المعتادة أو غير المحتملة عادة. ومن المفيد أن نورد في هذا الصدد ما أورده الإمام الشاطبي من تعريف للمشقة الخارجة عن المعتاد يقول الإمام" إنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه أو إلى وقوع خلل في صاحبه, في نفسه أو ماله أو حال من أحواله فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد, وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة وإن سميت كلفة"[14]

2.   أن تكون الحاجة عامة للمجتمع أو لفئة من الناس كأهل مدينة أو أصحاب حرفة معينة أو جماعة محصورين, فلا تراعى الحاجة الشخصية البحتة لأن حوائج الناس متعددة.

3.   أن تراعى حالة الشخص المتوسط العادي بنظرة موضوعية وليس بمعيار الظروف الخاصة بشخص لأن التشريع يتصف بالتجرد والحياد والموضوعية ولا يصح أن يكون لكل فرد تشريع خاص به.

4.   أن تكون الحاجة متعينة: أي لا يكون هناك سبيل آخر من الأساليب المشروعة توصل إلى الغرض المقصود سوى مخالفة الحكم العام وإلا فإن الحاجة للمخالفة لا تكون متوفرة في الواقع.

5.   أن تقدر الحاجة بقدر المطلوب فلا تزيد عنه لأن القاعدة الشرعية تقرر " الحاجة تقدر بقدرها" أي كالضرورة تماما. فإذا انطفأت الحاجة بحد معين فلا يجوز تجاوزها إلى أكثر منها"[15].

 

 

المطلب الرابع: الحاجة  والاعتدال في الإنفاق

     يثار التساؤل عن علاقة الإنفاق على الحاجة بالاستطاعة, فإذا كان الإنفاق منوطا بالاستطاعة  فهل هذه الاستطاعة من الوُجْد أم من الدين أيضا؟

     فإذا كانت الحاجة المشروعة هي لتحقيق الكفاية  فإن حد الكفاية, كما يراه الكاتب، يتحدد مقداره بما يكفى الوفاء المعتدل بالحاجات بمستوياتها الثلاثة من ضروريات وحاجيات وتحسينيات، وهذا الاعتدال يتحدد في ضوء الدخل المتاح للفرد إن كان يحقق كفايته بنفسه،   فإن كان يحقق كفايته بنفسه وطرأ عليها طارئ انتقص منها فله كفاية الأمثال ، وأخيرا فإن كان  لا يحقق كفايته بنفسه فله كفاية الأوساط.[16]

      ويشرط الاعتدال بشروط من أهمها:[17]

 أولا: أن يكون الإنفاق في طاعة الله : يقول الإمام الغزالي " المال خلق لحكمة  ومقصود، وهو صلاحه لحاجات الخلق، ويمكن إمساكه عن الصرف إلى ما خلق للصرف إليه، ويمكن بذله بالصرف إلى ما لا يحسن الصرف إليه، ويمكن التصرف فيه بالعدل، وهو أن يحفظ حيث يجب الحفظ، ويبذل حيث يجب البذل، فالإمساك حيث يجب البذل بخل، والبذل حيث يجب الإمساك   تبذير، وبينهما وسط وهو المحمود. [18] ويقول الإمام الشاطبي إنه يطلب " قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل". [19] ويقول سفيان " ما أنفقت في غير طاعة الله سرف وإن كان قليلا [20] وقال الحسن البصري " ليس في النفقة في سبيل الله سرف.[21]

 

     ثانيا: أن يكون الإنفاق في حدود الاستطاعة: والاستطاعة في اللّغة : القدرة على الشّيء. والقدرة : هي صفةٌ بها إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل . وهي عند الفقهاء كذلك ، فهم يقولون مثلاً : الاستطاعة شرطٌ لوجوب الحجّ .... واتّفق الفقهاء على أنّ الاستطاعة شرطٌ للتّكليف، فلا يجوز التّكليف بما لا يستطاع عادةً، دلّ على ذلك كثيرٌ من نصوص القرآن والسّنّة....[22], يقول تعالى في كتابه العزيز في صفات المتقين ، ﭽ ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ   ﭢ  ﭣ  ﭤ  ﭥ  ﭼ البقرة: ٣ , ويقول تعالى ﭽ ﭶ  ﭷ  ﭸ    ﭹ  ﭺﭻ   ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ  ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃﮄ  ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮈ   ﮉ      ﮊ  ﮋﮌ  ﮍ  ﮎ  ﮏ  ﮐ  ﮑ    ﮒ  ﭼ الطلاق: ٧ ، ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية " قال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير . . . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة نفر كان لأحدهم عشرة دنانير فتصدق منها بدينار وكان لآخر عشر أواق فتصدق منها  بأوقية وكان لآخر مائة أوقية فتصدق منها بعشر  أواق ،  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم في الأجر سواء كل قد تصدق بعشر ماله قال الله ﭽ ﭶ  ﭷ  ﭸ    ﭹ  ﭺ ﭼ ﭻ   [23]، وقال الإمام مالك في موطئه "... قال عمر بن الخطاب " إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم[24]" .

ثالثا: أن يكون الإنفاق بالمعروف: يقول الإمام الشاطبي " التوسط يعرف بالشرع وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف والإقتار في النفقات"  [25] ويقول " هذا وليس في الإسراف حد يوقف دونه كما في الإقتار، فيكون التوسط راجعا إلى الاجتهاد من الطرفين، فيرى الإنسان بعض المباحات بالنسبة إلى حاله داخلة تحت الإسراف فيتركه لذلك، ويظن من رآه ممن ليس ذلك إسرافا في حقه، أنه تارك للمباح ولا يكون كما ظنه فكل أحد فيه فقيه نفسه.  والحاصل أن النفقة في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك مطلوب، وهو شرط من شروط تناول المباح" [26] , ويقول الإمام الغزالي لدى بيانه لما يجب بذله من المال  " أن الواجب قسمان ، واجب بالشرع وواجب بالمروءة والعادة، والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع  ولا واجب المروءة، فإن منع واحدا منهما فهو بخيل، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل" [27] .فالاعتدال, إذن, كل إنسان فيه فقيه نفسه غير أنه لا يستقل عن العرف الصحيح لاعتدال الأمثال.

 رابعا,وأخيرا: أن يراعى في الإنفاق الالتزام بالأولويات : ويكون ذلك من ناحيتين:  الناحية الأولى، رعاية الأولويات في توزيع الدخل بين أوجه الإنفاق،, وذلك بأن يراعى الإنفاق على الضروري، أولا، فالحاجي فالتحسيني . والناحية الثانية، رعاية الأولويات فيما يتعلق بمن ينفق عليهم الفرد، وذلك بأن يبدأ بنفسه ومن يعول ثم أصحاب النفقات الواجبة ثم عموم في سبيل الله.

     وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الاعتدال بالنسبة للإنفاق لا ينصرف فقط إلى مقدار الإنفاق وإنما ينصرف أيضا إلى وقت الإنفاق:  بمعنى أنه إذا كان الفرد ينفق على شراء طعامه مثلا، فهل يشترى للوفاء بحاجته الآن فقط أم لمدة أسبوع أم لأي مدة أخرى، وبعبارة أخرى، ما هي الفترة الزمنية التي يشترى الطعام ليفي بحاجته خلالها ؟ . يقول الإمام الغزالي في ذلك، أي في ادخار الطعام، أن ثمة ثلاث درجات أولها أن لا يدخر إلا ليومه وليلته، وهى درجة الصديقين، والثانية أن يدخر لأربعين يوما . . . والثالثة أن يدخر لسنته وهى أقصى المراتب، وهى رتبة الصالحين، ومن زاد في الادخار على هذا فهو واقع في غمار العموم خارج عن حيز الخصوص بالكلية . . . وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم نساءه على مثل هذه الأقسام فبعضهن كان يعطيها قوت سنة عند حصول ما يحصل ، وبعضهن قوت أربعين يوما، وبعضهن يوما وليلة وهو قسم عائشة وحفصة.

المطلب الخامس: الإنفاق من الوُجْد

     إذا كانت الكفاية تتحدد في إطار الاعتدال والاعتدال يتحدد في نطاق  الاستطاعة يثار التساؤل هل استطاعة المسلم تتحدد في ضوء الوجد أم الدين؟ نحن نرى أن الاستطاعة تكون من الوُجْد لا من الدين اللهم إلا بالنسبة للضروريات وذلك حال عدم تيسر الوفاء بها من مصادر مشروعة أخرى وعلى رأسها الزكاة والنفقات الواجبة وبذل الفضل والقرض الحسن وغيرها من المؤسسات التوزيعية الإسلامية. يقول تعالى في كتابه العزيز ﭽ ﭑ  ﭒ  ﭓ  ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ     ﭘ  ﭙ     ﭚﭛ  ﭜ  ﭝ            ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ  ﭣ  ﭤﭥ   ﭦ  ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪﭫ  ﭬ  ﭭ  ﭮﭯ  ﭰ    ﭱ  ﭲ  ﭳ  ﭴ  ﭵ  ﭼ الطلاق: ٦: وجاء في تفسير القرطبي لهذه الآية الكريمة: "قَوْله تَعَالَى : " مِنْ وُجْدكُمْ " أَيْ مِنْ سَعَتكُمْ ; يُقَال وَجَدْت فِي الْمَال أَجِد وُجْدًا وَوَجْدًا وَوِجْدًا وَجِدَة . وَالْوِجْد : الْغِنَى وَالْمَقْدِرَة . وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِضَمِّ الْوَاو . وَقَرَأَ الْأَعْرَج وَالزُّهْرِيّ بِفَتْحِهَا , وَيَعْقُوب بِكَسْرِهَا . وَكُلّهَا لُغَات فِيهَا"[28]

     وجاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية الكريمة نفسها:  "يَقُول تَعَالَى آمِرًا عِبَاده إِذَا طَلَّقَ أَحَدهمْ الْمَرْأَة أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَنْزِل حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتُهَا فَقَالَ " أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ " أَيْ عِنْدكُمْ " مِنْ وُجْدِكُمْ " قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْر وَاحِد يَعْنِي سِعَتِكُمْ حَتَّى قَالَ قَتَادَة إِنْ لَمْ تَجِد إِلَّا جَنْب بَيْتك فَأَسْكِنْهَا فِيهِ "[29].

      ويقول جل شأنه ﭽ ﭶ  ﭷ  ﭸ    ﭹ  ﭺﭻ   ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ  ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃﮄ  ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮈ   ﮉ      ﮊ  ﮋﮌ  ﮍ  ﮎ  ﮏ  ﮐ  ﮑ    ﮒ  ﭼ الطلاق: ٧ , وجاء في تفسير الطبري " عَنْ السُّدِّيّ { لِيُنْفِق ذُو سَعَة مِنْ سَعَته } قَالَ : مِنْ سَعَة مُوجَده, وكذلك فقد " سَأَلَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , عَنْ أَبِي عُبَيْدَة , فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ يَلْبَس الْغَلِيظ مِنْ الثِّيَاب , وَيَأْكُل أَخْشَن الطَّعَام , فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَار , وَقَالَ لِلرَّسُولِ : اُنْظُرْ مَا يَصْنَع إِذَا هُوَ أَخَذَهَا , فَمَا لَبِثَ أَنْ لَبِسَ أَلْيَن الثِّيَاب , وَأَكَلَ أَطْيَب الطَّعَام , فَجَاءَ الرَّسُول فَأَخْبَرَهُ , فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّه : تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَة ﭽ ﭶ  ﭷ  ﭸ    ﭹ  ﭺﭻ   ﭼ  ﭽ  ﭾ  ﭿ  ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﮃﮄ....    ﮒ  ﭼ الطلاق: ٧[30]   , وجاء في تفسير ابن كثير " وَقَوْله تَعَالَى" لِيُنْفِق ذُو سَعَة مِنْ سَعَته " أَيْ لِيُنْفِق عَلَى الْمَوْلُود وَالِده أَوْ وَلِيّه بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ " وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقه فَلْيُنْفِق مِمَّا آتَاهُ اللَّه لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا " كَقَوْلِهِ تَعَالَى " لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا"[31]

    كذلك فإن شرط تحقّق الاستطاعة : وجودها حقيقةً لا حكماً. ومعنى وجودها حقيقةً وجود القدرة على الفعل من غير تعسّرٍ ، ومعنى وجودها حكماً القدرة على الأداء بتعسّرٍ. ويشترط توفر الاستطاعة المالية فيما يلي :

أوّلاً : في أداء الواجبات الماليّة المحضة ، كالزّكاة ، وصدقة الفطر ، والهدي في الحجّ ، والنّفقة ، والجزية ، والكفّارات الماليّة ، والنّذر الماليّ ، والكفالة بالمال ، ونحو ذلك .

ثانياً : في الواجبات البدنيّة الّتي يتوقّف القيام بها على الاستطاعة الماليّة ، كقدرة فاقد الماء على شرائه بثمن المثل للوضوء أو الغسل ، وقدرة فاقد ما يستر به عورته على شراء ثوبٍ بثمن المثل ليصلّي فيه ، وقدرة مريد الحجّ على توفير الزّاد والرّاحلة ونفقة العيال.[32]

     وقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على الميت عليه دين ولا  مال له[33], وجاء بالمنتقى, شرح موطأ مالك "ما ثبت أن أحدا من الأئمة قضى دين من مات وعليه دين من بيت مال المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم", كما روي أن الشهيد يغفر له إلا الدين[34]. وهل يستطيع المرء أن يجزم بمال يأتيه في المستقبل؟, وهل يضمن بقاء نفسه حيا إلى أن يسدد دينه؟ .

 

                                              المبحث الثاني

تقويم التمويل بالتورق في ضوء المقاصد الشرعية

المطلب الأول: التورق الحقيقي والتورق المصرفي المنظم:

1.    التورق الحقيقي يتم في صورة أجازها جمهور الفقهاء, وبينها قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة  حيث جاء به " :  أن بيع التورُّق: هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه، بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع، للحصول على النقد (الورق)"  و "جواز هذا البيع مشروط، بأن لا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول، لا مباشرة ولا بالواسطة، فإن فعل فقد وقعا في بيع العينة، المحرم شرعاً، لاشتماله على حيلة الربا فصار عقداً محرماً" , "ويقتصر القول بجوازه على حال الضرورة القصوى، أو النادرة، لتحقيق حاجة طارئة من وفاء دين أو إبرام زواج ونحو ذلك، لأن ما كان تحريمه تحريم الوسائل جاز للضرورة، وهذا يتفق مع ما أجازه جماعة من الفقهاء، وهذا التورق حيث لا تحيُّل على الربا"[35].

2.   وأما التورق المصرفي المنظم فصورته العامة  بينها قرار المجمع الفقهي نفسه في دورته السابعة عشرة حيث جاء به "تبين للمجلس أن التورق الذي تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر هو : قيـام المصرف بعمل نمطي يتم فيه ترتيب بيع سلعة ( ليست من الذهب أو الفضة ) من أسواق السلع العالمية أو غيرها ، على المستورق بثمن آجل ، على أن يلتزم المصرف – إما بشرط في العقد أو بحكم العرف والعادة – بأن ينوب عنه في بيعها على مشتر آخر بثمن حاضر ، وتسليم ثمنها للمستورق"[36].

المطلب الثاني: الحاجات التي تمول بالتورق المصرفي المنظم

     هذه الحاجات نوعان رئيسان: الأول الحاجة للتمويل لسداد دين والثاني حاجات استثمارية واستهلاكية تندرج ضمن ما يعرف بالتمويل الشخصي.

وفيما يتعلق بالحاجة للتمويل لسداد دين, في هذه الحالة فإن سداد الدين القائم يكون عن طريق دين جديد للبنك الذي يقدم التمويل من خلال عملية التورق, وكما يرى البعض, بحق, فإن ذلك هو في الحقيقة إعادة جدولة للدين مع زيادة الفوائد متمثلة في الفارق الموجب بين سعر شراء المستورق للسلعة بالأجل و سعر البيع العاجل لها[37].

     ولا شك أن الإسلام يؤكد على أهمية سداد الديون, غير أن استخدام التورق المصرفي المنظم لن يحقق هذا الغرض على نحو نهائي لأنه يسهم في سداد دين ولكن من خلال دين جديد وبوسيلة تكتنفها محظورات شرعية. كما أن الحاجة للتمويل بالتورق لهذا الغرض تفتقد ضابطا هاما من ضوابط الحاجة المعتبرة وهو " أن تكون الحاجة متعينة: أي لا يكون هناك سبيل آخر من الأساليب المشروعة توصل إلى الغرض المقصود سوى مخالفة الحكم العام وإلا فإن الحاجة للمخالفة لا تكون متوفرة في الواقع". وبداية إذا كان هذا المدين مليئا فينبغي أن يسدد من سعته وإذا كان معسرا فيندب أن ينظره الدائن إلى حين ميسرة أو أن يتصدق عليه, كما أن الغارمين لهم سهم في زكاة الأموال.

 

وفيما يتعلق بالحاجات الاستهلاكية: فإن المفترض ألا تثور مشكلة  الحاجات الاستهلاكية أصلا بالنسبة لمن يحصلون على كفايتهم أو يكملونها من الزكاة والمؤسسات التوزيعية الأخرى.  وتنحصر المشكلة في نطاق من يحققون كفايتهم بأنفسهم, وحد الكفاية كما ذكرنا يكون في إطار الاعتدال والاعتدال يكون في إطار الاستطاعة والاستطاعة, فيما نرى, هي من الوجد لا من الدين الذي قد يمتد أجل سداده إلى ثمان سنوات, مثلما هو واقع التورق في بعض المصارف السعودية, التي عمدت إلى نقل التورق من السلع الدولية إلى السلع المحلية لتفادي بعض المحظورات الشرعية سيما صورية التعامل على السلعة الدولية في عملية التورق.  فعل ذلك البنك العربي الوطني بالمملكة العربية السعودية بالتعاون مع مجموعة عبد اللطيف ومحمد الفوزان وهي من أكبر البيوت الاستثمارية المتخصصة في مواد البناء. ويستفيد من هذا البرنامج للتورق موظفو القطاعين العام والحكومي والخاص. وتصل قيمة القرض إلى مليون ريال في غالب المصارف وبفترة سداد تصل إلى 96 شهرا[38]. كما أن هذه الحاجة إلى منزل فاخر, والحاجات الحاجية والتحسينية على وجه العموم, لا تستوفي أحكام الضرورة التي سبق ذكرها كما أنها تفتقد, على الأقل, أحد ضوابط الحاجات المعتبرة وهو "أن تكون المشقة الباعثة على مخالفة الحكم الشرعي الأصلي أو العام بالغة مرتبة المشقة غير المعتادة أو غير المحتملة عادة". وكذلك  فإنها قد تفتقد في أحوال أخرى ضابطا آخر من ضوابط الحاجة المعتبرة وهو  "أن تراعى حالة الشخص المتوسط العادي بنظرة موضوعية وليس بمعيار الظروف الخاصة بشخص لأن التشريع يتصف بالتجرد والحياد والموضوعية ولا يصح أن يكون لكل فرد تشريع خاص به". وربما يكون من المفيد, بهذا الخصوص, أن نورد رأي السادة المالكية فيما يتعلق بالغارم لمصلحة نفسه الذي يأخذ من الزكاة حيث اشترطوا لذلك " أن لا يكون قد استدان ليأخذ من الزّكاة ، كأن يكون عنده ما يكفيه وتوسّع في الإنفاق بالدّين لأجل أن يأخذ منها ، بخلاف فقيرٍ استدان للضّرورة ناويًا الأخذ منها"[39] "وعدّ الشّافعيّة الإسراف في النّفقة من باب المعصية الّتي تمنع الإعطاء من الزّكاة"[40]

text-justify: kashida; text-align: justify; line-height: normal; text-kashida: 0%; margin: 0cm 0c

  • Currently 16/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 941 مشاهدة
نشرت فى 24 يونيو 2011 بواسطة islamicvaluessociety

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

15,226