د.ايمان مهران

أعمال تهتم بالإبداع والمبدع والتواصل الإنساني عن طريق الفن

 

 

 

قصة النشيد الوطنى المصرى

نشيد (بلادى – بلادى)

 

الشيخ يونس القاضى هو المؤلف للنشيد الوطنى (بلادى .. بلادى)

فى البداية أشير إلى أن الشيخ محمد يونس القاضى خرج من عباءة مصطفى كامل سواء من خلال العمل الصحفى أو من خلال إنشاءه لجمعيات الخطابة وسط الجماهير العامة.. كما نؤكد على أن بعض مسرحياته من وحى خطب الزعيم الذى كان يمثل المثل الأعلى لشباب هذا الجيل..

وهو ما يضعنا أمام حقيقة أن بلادى.. بلادى ليست أول استلهاماته من خطب الزعيم..

ولكن هذا الدليل المنطقى نؤكده بدليل مادى وقانونى حصل بموجبه يونس القاضى على حق الأداء من جمعية المؤلفين والملحنين ..

لقد قام الشيخ محمد يونس القاضى بتسجيل هذه الأغنية وغيرها [(12) طقطوقة وموالين] فى المحكمة المختلطة بالقاهرة(*) وكان ذلك فى تاريخ 26/يناير/1923.. وكان السبب لتسجيل هذه المؤلفات هى إنشـاء جمعية المؤلفين والملحنين واتفاقها مع جمعية الناشرين فى باريس مما جعل مؤلفى وملحنى الأغانى يجمعون إنتاجهم ليسجل فى الجمعية بعد ذلك.. وكان التوثيق فى المحكمة هو وثيقة الملكية التى استند لها الشيخ يونس وأبناءه من بعده حيث يحصلون على حق الأداء العلنى عن هذه الأغانى ومنها نشيد بلادى.. بلادى.

لقد غنت أغنية بلادى.. بلادى [الست تودد] وهى مسجلة فى شركة ميشيان برقم 923.

كما غناها الأستاذ/ محمد بهجت وهى مسجلة فى شركة ميشيان برقم 942.

أما الملحن لهذه الأغنية فهو الشيخ / سيد درويش.

وترجع مناسبة تأليف النشيد عودة الزعيم/سعد زغلول من المنفى وكان أكثر الأناشيد الوطنية شهرة عام 1923م.

اشترت السيدة/ فايدة كامل الأغنية من أسرة الشيخ/ يونس القاضى فى بداية السبعينات..

أما الأستاذ محمد عبد الوهاب فقد اختاره ليكون النشيد الوطنى المصرى فى أواخـر السبعينات عام 1978 وعقب توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل فى كامب ديفيد ليصبح بعدها النشيد الرسمى للبلاد.


ألقى الزعيم الوطنى (مصطفى كامل) فى 22/10/1907م خطبة تاريخية وهى واحدة من أشهر خطبه والتى استلهم منها الشيخ يونس القاضى كلمات نشيد مصر القومى، كلمات الخطبة الأساسية هى :

بلادى .. بلادى،
لك حبى وفؤادى،
لك حياتى ووجودى،
لك دمى ونفسى،
لك عقلى ولسانى،
لك حبى وحياتى،
فأنت أنت الحياة،
ولا حياة إلا بك،
يا مصر..

أما نظم الشيخ محمد يونس القاضى والذى عودنا الاستلهام من خطب الزعيم فقد جاء:

بلادى .. بلادى
مصر يا ست البلاد
وعلى كل العباد
مصر يا أرض النعيم
مقصدى دفع الغريم
مصر أولادك كرام
سوف تحظى بالمرام
مصر أنت أغلى درة
يا بلادى عيشـى حـرة

 

لك حبى وفؤادى
أنت غايتى والمراد
كم لنيلك من أيادى
سدت بالمجد القديم
وعلى الله اعتمادى
أوفياء يرعوا الزمام
باتحادهم واتحادى
فوق جبين الدهر غرة
واسعدى رغم الأعـادى

 


 

كتب الأستاذ حسين عثمان([1]) (الفخر والزهو والإعجاب الذى انطبع به إحساس كل مصرى وهو يستمع إلى السلام الوطنى المأخوذ عن نشيد "بلادى بلادى" بعد أن أعاد توزيعه الموسيقار محمد عبد الوهاب عن لحن خالد الذكر سيد درويش، هذا الشعور جعل الكثيرين يتساءلون عن مؤلف كلمات هذا النشيد.. فقد طغى اسم سيد درويش الملحن على اسم المؤلف حتى أن الكثيرين من الكتاب نسبوا تأليفه إلى سيد درويش نفسه، والحقيقة أن مؤلفه هو المرحوم محمد يونس القاضى الذى كان فى مطلع هذا القرن حتى الثلاثينات أشهر مؤلف مسرحى وغنائى، وقد عاصر أمجاد سلامة حجازى ومنيرة المهدية وكامل الخلعى وسيد درويش وأم كلثوم وغيرهم من نجوم الغناء والمسرح فى ثلاثينات هذا القرن.. وقد ألف هذا النشيد فى سنة 1920، وكان الرأى العام المصرى كله مشحونا ضد الإنجليز، الذين نفوا الزعيـم سعد زغلول، فكان الشعب يتظاهر فى الشوارع وهم يهتفون ضد الإنجليـز والاستعمار، ورأى سيد درويش أن يترجم هذه المظاهرات والهتافات فى نشيد واحد يردده الجميع، فاقترح على صديقه يونس القاضى أن يؤلف كلمات مناسبة.. وفكر يونس القاضى فى أن يستلهم من أقوال الزعيم مصطفى كامل مطلعا لهذا النشيد، فاختار إحدى خطب مصطفى كامل التى كان يردد فيها كلمة "بلادى بلادى".!

وقد روى القاضى لى أنا وبعض الزملاء حكاية نشيد "بلادى بلادى" .. وكان السبب الذى من أجله روى حكاية هذا النشيد، أن مؤلفى الأغانى وملحنيها بدءوا يجمعـون إنتاجهم الأدبى والفنى لتسجيله فى جمعية المؤلفين والملحنين، بعد إنشائها واتفاقـها مع جمعية الناشرين فى باريس، وقال خلال حديثه أنه سجل هذا النشيد مع عشرة أناشيد وأغنيات أخرى فى المحكمة المختلطة، فلم تكن هناك جمعية للمؤلفين والملحنين..!!

ومضت سنوات.. والتقيت بالأستاذ يونس القاضى يسير فى الشارع شارد  الذهن وقد ظهرت على وجهه علامات الغضب، وكنت أحمل له تقديرا كبيرا، فسألته عن سر غضبه فروى لى أن البعض يدعى ملكية كلمات نشيد "بلادى بلادى" بعد أن قررت إحدى شركات الاسطوانات تسجيله، ولما أراد أن يدافع عن حقوقه، طلبوا منه أن يثبت أنه مؤلف النشيد.. وتذكرت على الفور الحكاية التى رواها لى عن تسجيل هذا النشيد فى المحكمة المختلطة، وكانت تذكرته بهذه الحكاية بداية الخيط الذى أوصله إلى إثبات أنه مؤلف النشيد وحصل على حقوقه المادية!).

كتب الأستاذ محسن الخياط([2]): (وسوف يدفعك الفضول للتعرف على اسمه عندما تعلم أنه مؤلف نشيد "بلادى بلادى" و"زورونى كل سنة مرة" و "حب الوطن فرض عليه".

وقد تعرفت عليه على أثر المشكلة التى ثارت حول مؤلف نشيد "بلادى" خاصة بعد أن فكرت شركة الاسطوانات فى تصنيعها. وقد أدعى آخرون ملكيتها.. فهناك توقيع بديع خيرى على الأغنية ومحمد البحر ابن الشيخ سيد درويش ينسب تأليفـها إلى والده وصاحب الأغنية الأصلى"لا يملك ما يثبت ملكيته لها.. حتى شاءت الظروف أن يعثر على المستند الذى يثبت حقه، والذى سجل فيه أمام المحكمة المختلطة عام 1923م عشر مقطوعات منها هذا النشيد.. ووقفت جمعية الملحنين والمؤلفين إلى جانبه. بناءً على المستند الرسمى، وقررت فى النهاية أن تعطى له حق الأداء العلنى..

هذا المؤلف.. هو الشيخ "محمد يونس القاضى" الذى يعيش الآن فى الظل.. ككل مؤلفى الأغانى فى مصر.. هم الأساس فى كل أغنية ولكنهم آخر من يذكر اسمهم.. وآخر من تقدرهم أجهزة الأعلام فالمطرب والملحن يتقاضيان مئات الجنيهات.. بينما يلقى بالقروش إلى مؤلفى الأغانى.

لقد بلغ التاسعة والسبعين من عمره.. ولكنه عندما يتحدث إليك تضئ عيناه ببريق الأيام الحلوة التى قضاها فى صحبة أهل الفن.. ويرجع بك إلى الوراء عشرات السنين، وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح. ويزداد بريق عينيه عندما يحدثك عن ذكريات صباه وعن مصطفى كامل والحركة الوطنية. سوف تدهش عندما تعرف أنه كان القاسم المشترك الأعظم فى تأليف الأغانى التى تغنى بها أساطين النغم فى عشرينات وثلاثينات وأربعينات هذا القرن.

كما كتب الأستاذ/ صلاح منتصر([3]) فى عموده [مجرد رأى] لك حبى وفؤادى (قبل أسبوعين كتبت عن رائعة سيد درويش "بلادى بلادى" الذى أصبح وبرغم الأناشيد الكثيرة التى ترددت وقيلت فى خـلال السنوات الستين التى أعقبت ظهوره، النشيد الوحيد تقريباً الموجود داخلنا نحس بمصريتنا من خلاله كلمة ولحنا.. والذى كتب كلمات هذا النشيد –كما سبق أن قلت- هو يونس القاضى وهو شاعر غيـر معروف لجيلى على الأقل.. وقد كتب إلىّ كثيرون عنه وكيف أنه كان فى زمانه فى العشرينات والثلاثينيات علما من أعلام الصحافة والكتابة، وكان أحد نجوم مجلة "اللطائف المصورة" أشهر مجلات تلك السنين.. ولكن فى زحمة من تاهوا ومن هضم حقهم فى مصر تاه يونس القاضى.

وأن الإنصـاف يقتضى ونحن نذكر يونس القاضى أن نذكر المعين الذى شرب منه هذا الشاعر نشيده واقصد بذلك الكلمات المأثورة للزعيم الوطنى مصطفى كامل.. فكلمة بلادى.. بلادى هى أشهر كلماته التى قالها فى خطبة تعد من أروع وأعظم الخطـب التى ألقاها خلال حياته القصيرة التى لم تدم غير 34 عاما عمرت بكفاح طويل وهبه من أجل تحرير بلده من الاستعمار الإنجليزى، وقد ألقى مصطفى كامل خطبته هذه فى مسرح زيزينيا مساء الثلاثاء 22 أكتوبر عام 1907 أى قبل وفاته بـ 110 أيام فقط.. وقد بلغ عدد الحاضرين سبعة آلاف مواطن وهو أكبر عدد تجمع فى ذلك الوقت للاستماع إلى خطاب.. فلم تكن هناك إذاعة ولا تليفزيون ولا وسائل أعلام من الوسائل السريعة التى نعرفها اليوم.. وفى هذا الخطاب صاح مصطفى كامل صيحته الشهيرة: بلادى بلادى.. لك حبى وفؤادى.. لك حياتى ووجودى.. لك دمى ونفسى.. لك عقلى ولسانى لك لبى وجنانى.. فأنت أنت الحيـاة ولا حياة إلا بك يا مصر.. وفى ختـام خطابه هذا الذى استغرق ساعة ونصفا قال مصطفى كامل: أن الوطنية الحقة تقضى على صاحبها بأن يضحى حياته خدمة لوطنه لو دعت الحاجة لذلك)..

 

 

 


(*) مكتب التوثيق الموجود فى دار القضاء العالى بالقاهرة.

([1]) حسين عثمان، حكايات، ذكريات من الذاكرة، مجلة الكواكب، 1979، ص 38.

([2]) محسن الخياط، بلادى .. بلادى، الجمهورية 23 نوفمبر 1967م.

([3]) صلاح منتصر: عمود (مجرد رأى) جريدة الأهرام، 14/4/1979م.

المصدر: شيخ المؤلفين محمد يونس القاضى _رائد التأليف المسرحى والغنائي_ د.إيمان مهران
  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 3565 مشاهدة
نشرت فى 19 مارس 2011 بواسطة imanmahran

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

60,275

د.إيمان مهران

imanmahran
فنانة تشكيلية وكاتبة »