فى البداية كانت الكلمة، والإنسان كلمة ونحن نعيش مع الكلمة، اتولدنا معاها، نحلم وياها ونغنيها وقت الشدة ووقت الضيق وفى وقت الفرحة ووقت العيد. ففى فبراير 1952 اتولدت فى المستشفى الإيطالى بالعباسية وكانت القاهرة مولعة قايدة نار، حرائق فى كل مكان أما لماذا كانت الحرائق فهذا موضوع سياسى مش هنحكى عنه هنا.
عشت منذ طفولتى فى بيتنا فى حى الظاهر وبالتحديد فى شارع إدريس راغب والعمارة كانت 3 أدوار والشقة واخدة دور بحالة، واسعة وكبيرة لأنى فاكر أنى كنت أسوق العجلة أم ثلاث عجلات داخل الشقة وكانوا جيراننا فوقنا وتحتنا يهود، وفجأة فى عام 1956 لقينا أن جيراننا اليهود سايبين البلد رغم أنفسهم، لأنهم كانوا مصريين ويحبون مصر جداً وعلى فكرة هم لسه بيحبوا مصر.
هؤلاء رفضوا إغراءات الوكالة اليهودية بالسفر إلى إسرائيل لكن عرفنا فيما بعد أن المخابرات المصرية أجبرتهم على السفر حتى إننا فكرنا أنه هناك اتفاق تم بين الوكالة اليهودية والمخابرات فى هذا الشأن، وأعتقد أنها كانت غلطة وخسارة كبيرة لمصر. ولكن هذا ليس موضوعنا.
المهم فى شقتنا كان فيه بيانو. وكان أول لحن وأغنية سمعتها بتعزفه أمى هو «يمامة بيضا ومنين أجيبها» وكان الكلام جميلا جداً ولحنا خالدا للموسيقار داود حسنى.. وتفوت وتفوت السنين وأنا مش عارف مين إللى كتب تلك الكلمات إلى أن وقع فى يدى كتاب صدر حديثا عن «محمد يونس القاضى» من تأليف إيمان مهران وأحب أن أهنئها على هذا العمل الرائع. كنت فاكر أن بيرم التونسى هو أول شاعر عامى أو زجال لكن عرفت أن سبقه يونس القاضى وبديع خيرى، أما عن يونس القاضى فهو أولهم وهو عن حق أحد رواد هذا الفن وتتلمذ على يده بعد ذلك كبار المبدعين المصريين مثل بديع خيرى وبيرم التونسى وغيرهما، وكلمات القاضى عاشت حتى هذه اللحظة ضمن الموروث التراثى المصرى وفى مقدمة هذه الأغانى «يمامة بيضا» و «زورونى كل سنة مرة» و «يا عزيز عينى» و «أنا هويت وانتهيت» والنشيد الوطنى المصرى «بلادى بلادى»، ولد شاعرنا واسمه بالكامل محمد يونس أحمد القاضى فى حارة درب الدليل بالدرب الأحمر بالقاهرة عام 1888 وكان والده قاضياً ومن علماء الأزهر ودرس بالأزهر ثم عمل بالصحافة من عام 1905 حتى عام .1942
أصدر مجلة «الفنان» عام 1926 كما ألف أكثر من 80 أغنية وطقطوقة بالإضافة إلى 85 مسرحية غنائية. وكان أحد رموز الفكاهة فى مصر مع بديع خيرى وعبدالعزيز البشرى وفكرى أباظة، ومن سخرية القدر أنه عين رقيباً فنياً على المصنفات والأغانى من عام 1928 حتى 1937 وأعيد تعيينه مرة أخرى فى عام 1942 حتى عام ,1954 وأول ما فعله بدأ يمنع أغانيه مثل «إرخى الستارة إللى فى ريحنا» و «يا فرحانين». للأسف شاعرنا توفى عام 1969 بعد مرض شديد وكان يجد صعوبة بالغة للعلاج وعانى الكثير من الجحود الفنى والنسيان مع أن الناس تردد أغانيه حتى اليوم من غير ما تعرف مين هو مؤلف الدور والكلام الحلو.. وتعالوا نشوف بعض كلمات هذا الفنان العبقرى والتى خلدها الموسيقار داود حسنى الذى ولد عام 1871 وكان تلميذا فى مدرسة عبده الحامولى وسلامة حجازى جدد فى القوالب العربية المعروفة مثل القصيدة والموشح والدور والطقطوقة وقدم عدة أوبريتات واهتم بالمسرح الغنائى فى فترة العشرينيات والثلاثينيات واسمه الأصلى دافيد حاييم ليفى ألحقه أبوه بمدرسة الخرنفش «الفرير» لكن كان كل تركيزه فى الغناء والموسيقى.. قال سيد درويش عن لحنه «أسير العشق» يكفى داود حسنى أن يكون ملحناً لهذا الدور ليخلد، توفى فى 10 ديسمبر 1937 ومن أهم أقواله وهو اليهودى المصرى «إننى لا أخشى على الموسيقى المصرية من الضياع ما دام هناك قرآن أحكمت آياته بالنغم الشرقى».
ومن أشهر أدواره «البحر بيضحك ليه»، «صيد العصارى»، «قمر له ليالى»، وبالطبع أغنيتى المفضلة «يمامة بيضا»، على فكرة الشاعر كتبها «يمامة حلوة» وعند التلحين تم تغييرها إلى «يمامة بيضا».
«يمامة بيضا»
يمامة حلوة ومنين أجيبها
طارت يا نينة عند صاحبها
وخدها البلبل وطار وياها
قصده يا نينة يعرف لغاها
شعرها يهفهف وعلىَّ ترفرف
وأنا بدى أعرف مطرح ماهيا
شعرها أصفر حلو ومضفر
ماشيه تتمخطر قلبى عشقها
طارت فى قصرى إمبارح العصرى
لصاحبها المصرى طالع يجبها
البلبل خدها وطار وياها
أصله يا نينة يعرف لغاها
يمامة حلوة ومنين أجيبها
طارت يانينية وقلبى هواها
وأنا أكتب كلمات الأغنية ترقرقت عينى بالدموع لأنى تذكرت أمى وصوتها الملائكى وأناملها الرقيقة التى تلامس البيانو «خالدة أنت يا أمى» فى قلبى وفى ذاكرتى وبعد ما اتولدت تعبت أمى جدا حتى إن أختى الجميلة سيسيل والتى كانت تدرس التمريض اهتمت بى طوال فترة مرض أمى، وأحب أن أضيف أن والد أمى الصحفى الفذ جورج طنوس كان له عشق فنى كبير حتى إنه سمى أولاده على أسماء أبطال أوبرا عايدة فسمى أمى عايدة وخالى رداميس.
أغانى تانية كثيرة كتبها يونس القاضى وعلقت معايا ومعاكم تعالوا نستعيد الذاكرة ونحلم مع صوت فيروز وهى تغنى «زورونى كل سنة مرة».
زورونى كل سنة مرة حرام تنسونى بالمرة
أنا عملت إيه فيكم تشاكونى وأشاكيكم أنا طول عمرى أداديكم
وتعالوا نسترجع صوت عبدالوهاب لما قال بكل حنية: أنا هويت وانتهيت
أنا هويت وانتهيت وليه بقى لوم العزول
يحب أنى أقول ياريت الحب ده عنى يزول
أما أغانيه الوطنية والهابطة وحدوتة النشيد الوطنى المصرى «بلادى بلادى» فسيكون مع أحلى الكلمات فى الفصل القادم.