كان لوجود نهر النيل في مصر والاستقرار الانسانى على ضفافه أعظم الأثر في ازدهار صناعات وفنون عديدة منها فن الفخار، وهو فن له خصوصيته وطرزه المختلفة ، فالمنتج الفخارى منتج نفعى له شكل جمالى ، يحمل قيم التشكيل من خلال شكله و الرموزالمنقوشة والمحفورة عليه ، والتى تمثل فكرالجماعة الشعبية وقيمها فى بساطة ، وهو ما يمثل أنعكاسا للتراكمات الحضارية المرتبطة بالمكان على مر العصور.
لقد ارتبط الفخار بالحياة اليومية حيث ساير طقوس الزواج والانجاب والحمل والوضع واحتفالية الميلاد (السبوع) ، كما أن طقوس الموت شاركت فيها المنتجات الفخارية ، فقد تواجدت فى الحوش والقبر والجبانة،كما أرتبط الفخار بالسحر والكتابة على سطحه الطينى قبل تعرضه للحريق ، وعندما يحرق على حالته هذه لا يستطيع أحد محو تلك الكتابة التى غالباٌٌما تستهدف الضرر.(1)
وفى قنا بصعيد مصر يوجد أكبر تجمع لتصنيع الفخار ، والتى أجرينا دراسة ميدانية عليها (2)، ومن أشهر هذه الاشكال "البلاص " ، حيث كان لهذا الشكل الفخارى المتميز مكانته فى مصر على مر العصور.
لقد ساعد موقع قنا فى توفر خامات التصنيع لوجودها على ضفاف نهر النيل حيث توافر الطمية السوداء، كما ساهم وجود الجبل الغربى على حدود قنا على توفير الطفلة التى تعتبر أساس عملية التصنيع، وقد ساهمت الوديان وممرات السيول التى تشق محافظة قنا والقادمة من جبال البحر الأحمرعلى إمدادها بطينة السيل التى تسمى ( بالحيبة الصفراء). (3)
كما ساهم مناخ قنا الجاف فى إتمام عملية جفاف الأشكال الفخارية بالشكل المطلوب ، ولأن محافظة قنا محافظة زراعية فقد ساهم ذلك فى تنوع الوقود المستعمل في حرق الفخار سواء كان بوص ذرة أو مخلفات قصب السكر وخلافه وهو ما انعكس بشكل كبيرعلى جودة الحريق.
هذا وقد وجدت آثار فخارية كثيرة فى منطقة تسمى "نقادة" بقنا ، وهى ذاتها منطقة حضارة نقادة الأولى والثانية و التى عرفت فى عصر ما قبل الأسرات ( منذ أكثر من عشرة آلاف سنة ) ، وتشمل هذه الحضارة على جبانات أرمنت، وخزام،و نقادة،وبلدة البلاص. كما اكتشف "كيوبيل" العالم الأنجليزى "جبانة البلاص" الموجودة فى مركز المحروسة (البلاص سابقا)، وبها محتويات تسعمائة مقبرة كاملة ومن بينها الفخار. (4)
والبلاص ينتشر فى شتى ربوع مصر غير أنه لا يصنع إلا بقنا حيث تركزت صناعته فى مركز المحروسة وهى البلدة التى تعتمد على البلاص فقط فى دخلها الرئيسى.. ، وكان فى السابق يصدر للسودان ولكن بعد دخول المياة للمنازل قلت الحاجة إليه ليعتمد الناس على الثلاجات وزجاجات السوائل والأوانى المختلفة فى خاماتها و أحجامها، التى تصنع من البلاستيك و خلافه ..
ويتم العمل داخل ورش تصنيع البلاص بطريقة منظمة تعتمد على عدد من الحرفيين المهرة ، حيث يتم تجهيز الطينة بداية من غربلة الخامة وتنقيتها من الشوائب ثم نقعها ودوسها (أى دهسها بالأرجل) وضربها مرة أخرى كى تصبح جاهزة للعمل.
ويقوم الصبى بإمداد الفخرانى بالطينة اللازمة للتشكيل على عجلة الفخار التى تسمى(بالحجر)، حيث يقوم بتقطيع الطينة بأحجام متساوية دون الاستعانة بميزان، وينجح فى إخراج قطع طينية بأحجام وأوزان تناسب حجم البلاص المراد تشكيله .
وبعد تجفيف الشكل ، يتم رص البلاص فى الفرن عن طريق شخص متخصص ، يساعده صبى يناوله الأشكال من مكان جفافها، كما يناوله المكسور من الفخار لتغطية الفرن ، وغالباً لا يعمل المسئول عن رص الفرن فى ورشة واحدة بل يمر على الورش التى تحتاج لرص أفرانها أيضاٌ ، وتستغرق هذه العملية حوالى ساعة ونصف تقريباً حسب عدد الأشكال المراد حرقها ونوعها وحجم الفرن الذى يرص فيه البلاليص.
ألقاب العاملين فى الفاخورة:
هناك ألقاب للعاملين في الورشة تختلف باختلاف تخصصاتهم (5)، وهذه الألقاب هي:
· كبير الفخرانية: وهو شيخ المهنة الأكبر سناً والأكثر منزلة بينهم.
· المعلم: صاحب الورشة المسئول عن إدارتها ومالياتها ويكون غالباً فخراني.
· صنايعي: وهو الفخراني المسئول عن عملية تشكيل الطين داخل الورشة.
· المناول: الصبي الذى يقوم بمناولة الطين للفخراني.
· العمال: وهم المساعدون في كل مراحل العمل.
أما الادوات التى يستخدمها الفخرانى فى تشكيل منتجاته الطينية فهى:
الشاطوف: أداة معدنية لها شكل هندسى ولها عدة أحجام حسب المنتج الفخارى الذى تستعمل فيه..
الخيطة: خيط من البلاستيك الغليظ مربوط فى نهايتها قطعة خشبة تستعمل فى فصل الشكل الفخارى عن قرص التشكيل.
السادف: قطعة معدنية مربعة الشكل لها فتحه فى المنتصف يدخل منها إصبع الفخرانى، حيث يتم بها التشكيل على عجلة الفخار.
الجارودى: قطعة معدنية عل هيئة حرف (L) طولها 20 سم تستخدم فى عملية الجرد وحذف الزائد عن الشكل الطينى.
العجلة الدوارة (الحجر): تتكون من قرص حديدى وقرص خشبى مثبتان على عامود رأسى حديدى يدور على رمان بلى بواسطة الأرجل عن طريق تحكم الفخرانى بقدمه الموضوعة على القرص الخشبى وتدويرها،حيث تقوم بتحريك القرص العلوى الحديدى الذى يحمل عليه الشكل الطينى.
الغربال: إطار خشبى مساحته مترفى متر ، مثبت عليه سلك معدنى يستخدم فى فصل الشوائب عن الطين المنقوع.
المفحار: قطعة حديدية تستخدم فى حفر قاعدة الشكل الطينيى.
الخامة: تستخدم الطفلة فقط فى تشكيل طينة البلاص وذلك لانها خامة خفيفة وجيدة الرشح بعد حرقها واكتسابها صلابة. كما تعتمد الطفلة فى مكوناتها على معادن الطين من سلكيات الألمونيوم المائية، التى عندما تخلط بالمياه تصبح سهلة التشكيل.
فالخامة متوفرة فى منطقة البحث ويتم استخراجها بشكل تقليدى حيث تُكسر وتنقل بالسيارات فى زمن قصير (حوالى عشر دقائق). وكانت فى السابق منذ حوالى خمسة عشر عاما تقريباٌ، تنقل على ظهور الجمال فى حدود ساعة ونصف الساعة .
التحليل التشكيلى للبلاص
كان للبلاص أشكال عديدة فى السابق و تتكون من نفس الأجزاء التى يتكون منها البلاص الحالى مع بعض الاختلافات البسيطة ، كما كانت تتفق تقريباً فى نسب هذه الأجزاء مع بعضها البعض. وقد كان لجماله وتناسق أجزاؤه ما ذادة من جمال على جمال عند حمل المرأة له . كما نلاحظ أن جماله قد ارتبط بالمرأة الجميلة "حاملة البلاص" والتى تناولها العديد من الفنانين التشكيليين وأشهرهم النحات محمود مختار, الذى استلهم البلاص والمرأة حاملة البلاص فى الكثيرمن منحوتاته و جدارياته خاصة الموجودة فى قاعدة تمثال سعد زغلول فى القاهرة..كما كانت المرأة حاملة البلاص ملهمة للعديد من المصورين الذين تناولوها فى أعمالهم .
وعلى مر التاريخ الحديث رسمت لوحات عن مصر سجلت مظاهر الحياة اليومية ، فقد سجل المستشرقون وعلماء الحملة الفرنسية العديد من النساء حاملات الجرار لتظهر روعة الرداء وطريقة شد الثوب بيد ورفع الأخرى على (البلاص) لتحدث التوازن فى مشيتها ، وهو ما اشتهر عن المرأة المصرية التى تسير ممشوقة القوام تحمل بلاص على رأسها فى شكل انسيابى ، ليتم تكامل الجمال وتبادله بين السيدة وشكل البلاص ، وبين نسب البلاص وعلاقة كل جزء بالآخر ، لتحقيق الانسجام الموجود بين وزنه بعد ملئه بالمياه وشكله حين يتم حمله ، وهذا ما اثر بشكل كبيرعلى استمراريته واستخدامه فى الحياة اليومية حتي اليوم، رغم كل ما يحدث من انسحاب لموروثات شعبية كثيرة .
أجزاء البلاص
يتكون البلاص من عدة أجزاء على النحو التالى :
عنق : يشبه عنق الإنسان . قصير نسبياً عن جسمه المخروطى وذلك للتحكم فى المياه المنسابة منه.
فوهه : ضيقة نسبياً ولكنها تحافظ على ما بداخل البلاص من السوائل حتى لا تنسكب.
بدن : يشبه القمع ينتهى بقاعدة متسعة نسبياً عن بدايات الجسم.
مقبض : مقبضان متقابلان ليساعدا فى حمل البلاص وتحريكه من مكان لآخر.
قاعدة : محدبة الشكل تسمح للبلاص بالارتكاز عليها كما تسمح بلفه وتدويره عند الحاجة إلى سكب السوائل الموجودة بداخله . كما أن ارتكاز البلاص على القاعدة بميل لا يسمح بدخول الشوائب إليه ، وقد ساهم اتساع أسفله فى حمل كمية كبيرة من المياه.
وقد انحصرت أنواع البلا ليص فى شكل واحد متعدد الأحجام على النحو التالى:
1- بلاص حجرى ويحمل (70 رطل) وارتفاعه 70 سم .
2- بلاص خماسى ويحمل (45 رطل) وارتفاعه 55 سم.
3- بلاص جنطار ويحمل (30 رطل) وارتفاعه 50 سم.
4- بلاص زراوية ويحمل (20رطل) وارتفاعه 50 سم.
5- بلاص ستات ويحمل (6 رطل) وارتفاعه 30 سم.
6- بلاص عسالى ويحمل (3 رطل) وارتفاعه 45 سم.
7- بلاص تمن ويحمل (1,5 رطل) وارتفاعه 30 سم .
كما تركزت استخدامات هذه الأشكال فى حفظ السوائل والأطعمة السائلة وتخزينها، كما استخدمها (المعمارى الشعبى) فى بناء المنازل والأسوار وأبراج الحمام وغيرها من البنايات..
وظيفة البلاص:
عرف عن البلاص منذ القدم أنه خفيف الوزن ، ولذا ظل محتفظاً بإمكانياته فى تخزين المياه وسهولة استخدام السيدات له و خاصة فى الأماكن التى لا تصلها مواسير مياه صحية.. وإن كانت الأوانى البلاستيكية و المعدنية قد حلت بعض الشيء مكان البلاص فى منطقة البحث، إلا أنه مازال يقع عليه العبء الأكبر فى عملية تخزين ونقل المياه..
ونلاحظ فى العديد من المنازل وفى الشوارع الموجودة بقرية المحروسة والقرى المجاورة لها ، وجود البلاليص فى الأركان بدلاً من الزير ليشرب منه المارة ، حتى أن المنازل لا تخلو من بلاص لشرب المياه مثبت على قاعدة حجرية ،وقد استحدثت عادة فتح البلا ليص من أسفل وتركيب صنبور معدنى بالجبس . كما ان هناك علاقة ألفة بين البلاص وكافة الأماكن فى قرية الدير، حيث يوجد فى الحقول وفى المناطق غير الآهلة بالسكان كالمقابر وغيرها ليشرب منه عابرو السبيل..
ويستخدم البلاص ضمن أدوات الطعام حيث يتم تخزين العسل الأسود الذى يحافظ بدوره على عدم تغير طعم العسل ورائحته لفترة زمنية طويلة.
كما يخزن به الجبن القديم، وهوجبن يضاف له قشر البرتقال وقشر الخيار وشرش الجبن ليستعمل على المدى البعيد ، كما يحافظ على تخزين المقبلات من المخللات ، ويحافظ عليها من الفساد و بقائها لمدة طويلة.
استخدام البلاص في التشكيل المعماري
هناك منازل عديدة فى المحروسة تعتمد على البلاص فى بناءها بشكل رئيسى ، بل أن هناك منازل قديمة صنعت من البلاليص تعدت عشرات السنين وما زالت قائمة تقاوم الزمن. حيث يتم توظيف البلاليص التي لا تصلح للاستخدام في وظيفتها الأساسية لبناء الجدران والمنازل والأسطح العليا وسد الفتحات وغيرها، وتقوم فكرة إعادة توظيف البلاص علي الاستفادة من:
· توفرالبلاليص بشكل دائم فى الأسواق بما يضمن بيعه بأسعار رخيصة في متناول أهالي القرية..
· إعتام الشكل الفخاري حيث لا يكشف عن الأشياء التى تقع خلفه.
· إمكانية الاستفادة من فراغ الشكل الداخلي بجعله بديلاً للدرج توضع فيه أشياء وروافع .
· الترميم وإعادة البناء ليس مكلفاً لهذه المنازل المشيدة بالبلاليص ، وهو ما يسمح بانتشارها وتعدد طرق الاستفادة منها فضلا عن تكلفتها البسيطة.
· تعود السكان على المنازل المبنية من البلاليص وتآلفها مع نشأتهم.
· تأثر البلاليص بأي صوت بما ينذر أهل المنزل بما يحدث في الخارج.
· ملائمة البلاص للبيئة الجنوبية حيث يقوم بترطيب وحجز درجات الحرارة المرتفعة.
عيوب البناء بالأشكال الفخارية:
يعتمد التشييد بهذه الأشكال الفخارية علي البناء الأفقي، ولا يصلح الاعتماد عليها في البناء الرأسي، وهو ما يعني استحالة تحمل الأحمال القوية. كما يلزم الصيانة المستمرة لهذه المنازل نظراً لتأثرها بالأمطار وتهدمها في حال تعرضها للسيول.
البلاص والسحر
اقترن الفخار بالسحر فالاعتقاد السائد هو أن أى شكل طينى يُمكن استعماله فى السحر لو تم التدوين عليه بما يريده صاحبه ، وبالتالى ظل هذا الاعتقاد السائد لدى الفخرانية ، حيث أنهم يعتقدون أنه فى حال بيعهم لأى قطعة طينية تم تشكيلها ولم تحرق سيتم الكتابة بالسحر عليها . وهو ما ينعكس بالضرر على الفخرانى الذى شكل تلك القطعة إما بالمرض أو بالعجز الكامل (الشلل) أو (النحس) بغلق فاخورته،
ويرجع هذا الاعتقاد إلى المصرى القديم حين كان السحر يتم بتدوين المرغوب فيه على قطعة طينية ثم تحرق لتصبح فخار ويتم إلقائها فى النهر، وهى بذلك لا تبلى ولاتمحى، وتصيب صاحبها طوال الحياة.
البلاص والزواج
هناك نوع من البلاليص يطلق عليه بطة العروسة وهو أحد أنواع البلاليص الذى يصنع خصيصاٌ للعروس ، له أربعة مقابض أو أكثر كانت العروس تشتريه ضمن حاجاتها قبل زفافها لتستخدمه فى الصباحية عند زيارة الأم والأصدقاء . ويعتبر رمزاً من رموز الخير والسعادة . تحكى زوجة لمزارع فى الدير الغربى "كل واحدة ليها بطتها تشيلها طول العمر، وهى بلاصة تَّشرب ضيوفها منها يوم الصباحية ، بعد ما تكون خشت .. عشان تضمن تعيش سعيدة والناس تقول لها إسجينا من بطتك" .
البلاص وصدقة المياه الجارية
فى مجتمع فقير كالمحروسة تتجلى صور صدقة المياه الجارية وذلك فى الحوش والقبر والجبانة
، حيث ينتشر البلاص المضاف له صنبور عند مؤخرته فى محاولة ليصبح سهلاً فى استعماله وحتى لا يحركه من يريد الشرب حيث يثبت على حامل معدنى.
بعد قراءتنا لجماليات البلاص ووظيفته نطرح تساؤلا :
هل سيتراجع البلاص ويختفى ؟أم سيصمد ويستبدل وظيفته التى انتفت ؟ أم سيحافظ على هويته أمام المنتجات الأخرى ؟ هل سنعيد توظيف البلاص بما يناسب الحياة الحديثة ليعيش الشكل وتتبدل الوظيفة ، حتى يندثر شكل آخر من منتجاتنا الشعبية ؟
الهوامش:
- .عبد الغنى الشال .الفخار الشعبى فى مصر، مجلة عالم الفكر العدد الرابع – المجلد السادس، يناير / فبراير / مارس، 1976م.
- ايمان مهران . الفخار الشعبى – دراسة ميدانية فى مدينة قنا بصعيد مصر، أطروحة ماجستير ، المعهد العالى للفنون الشعبية ، أكاديمية الفنون بالقاهرة ، 2005 .
- المجلس القومى للإنتاج والشئون الاقتصادية ، الثروة السياحية فى قنا والأقصر ، القاهرة، 1987م
- رمضان السيد . تاريخ مصر القديمة ، الجزء الأول ،القاهرة ، هيئة الآثار المصرية ، 1988.
- أسعد نديم . فنون وحرف تقليدية من القاهرة، القاهرة: العلاقات الثقافية الخارجية، وزارة الثقافة، 1998م.