منذ الطفرة النفطية الأولى في الخليج، والتي أحدثت تحسناً ملحوظاً ومضطرداً في مستويات المعيشة لكافة الأسر والأفراد، بل واقترنت بحدوث انقلاب اجتماعي/ثقافي في السلوكيات والقيم والمظاهر المجتمعية، والحديث لا ينقطع عن سوء معاملة الخدم – وتحديداً خادمات المنازل – وانتهاك حقوقهم الإنسانية لجهة الرواتب والإجازات والظروف المعيشية وساعات العمل.
ورغم أنه في مثل هذا الحديث الكثير من علامات الصحة التي يمكن الإطلاع على تفاصيلها في التقارير والدراسات التي تكتظ بها رفوف منظمة العمل الدولية في جنيف، وأدراج باحثيها المتفرغين، فإن الأمر لا يخلو من المبالغة الفجة والتعميم الظالم، خصوصاً عند الحديث عن معاناة خادمات المنازل التي يصعب الكشف عنها بدقة في ظل وجودهن خلف الأسوار العالية لبيوت الأسر الخليجية المحافظة.
صحيح أنه في حالات كثيرة تعرضن للإجحاف والانتهاكات الجسدية على أيدي بعض الجهلة والقساة من أرباب العمل، لكن الصحيح أيضاً أن العلاقات ما بين خادمات جيء بهن من ثقافات مختلفة للعمل لدى أسر هي الأخرى لديها ثقافات وعادات وسلوكيات مغايرة، من الطبيعي أن تفرز إشكاليات لا يمكن التيقن بدقة من شكلها وطبيعتها، أو أسباب الفعل ورد فعل رب العمل عليه.
ما نريد قوله تحديداً إن الظاهرة التي نحن بصددها هنا، والتي محورها الرئيسي نساء وفتيات قدمن من دول جنوب وجنوب شرق آسياً، لئن كانت موجودة في المجتمعات الخليجية، فإنها موجودة أيضاً في مجتمعات عربية أخرى أسبق من مجتمعات الخليج من حيث التمدن والثقافة والتعليم والانفتاح. ذلك أن المجتمعات الخليجية كانت إلى ما قبل حقبة الطفرة النفطية الأولى تعتمد في قضاء حاجاتها المنزلية على سواعد نسائها أو بناتها. وفي حالات الأسر الموسرة كان الاعتماد على سواعد نساء العائلات الفقيرة المجاورة، أو على سواعد الصبية الأجراء النازحين من بعض الأقطار الخليجية الأقل ثراء. أما في المجتمعات العربية الأخرى فقد كانت المهام المنزلية يتم إسنادها إلى من يــُؤتى بهن من خادمات من الأرياف البعيدة الفقيرة عبر وسطاء متخصصين. لكن الحال – وكما هو معروف للجميع – تبدل في العقود الأخيرة في كل المجتمعات العربية تقريباً. فمصر مثلًا لم يعد فيها خادمات ريفيات من أولئك اللواتي أجادت الفنانة الراحلة "وداد حمدي" تجسيد أدوارهن في السينما ببراعة. وفي لبنان تم استبدال الخادمات القادمات من ضيع وبلدات الجنوب بأخريات من الفلبين وإثيوبيا وسيشل وسريلانكا، وهكذا.
في كل هذه المجتمعات العربية غير الخليجية ســُجلتْ تقارير تتحدث عن انتهاكات فاضحة في حقوق القادمات من وراء البحار، سواء لجهة طريقة معاملتهن أو توفير السكن اللائق الكريم لهن، أو لجهة دفع أجورهن الشهرية في آجالها المحددة. غير أن تسليط الضوء عليها لم يكن قوياً مثلما كان بالنسبة لأوضاع نظيراتهن في الخليج لأسباب لا نعلمها، بل إن تلك الحالات بقيت طي الكتمان إلى أن وقعت حادثة محددة شدت انتباه وسائل الإعلام وجمعيات حقوق الإنسان المحلية قبل الأجنبية. كان ذلك حينما أقدم أحد متاجر التبضع الكبيرة في بيروت على تعليق لافتة ترويجية ضخمة عبر الشارع الذي يقع فيه مقره، متضمنة عبارة "تبضع هنا لكي تفوز بالجائزة الكبرى" ولم تكن هذه الجائزة سوى خادمة سريلانكية، وهو الأمر الذي أثار سخط واستياء وازدراء الكثيرين ممن رأوا في مثل هذا العمل مساواة ما بين إنسانة من لحم ودم ومشاعر وعواطف، وبضاعة صماء مركونة على الرف تستعد للانتقال إلى ملكية الفائز المحظوظ.
وإذا كان الشيء بالشيء يــُذكر، فإن الظاهرة التي نتحدث عنها انتقلت قبل سنوات قليلة إلى مجتمعات آسيوية معينة من تلك التي فرض تحسن مستويات معيشة أسرها وأفرادها إلى اللجوء إلى استقدام خادمات المنازل ومن في حكمهن من دول آسيوية فقيرة مجاورة، تشترك معها في الإرث التاريخي والقواسم الثقافية واللغوية والعرقية.
فـهونج كونج وتايوان وسنغافورة وماليزيا صارت دولاً مستقدمة لهذه النوعية من العمالة المنزلية من البلدان الأقل ثراء، والأكثر اكتظاظاً في محيطها الإقليمي مثل إندونيسيا وكمبوديا وفيتنام والفلبين، مع ملاحظة أن دولة جنوب شرق آسيوية وحيدة هي "سلطنة بروناي" – التي تتشابه ظروفها مع دول الخليج العربية لجهة اقتصادها الريعي، ومداخيلها النفطية، وتقاليدها المحافظة - سبقت كل دول جنوب وشمال شرق آسيا في الظاهرة موضوع الحديث، بل صارت العائلات فيها تتنافس على استقدام أعداد من العاملات المنزليات أكثر من حاجتها الفعلية، كنوع من أنواع التباهي الاجتماعي.
في مختلف هذه المناطق الآسيوية - ولا سيما في هونج كونج - ســُجلت حالات تعرضت فيها الخادمات المستــَقــْدمات للتحرش الجنسي أو لانتهاكات حقوقية وجسدية، ربما أكثر بكثير مما تعرضت لها مواطناتهن العاملات في الأقطار العربية.
ولعل هذا هو ما حدا بالحكومة الإندونيسية قبل عامين إلى إصدار تعليمات مشددة بمنع ذهاب مواطناتها للعمل كخادمات في سنغافورة وماليزيا، على الرغم مما يجمع إندونيسيا وحكومات هذه الدول من علاقات تعاون وتفاهم في إطار "رابطة أمم جنوب شرق آسيا" المعروفة اختصارا باسم "آسيان"، وما يجمع شعوبها من وشائج وأواصر القربى المدعومة باللغة والثقافة المشتركة وأحياناً المعتقد الديني الواحد.
وهذا هو أيضاً السبب الذي دفع بوزارة العمل الكمبودية قبل نحو أسبوعين إلى الاقتداء بما فعلته نظيرتها الإندونيسية، أي إصدار تعليمات مشددة حول منع سفر النساء والفتيات الكمبوديات إلى ماليزيا للعمل هناك كخادمات، ناهيك عن وقفها العمل ببرنامج لتبادل الخدمات مع الحكومة الماليزية كانت قد أقرته في وقت سابق ضمن تعاونهما المشترك في إطار منظومة "آسيان". وطبقاً لوكالات الأنباء فإن القرار الكمبودي جاء على خلفية اقتراح تقدم به النائب البرلماني المعارض "سون تشاي" الذي قال إن على حكومة رئيس الوزراء "هون سين" أن تتحمل مسؤوليتها في ضوء تزايد التقارير الواردة من كوالالمبور حول تعرض بعض عاملات المنازل الكمبوديات هناك لمضايقات وانتهاكات جسدية واعتداءات جنسية.
وإذا علمنا بأن إجمالي العاملين والعاملات في المنازل الماليزية يصل إلى نحو 320 ألف شخص، وأن 15 بالمئة من هؤلاء هم من كمبوديا، فإن ماليزيا قد تجد نفسها، مع تطبيق القرار الكمبودي، في مشكلة، خصوصاً بعدما أوقفت جارتها الإندونيسية تزويدها بالخادمات قبل عامين على نحو ما أسلفنا.
ساحة النقاش