رمضان شهر البركات، والرحمات، والانتصارات، والنفحات الإيمانية والتليفزيونية كذلك. ولابد هنا أن أستدرك حتي لا يظنني القراء من متابعي الشاشة الصغيرة (التي لم تعد صغيرة علي الإطلاق!)، ولكن هذا لا يمنع من مشهد أراه أوكلمة أسمعها وأنا مارّة من أمام التلفاز... أي أن التلفاز هو الذي لا يتركني في حالي، حتي وأنا جالسة في غرفتي وقد أغلقت بابي عليّ، يقتحم الصوت عليّ خلوتي.

لأدخل في الموضوع حتي لا أطيل عليكم أكثر من ذلك.. ما هي اللفحات، أقصد النفحات، التي لفحني بها التلفاز في رمضان؟ فقر الأفكار... نعم، فقر الأفكار هي الفكرة المسيطرة عليّ منذ أيام. فلعلكم تلاحظون مثلا أن البرامج التي يدعون أنها ترفيهية، تنقسم إلي عدة أنواع: غيبة ونميمة من خلال استضافة ممثل أو مطرب (أو نفس الكلمتين بإضافة تاء التأنيث)، وإمطاره بوابل من الاتهامات، ولا يخلو الحوار طبعا من نكأ الجراح القديمة، ومن القيل والقال، ومن الأسئلة المحرجة التي إن أجاب عليها الضيف صراحة ربما خسر أشخاصا أو حدثت مشاكل بينه وبينهم. وهذا النوع من البرامج كثير جدا، فبمجرد أن بدأه أحد المذيعين ونجح حتي سار المقلدون علي خطاه، حتي أنك لا تستطيع أن تجد فرقا واضحا بين برنامج وآخر، اللهم إلا المحاور، واسم البرنامج والديكور ومثل هذه الأشياء، إلا أن الفكرة واحدة. وانتشار هذه البرامج دفعني إلي التساؤل بيني وبين نفسي: لابد أن هذه النوعية تلاقي نسبة مشاهدة عالية حتي تنتشر مثل هذا الانتشار. فلماذا يقبل المصريون والعرب علي مشاهدة مثل هذه التفاهات؟ هل لأننا نحب الشائعات والفضائح والخوض في أعراض الناس؟ وفي رمضان؟!!! ألم يجدوا شهرا غيره؟ هل يريدون الإتيان علي حسنات الناس أولاً بأول، عملا بالمقولة الحكيمة: لا تؤجل عمل اليوم إلي الغد، أو باعتبار أن رمضان شهر الاجتهاد مثلا؟!!!

ولإعطاء كل ذي حقٍ حقه، فإني أرفع القبعة لبرنامج "أنا" الذي يقدمه الإعلامي/ عمرو الليثي، الذي زاد احترامي له بعد رؤية بعض الأجزاء من البرنامج. فأخيراً نجا واحد من فخ الخوض في الأعراض.. أخيراً استمعت إلي حوار راقٍ هاديء وليس إلي شجارٍ علي الهواء.. أخيراً وجدت أسئلة عميقة تعرفنا علي شخصية الضيف عن قرب، وتساعدنا علي التعلم من تجاربه... وأخيراً (وانتبهوا لهذه جداً) وجدت من يعترف بأن هناك علي الكرة الأرضية أناساً يستحقون أن تُنقَل تجاربهم إلي الناس غير الممثلين والمطربين!

هذا نوع والذي سأسميه "غيبة علي الهواء".. نوع آخر هو برامج "الهزار السخيف" والتي تقوم علي إضحاك المشاهدين من خلال إحراق دم الضحايا المضحوك عليهم، والذين كانوا من السابق من المواطنين العاديين، وأصبحوا الآن من الممثلين.. شيء يحرق الدم فعلاً!

حتي البرامج الإخبارية، تجد أنها تقوم علي مذيع ومذيعة يتناولان أخباراً (تتشابه في معظم البرامج)، ويتصلان بالمسئولين، ويعرضان تقارير، ثم يتناولان موضوعا أو اثنين بالنقاش والتفصيل. وفي رأيي أن ما يميز برنامجاً عن غيره هو إلقاء الضوء علي موضوعات لا ينتبه إليها الآخرون، أو إذاعة أخبار مختلفة، أو شخصية المذيع وأسلوبه. ورغم أنه ليس لديّ الآن أفكار لتطوير هذه البرامج وتمييز أحدها عن غيره، إلا أن ذلك لا يرجع إلي أنه لا يوجد أفكار، ولكن لأني لم أفكر...

تعالوا الآن نلقي نظرة علي البرامج الدينية التي أراها ناجحة وتحقق نسبة مشاهدة عالية مثل برامج د. عمرو خالد، والداعية/ أحمد الشقيري. لاحظت أن البرامج التي يقدمانها كسرت الشكل التقليدي، وربما المحتوي أيضاً... أو ربما طريقة العرض. فهي تتميز بأنها فعلاً برامج تليفزيون، بمعني أنك فعلا تحتاج إلي المشاهدة، وقد لا يحقق البرنامج أهدافه بنفس الفعالية إن أُذيع في الراديو.

لعلكم تابعتم برنامج "خواطر 5" العام الماضي، والذي يريد من خلاله الداعية/ أحمد الشقيري أن يحثنا علي بعض السلوكيات التي هي من صميم ديننا الجميل، فماذا فعل؟ هل قام بسرد الآيات والأحاديث وقصص الصحابة (مع عظمتها وضرورتها طبعا)؟ لا، بل جعلنا نشاهد هذه السلوكيات ونقيضها علي الأرض، من خلال المقارنة بين اليابان ومختلف البلاد العربية، مع ذكر بعض الآيات والأحاديث والمواقف من السيرة النبوية. الحلقة قصيرة ومتنوعة، فهو يتنقل بين أماكن مختلفة، ويحاور أناسا مختلفين، ويفعل شيئا غير أنه يتكلم فحسب، فيسابق أحد الأشخاص مرة، ويلاعب غيره الكرة، ما أريد قوله أنه يعيش التجربة بنفسه.

في برامج د. عمرو خالد مثلا في الأعوام الماضية: علي خطي الحبيب، وقصص القرآن، وقصة سيدنا موسي، رأيناه ينتقل إلي الأماكن الحقيقية التي جرت فيها الأحداث، أو أماكن مشابهة لها في محاولة منه لتقريب الأمر إلي المشاهد، وهو الشيء الذي أظنه أثار فضول الكثيرين (وأنا منهم) لمشاهدة البرنامج.

لقد أبدعا، فتميزا فنجحا....

وهذه هي النقطة التي أريد أن أصل إليها من هذا المقال، فأنا لا أبغي النقد فحسب. نريد أن نبدع، أن نتميز ولا نسير مع القطيع. وكما أن التقليدية موجودة في برامج التليفزيون، فهي موجودة أيضاً في برنامجنا الرمضاني في التقرب إلي الله. فبالنهار صائمون، وبالليل قائمون، وآناء الليل وأطراف النهار قارئون وذاكرون. ولابد أن أستدرك هنا أيضاً حتي لا يفهم أحد أنني أهون من شأن العبادات أو أطالب بالتقليل منها. علي العكس، إننا نجد في أنفسنا في رمضان انشراحاً وإقبالاً علي الطاعة لا نجده في غيره من الشهور. ولكن هل يصح أن نختذل الطريقة التي يمكن أن نتقرب بها إلي الله في رمضان إلي العبادات فقط كصلاة التراويح وختم القرآن، وبنفس الطريقة التي نفعلها بها كل سنة؟ أليست الأخلاق من الدين، بل هي الهدف من بعثة النبي (صلي الله عليه وسلم) مصداقا لقوله (صلي الله عليه وسلم): "إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق". ومادام الأمر كذلك، لماذا عندما أسأل كثيرا من الناس كيف نتقرب إلي الله في رمضان، يجيبونني بالتراويح، وختم القرآن، والصدقات ولا يتطرقون إلي الأخلاق؟ أليس من الممكن أن نستثمر القوة الروحية والنفسية التي يمدنا بها الله في رمضان في تحسين أخلاقنا، وتعاملاتنا مع الناس؟

اقرأوا معي الاقتراحات التالية وفكروا معي: هل من الممكن أن تكون تلك وسائل نتقرب بها إلي الله إن فعلناها بنية خالصة لله؟

أقوي علاقتي مع أحد من أفراد أسرتي أو عائلتي، وليس بالضرورة أن يكون هناك خصاما حتي نسعي إلي تحسين العلاقة. فقد تكون العلاقة جيدة ويكون هدفك هو أن تجعلها أعمق.

أستمع إلي داعية أو عالم الدين لم أستمع له من قبل لأتعلم أمور ديني وأوسع أفقي.

أتعلم آداب الطعام، أو النوم أو... الخ.

أتعود الإقلال من الكلام (والجو الحار يساعدنا علي ذلك جدا حتي لا يجف ريقنا!)

أتوقف عن الغيبة والخوض في أعراض الناس، فأجلس مع نفسي وأسألها: لماذا أغتاب؟ هل أغتاب عندما أتواجد مع شخص معين بالذات؟ وذلك حتي أتعامل مع الأمر من جذوره لا عرضه الظاهر فقط، ثم تضع خطوات عملية تعينك علي التوقف عن هذا السلوك.

أعتاد ممارسة الرياضة (طبعاً عندما يأتي رمضان في الشتاء :) )

أتعلم مهارة جديدة سواء لغوية، أو في مجال الكمبيوتر أو مهارة شخصية كتنظيم الوقت، أو التعامل مع المشاعر السلبية، أو غير ذلك.

أستفيد من الصفاء الذهني والروحي الذي نجده في رمضان في مراجعة نفسي، وإعادة ترتيب أوراقي، وتحديد غايتي من الحياة، وأهدافي التي سأحقق من خلالها هذه الغاية والرسالة، وأنظم أولوياتي.

أضع لنفسي خطة للقراءة.

أتعلم أساليب جديدة في تربية أبنائي.

أجد طرق متنوعة لشغل أوقات أبنائي بدلا من جلوسهم طيلة الوقت أمام التلفاز، وخاصة أن رمضان هذا العام يأتي مواكباً للأجازة الصيفية.

وحتي في الطاعات التي نكررها كل عام لارتباطها الوثيق برمضان كصلاة التراويح، وقراءة القرآن، وإفطار الصائمين، يمكننا أن نجدد في طريقة قيامنا بها. فمثلا، إذا كنت معتاداً علي ختم القرآن، يمكنك مثلا أن تضع كتاب تفسير بجوارك حتي تقرأ معاني الآيات التي لا تفهمها.. إذا كنت لا تقرأ القرآن بصورة صحيحة، فيمكنك أن تتعلم التجويد.. إذا كنت تحفظ أو تراجع، يمكنك أن تركز علي المتشابهات أو قصص الأنبياء في القرآن كله.. والأفكار لا تنتهي، الفكرة هي أن تفعل شيئا جديدا غير الذي كنت تفعله في الأعوام السابقة. بالنسبة لصلاة التراويح، إذا كنت تصليها في المسجد، لماذا لا تجرب أن تصلي بعض الأيام جماعة مع أسرتك؟

تعالوا نتخذ من رمضان نقطة انطلاق لنجدد أرواحنا، وأنفسنا وعقولنا، حتي إذا ما انتهي رمضان استمررنا في التجديد بأن نفعل شيئا جديداً كل أسبوع.. شيئاً واحداً فقط، مهما كان بسيطاً. والعجيب أننا سنجد في أنفسنا مقاومة حتي تجاه هذه التغييرات البسيطة. فإن أردت أن تجرب أكلة جديدة، ربما قلت لنفسك: ولكنها قد لا تعجبني، لأجرب في وقت آخر لا أكون فيه جوعانا مثل الآن، أو يكون معي مزيد من المال. وإن أردت أن تسلك إلي منزلك أو عملك طريقاً جديداً، فقد تقول: أنا اليوم مرهق.. سأتأخر.. ليكن ذلك في يوم آخر. وإن فكرت في شراء هدية أو قول كلمة طيبة لأحد أفراد أسرتك، فربما تقول: لا أعرف ماذا أشتري.. أنا اليوم متعجل.. ليس معي مال كافٍ.. أخشي ألا تعجبه (أو تعجبها).. ليسوا معتادين مني علي هذه التصرفات.. سيسخرون مني...الخ. والمبررات لن تنتهي، ولكن يمكنك أنت أن تدحضها، وتقاوم مقاومتك تجاه التغيير.

فلنبدأ من الآن مستثمرين فرصة النفحات الرمضانية، ولنتجنب التعرض "للّفحات" التليفزيونية.

 

المصدر: إعداد/ هدي الرافعي
  • Currently 63/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
21 تصويتات / 181 مشاهدة
نشرت فى 1 سبتمبر 2010 بواسطة hoda-alrafie

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

50,727