في وقت الأصيل، كان عم أصيل جاسا أمام حقله ينظر إلي الخضرة... اهدوء يخيم علي المكان ولا يُسمع إلا صوت العصافير وهي تهم بالعودة إلي أعشاشها بعد يوم من العمل والبحث عن الرزق.

وفجأة سمع عم أصيل صوتا مثل صوت فقاقيع الماء، فأخذ يتلفت حوله ليتبين مصدر الصوت، حتي رأي شيئا فضي اللون يلمع في السماء. كان هذا الشيء مستديرا وله أربعة قوائم.

أخذ هذا الشيء يقترب ثم يقترب، وعم أصيل جالس في مكانه ينظر إليه، وتسيطر عليه مشاعر متناقضة ومتداخلة: خوف من هذا الشيء الغريب، وفضول لمعرفة ما هيته التي لا يعلمها حتي هذه اللحظة، واستغراب من هذا الشيء الذي لم يره من قبل.

الأفكار تتزاحم في رأس عم أصيل: تري ما هذا الشيء؟ هل سيؤذيني؟ هل هي طائرة يهودية؟ هل اليهود الأنجاس يريدون معاودة احتلال مصر ليضموها إلي فلسطين؟ وكانت هذه الخاطرة كفيلة بطرد مشاعر الخوف التي كان عم أصيل يشعر بها، وهم بالقيام للتصدي إلي هذا الشيء بفأسه الذي لم يكن معه سواه في هذه اللحظة، ولكن الشيء اقترب أكثر وأكثر، فلم ير عم أصيل النجمة السداسية الزرقاء التي يشتهر بها اليهود علي هذا الشيء، فوضع فأسه وجلس وقد سيطر عليه الفضول أكثر وأكثر: ما هذا؟ ما هذا؟

هبط هذا الفضي علي الأرض، وقد لفت نظر عم أصيل تلك الزخارف الإسلامية التي تزين الشيء الفضي، فاطمأن قلبه قليلا. باب الكرة الفضية، ونزل منها ممشي منحدر، وعم أصيل واقف يرقب ما سينزل من هذه الكرة ذات الزخارف الإسلامية.

وبدأ ينزل من الكرة جمال كثيرة وصل عددها إلي أربعين جملا تحمل آلات علاجية وأدوية. اقترب عم أصيل من الكرة، وصعد علي الممشي المنحدر من الكرة، وهم بالدخول إليها لولا أن التقي برجل سمح السمت، مد يده ليصافح عم أصيل، وعانقه. تعجب عم أصيل، فمن يكون هذا الرجل الذي يسلم عليه وكأنه يعرفه إلا أنه أصبح أكثر اطمئنانا.

سأله عم أصيل: عفواً، هل لك أن تخبرني من أنت؟

الرجل: أنا طبيب من القرن السادس الهجري. وأنا، هل يمكنني أن أتعرف علي اسمك؟

عم أصيل (مترددا): أصيل... اسمي أصيل، وينادونني بعم أصيل.

الطبيب: اسمك جميل يا عم أصيل، يسعدني لقاؤك.

عم أصيل: شكرا لك، ولكن من هؤلاء الرجال (الذين رآهم عم أصيل يخرجون من الكرة بعد الطبيب)؟ وما هذه الجمال؟ وما هذه الكرة الفضية الغريبة؟

الطبيب: هذه الكرة هي آلة الزمن التي نقلتنا من عصرنا إلي عصركم، وهؤلاء الرجال هم إخواني وزملائي من الأطباء والممرضين، وهذه الجمال المحملة بالآلات الطبية والأدوية هي عبارة عن مستشفي متنقلة.

عم أصيل (مندهشا): مستشفي متنقلة؟!

الطبيب: نعم، ألا تعرف يا عم أصيل أن المستشفيات في الدولة الإسلامية كان منها الثابت ومنها المتنقل، فالثابت هو الذي ينشأ في المدن، والمتنقل هو الذي يجوب القري البعيدة والصحاري والجبال، لعلاج المرضي في كل مكان. وهذه المستشفيات المتنقلة كان بإمكانها أن الوصول إلي كل رقعة في الدولة الإسلامية.

عم أصيل (متعجبا): يالها من فكرة رائعة وراقية! وأني لكم بهذه الفكرة؟ من أية دولة أوروبية نقلتموها؟

الطبيب: يا عم أصيل، إن المسلمين هم أول من أسس المستشفيات في العالم، بل إنهم سبقوا غيرهم في ذلك الأمر بأكثر من تسعة قرون !!

وبدأت المستشفي تتحرك لاكتشاف الحالات الني تحتاج إلي علاج، ويبدو أن هذا الطبيب الذي كان يتحث إليه عم أصيل هو كبير الأطباء. وعم أصيل يراقب الأطباء وهم يؤدون عملهم بنظام وإتقان مندهشا، فلم يكن يعرف أو حتي يتخيل ذلك!

ثم سأل عم أصيل الطبيب: ولكن كيف كان حال المستشفيات في عصركم؟

الطبيب: كانت المستشفيات تقسم إلي أقسام بحسب التخصص، وكانت تضم بداخلها مكتبات ضخمة تحوي عددا هائلا من الطب، والصيدلة، والتشريح، وعلوم الفقه النتعلقة بالطب، وغير ذلك من علوم تهم الطبيب. وكانت تزرع بجانب المستشفي مزارع الأعشاب الطبية لإمداد المستشفي بالأدوية الذي يحتاجه.

عم أصيل: عظيم! وكيف كانت العناية بالمرضي؟

الطبيب: عندما يدخل المريض المستشفي فإنه يسلم ملابسه التي دخل بها، ثم يعطَي ملابس جديدة لمنع انتقال العدوي عن طريق ملابسه التي دخل بها المستشفي. ويدخل كل مريض العنبر الخاص به، ويمنع من دخول العنابر الأخري لمنع انتقال العدوي. كما كان كل مريض ينام علي سرير خاص به، وعليه ملاءات جديدة وأدوات خاصة.

قارن ذلك بالمستشفي الذي أنشيء في باريس بعد ذلك بقرون، إذ كان المرضي يجبرون علي الإقامة في عنبر واحد بصرف النظر عن المرض، بل والأكثر من ذلك، كان عدد المرضي يصل علي السرير الواحد إلي خمسة أفراد. وكان المرضي لا ينقلون خارج العنابر إلا بعد أربع وعشرين ساعة من الوفاة! وكان الأطباء والمرضي لا يدخلون العنابر إلا وهم يضعون كمامات علي الأنف من الرائحة شديدة العفونة بها!

عم أصيل: يا الله! ولكن قل لي، كيف كان يتم تأهيل الأطباء للعمل بهذه المستشفيات الكبري ؟

الطبيب: سأقول لك..كان الطبيب الأستاذ يمر علي الحالات الطبية في الصباح ومعه الطلاب، فيدون ملاحظاته ويصف العلاج، وهم يلاحظون ويتعلمون. ثم ينتقل الأستاذ بعد ذلك إلي قاعات كبيرة يق{ا فيها الكتب الطبية علي الطلاب، ويشرحها لهم ويجيب علي أسئلتهم. وأخيرا، يعقد لهم امتحانا في نهاية كل برنامج تعليمي، ويعطيهم إجازة في الفرع الذي تخصصوا فيه.

عم أصيل: صحيح أنا رجل بسيط، إلا أن الحياة وعملي بالزراعة علماني أن الممارسة العملية مهمة جدا حتي يتعلم الإنسان. ولكن معذرة، هل كان الفقراء يملكون المال الكافي للعلاج بمثل هذه المستشفيات الفخمة؟

الطبيب: يا عم أصيل، هذه الخدمة الطبية الراقية كانت تقدم لجميع المرضي في الدولة الإسلامية بلا تفرقة بينهم بسبب لون، أو عرق، أو دين أو غني وفقر. ولك أن تعلم أن العلاج كان غالبا بالمجان للغني والفقير علي حد سواء. وكان يقدم للمرضي أطايب الطعام والكميات المناسبة منه بلا تضييق عليهم، حتي أنه كان من علامات الشفاء أن يأكل المريض رغيفا كاملا ودجاجة كاملة في الوجبة الواحدة!

عم أصيل (ضاحكا): ليتني كنت مريضا

الطبيب ضحك ثم قال: رزقك الله الصحة يا عم أصيل. دعني أكمل لك: فإذا أصبح المريض في دور النقاهة دخل في قاعة مخصصة للناقهين، حتي إذا تم شفاؤه أعطي ثيابا جديدة دون أجر، إلي جانب مبلغ من المال يكفيه إلي أن يصبح قادرا علي العمل، حتي لا يضطر للعمل في فترة النقاهة فتحدث له انتكاسة!

عم أصيل (ضاحكا): ألم أقل لك.. ليتني كنت مريضا، ثم أطرق حزينا: لا ليتني كنت في عصركم

الطبيب (وقد أمسك يد عم أصيل وكأنه يودعه، وكانت القافلة قد عادة مرة أخري إلي آلة الزمن): قدر الله وما شاء فعل يا عم أصيل.. أخبر الناس عما سمعته مني علّ الله ينفع بهذه الأفكار أحداً فتنفَّذ، وحتي يعرف المسلمون كم هي عظيمة حضارتهم.. أخبرهم علّ الحماسة تدب فيهم فيعيدوا أمجاد أجدادهم.

ترك الطبيب يد عم أصيل، وعاد بظهره نحو آلة الزمن ملوحا لعم أصيل وعيناه تدمعان. ظل يعود بظهره حتي دخل آلة الزمن وانغلق الباب، وارتفعت آلة الزمن مرة أخري إلي السماء، وعم أصيل يلاحقها بعينيه اللتين تدمعان، ويلوح بيده وهو يفكر في هذا اليوم العجيب والجميل الذي لن ينساه ما بقي. 

المصدر: المعلومات التاريخية المذكورة في هذه القصة حقيقة، ومصدرها: كتاب "العلم وبناء الأمم" للدكتور/ راغب السرجاني. والصورة بعدسة: كريم منير
  • Currently 82/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
27 تصويتات / 259 مشاهدة
نشرت فى 22 إبريل 2010 بواسطة hoda-alrafie

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

50,718