قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (البقرة:208) أي خذوا الإسلام كاملاً دون نقصان .. لا تتخيروا ما يعجبكم وتتركوا ما لا يعجبكم ولا تُقَوِّلوا النصوص لانتقاء ما يوافق أهواءكم ... لعلكم تفقهون
من المعلوم أن الصحابي الجليل عُمر بن الخطاب رضى الله عنه كان شديد الحب لأخيه زيد بن الخطاب ... فلما قُتل زيد ... دخل القاتل الإسلام ليعصم دمه.
فقال له عُمر بن الخطاب : والله إني أكرهك كراهية الاْرض للدم المسفوح.
فقال له الرجل : اْيمنعني هذا حقاً من حقوق الإسلام.
فقال له عُمر: لا.
فقال الرجل: ما لي ولحبك ....إنما يبكي على الحب النساء.
وقال له عُمر رضي الله عنه: لا تريني وجهك أمامي في طريق.
ومن كتاب "عبقرية عُمر" للعقاد
جاء رجل إلى عُمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وكان هذا الرجل قد قتل أخا عُمر في معركة اليمامة عندما ارتد مع من ارتد ، (فقد قتل زيداً بن الخطاب في حروب الردة). وأسلم الرجل بعد ذلك ، وجاء إلى عُمر بن الخطاب يوماً ، فقال له عُمر: أأنت الذي قتلت زيداً؟ قال: نعم، قال عُمر: اغرب عن وجهي، فإني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم!، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين ، أوَ يمنعني هذا حقي؟ قال: لا. فقال: أيحل هذا جَلد ظهري؟ قال: لا .. فقال الرجل: ما لي ولحبك إنما يبكي على الحب النساء.
مما سبق يتضح مكنون كل إنسان في وضع مُعين .... ذهبت هذه المقولة لعدة مناحي حسب المتخصصين ... فعلماء الاجتماع وعلم النفس والأطباء النفسيين عزوا ذلك إلى أن كل من لا يجد حباً من طرف آخر يميل إلى هذه المقولة ! وكأنها محاولة لإثبات كرامة مهدرة بالتخلي عن المحبة .... وللأسف الشديد البعض يتخذ من هذه القصة دليلاً على جواز قطع علاقته مع شخص ما بسبب تنافر الاْرواح واختلاف الطبائع وبعض الحالات المتنافرة (حتى في عدم وجود مشاكل) بدرجة لا يُرجى منها اْلفة ولا مودة اعتقاداً منهم أن هذا هو الحق .... حتى تستقر نفوسهم المريضة.
فهل فهم موقف عُمر بن الخطاب من قاتل أخيه زيد بن الخطاب بهذه الصورة صحيح ؟ وهل الاستدلال به استدلالاً سليماً ؟
الحقيقة أنني لما قرأت الرواية راودتني الشكوك حول صحة هذا الخبر لأنه لا يتفق مع فطرة الإنسان التي فطرنا الله عليها ولا مع ما نعرفه عن سيدنا عُمر الذي بهرنا شباباً ... ما هو المصدر الذي تم النقل عنه ؟!!! ولأني بصراحة لم أجد هذه الرواية هكذا عندما التقى عُمر بن الخطاب (الفاروق = يفرق الله به بين الحق والباطل) ، (الخليفة العادل ... رضي الله عنه) بقاتل (زيد ... رضي الله عنه) ... وعن الحادثة التي أراها أكثر ثقة من الذي نقله مُحبي هذه الرواية للقاء الفاروق بقاتل زيد:
قال عُمر لأبي مريم الحنفي (قاتل زيد): أقتلت زيد بن الخطاب؟
فقال أبو مريم: أكرمه الله بيدي ولم يهني بيده.
فقال عُمر: كم ترى من المسلمين قُتلوا منكم يومئذ؟
قال: ألفا وأربعمائة يزيدون قليلاً.
فقال عُمر: بئس القتلى.
قال أبو مريم: الحمد لله الذي أبقاني حتى رجعت إلى الدين الذي رضي لنبيه عليه الصلاة والسلام وللمسلمين. فسر عُمر بقوله. (((هذه هي أخلاق سيدنا عُمر رضي الله عنه ... وهذا هو ما يصدقه العقل))).
الواضح أنه لا تعارض بين الروايتين ضمنياً فكل منهما يؤكد على المشاعر الجافة للقاتل ((اْبو مريم الحنفي)) وتعاليه وكبريائه .. وحبه واهتمامه الشديد بنفسه فقط ... مع عدم اكتراثه بأي شيء آخر (الأنانية وحب الذات). كما أن الاستشهاد بهذا الأثر عن عُمر بن الخطاب رضي الله عنه في غير موضعه ، إذ أن عُمر بشرٌ من البشر ... يكره أن يرى قاتل أخيه ... كما يكره ويحب كل الناس ، وخاصة أنه كان يحب أخاه زيداً حباً جماً فحزن عليه حزناً شديداً ، وكان يقول: ما هبت الصبا إلا وأنا أجد ريح زيد ، لقد سبقني إلى الحسنيين أسلم قبلي واستشهد قبلي.
وهناك فرق كبير بين القاتل حتى الموت وبين من تختلف معه في الرأي أو تختلف معه روحاً وطبعاً ، فالأرواح جنود مُجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف.
هذا الموقف من أمير المؤمنين عُمر رضي الله عنه قد سبقه إليه سيدنا مُحمد حينما جاءه وحشي مُسلماً ـ وهو قاتل حمزة ليفدي نفسه من ربقة العبودية من هند بنت عتبة ـ فقال له النبي : اجلس فحدثني كيف قتلت حمزة؟
قال وحشي: فحدثته ، فقال:" فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني ".
قال وحشي: فخرجت .. فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج مُسيلمة الكذاب ، قلت: لأخرجن إلى مُسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة ، فقَتَل مُسيلمةَ الكذاب.
في السياسة ومضمون العدالة الشرعية ... كما يدعو إليها ديننا الحنيف ... تُراعى مصالح الأمة والأفراد حسب الحقوق المُستحقة لهم فقط ... لا وزن للعواطف والهوى والراحة القلبية فهي لا تقدم ولا تؤخر في تنفيذ أو إصدار أو قبول أو منع حكم أو إجراء أو حق ... ولا نقبل العواطف المُعبر عنها بعبارات مثل: قلبي يميل إلى هذا .. أرغب .. أٌحب .. أتمنى ... فهذه لا تمنع ولا تثبت حقوق ، كما في سيرة سيدنا عُمر (الفاروق)!.
وفي محاولات جادة للإصلاح واهتداءً بديننا كمُحاولة لثني المُتغطرسين وبقبس من الآية الكريمة في قوله تعالى : فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (طه أيه 44) ..
لما فيها من أربع مسائل
الأولى قوله تعالى: اذهبا ... في أول الآية : اذهب أنت وأخوك بآياتي ... وهنا اذهبا ... فقد أمر الله تعالى موسى وهارون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون ، خاطب موسى وحده أولاً تشريفاً له ؛ ثم كرر للتأكيد . فلا يكفي ذهاب أحدهما. فالأول أمر بالذهاب إلى كل الناس ، والثاني الذهاب إلى فرعون.
الثانية : قوله تعالى : فقولا له قولا لينا ... دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يكون ذلك باللين من القول لمن معه القوة ، وضمنت له العصمة ، لهذا قال تعالى فقولا له قولا لينا ... وقال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى .... فكيف بنا ... ونحن أولى بذلك. وحينئذ يحصل الآمر والناهي على مرغوبه ، ويظفر بمطلوبه.
الثالثة : في معنى قوله : لينا ... فتكنية الكافر جائزة إذا كان وجيها ذا شرف وطمع بإسلامه وليس لغرض آخر مما هو في زماننا هذا !! .. هناك فارق بين الطمع في الدخول في الإسلام والدعوة للإصلاح في الدنيا . لهذا يجوز ذلك وإن لم يطمع بإسلام هذا الشخص ، لأن الطمع ليس بحقيقة توجب عملاً في الإسلام. وقد أكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ولم يقل وإن طمعتم في إسلامه أو في التقرب منه أو مصلحة خاصة منه ... كما أن كريم القوم هو كريم الأخلاق والمكانة ، لهذا يكون من الإكرام دعاؤه بالكنية.
القول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه ؛ يقال: لأن الشيء يلين لينا. فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولا لينا ، فمن دونه ... أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه ، وأمره بالمعروف في كلامه. وقد قال تعالى وقولوا للناس حسنا على ما تقدم في (البقرة).
الرابعة قوله تعالى : لعله يتذكر أو يخشى معناه : على رجائكما وطمعكما ؛ فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر. وقد تقدم في أول (البقرة) (لعل) لفظة طمع وترج فخاطبهم بما يعقلون. و (لعل) هنا بمعنى الاستفهام ... والمعنى فانظر هل يتذكر. أو بمعنى كي. فهو إخبار من الله تعالى عن قول هارون لموسى لعله يتذكر أو يخشى ؛ إن لعل وعسى في جميع القرآن لما قد وقع . وقد تذكر فرعون حين أدركه الغرق وخشي فقال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ؛ ولكن لم ينفعه ذلك ؛ رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله ؟ ! . قيل : إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه ، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان ، فشاور هامان فقال : لا تفعل ؛ بعد أن كنت مالكاً تصير مملوكاً ، وبعد أن كنت رباً تصير مربوباً . وقال له: أنا أردك شاباً فخضب لحيته بالسواد. ...
عفواً ... في زماننا هذا .. هناك من العباد من يعتقد أنك عندما تلين معه في القول ... فإنك ترغب في السيطرة عليه أو إزاحته عن مكانه أو الطمع في شيء ما مما هو زائل ... ويتناسى أنه عبد من عباد الله ، كما فعلها فرعون الذي لم يعترف بقدره ... فمن البشر من لا يتعظ ويغالي في فرعونيته ليتفوق على فرعون الفراعين ظناً منه أن هذا هو الحق !!! ... ندعو لهم بالهداية قبل فوات الأوان ....