سؤال: كيف اتخذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله؟ وهم لم يصلوا لهم ولم يصوموا لهم؟
الجواب: اتخذوهم مشرعين لهم من دون الله حيث أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم لهم وذلك هو اتخاذهم أربابا من دون الله.
قال ابن القيم: قال أبو البحترى فى قوله تعالى { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً..} قال: أما أنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرام الله حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية.
قال ابن عثيمين: الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية، لأنه تنفيذ لحكم الله الذى هو مقتض ربوبيته، وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين فى غير ما أنزل الله تعالى أربابا لمتبعيهم فقال سبحانه (36 التوبة): { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..} فسمى الله تعالى المتبوعين أربابا حيث جعلهم مشرعين مع الله تعالى، وسمى المتّبعين عبادا حيث أنهم ذلوا لهم وأطاعوهم فى مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى. وقد قال عدىّ حاتم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنهم لم يعبدوهم فقال النبى (صلى الله عليه وسلم): {بل إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فتلك عبادتهم إياهم} رواه الترمذى وحسنه. كتاب التفسير سورة النور 5/362 .
وعامة التفاسير يقولون بهذا التفسير المأثور عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم). لم يعبدوهم بصلاة أو بصيام أو بما شابه، إنها الطاعة للمشرّعين من دون شرع الله رب العالمين إنها الكفر المستبين والشرك الأكبر اللعين.إنها طاعة للشيطان وهى عبادته. ولقد نص القرآن على ذلك كثيرا ومن أصْرَحِه قوله تعالى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 2 الأنعام.
قال الشنقيطى فى أضواء البيان فى تعليقه على هذه الآية:
(فصرح أنهم مشركون بطاعتهم، وهذا الإشراك فى الطاعة واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان فى قوله تعالى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } وقوله تعالى عن أبى إبراهيم {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} وقوله تعالى {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيدا} أى ما يعبدون إلا شيطانا، أى وذلك باتباع تشريعه.. إلى أن قال: ومن أصرح الأدلة فى هذا أن الله جل وعلا فى سورة النساء بيّن أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب وذلك فى قوله تعالى {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} وبهذه النصوص السماوية التى ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التى شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله أنه لا يشك فى كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحى مثلهم..إلى أن قال: فتحكيم هذا النوع من النظام (يريد التشريع) المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض فى أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السماوات والأرض وتمرُّد على نظامه. ((الأضواء بتصرف واختصار)).
قلت: إن مؤمن الأمة أبا بكر (رضى الله عنه) هو أعظمها إيمانا وأعمالا، لو أطاع شياطين الجن والإنس فى تحليل لحم الشاة الميتة غير المذكاة بحجة أنها ذبيحة الله وقتلته، وأنها الى من ذبيحتهم وقتلتهم، لو أطاعهم –وحاشاه- لصار مشركا مخلدا فى النار، وأكد الله ذلك بمؤكدين: (إن، واللام) إنكم لمشركون. بل النبى (صلى الله عليه وسلم) هو أول مخاطب بذلك الخطاب..فالأمر إذن جلل وخطير. إنه كفر برب العالمين إننا نعيش الآن أزمان إهدار الشريعة جملة وتفصيلا، والناس بين غفلة وجهل وإعراض وأحيانا سوء قصد. الشريعة مهدرة والناس بالملايين فى العالم الإسلامى يتحاكمون إلى القوانين الوضعية ويظنون أنهم لم يرتكبوا كفرا ولا شركا بل يحسبون أنهم مهتدون. يقول بعضهم: نحن نؤمن بالرب الخالق الرازق المحى المميت ونصلى له ونسجد ونصوم ونزكى ونحج فما علاقة التشريع بالربوبية؟! أقول: هنا يلزم أن نبين الجوانب الثلاث للربوبية كما فصلها القرآن تفصيلا.
جوانب الربوبية: الجانب القدرى الكونى- الجانب التشريعى- الجانب الجزائى. وردت لفظة الرب (مفرد ومضاف) فى القرآن حوالى 965 مرة موزعة سياقاتها على الجوانب الثلاث:
أولا: الجانب القدرى الكونى: القدرى لقوله تعالى {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} والكونى لقوله تعالى {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وهو الخلق وتدبير أمر المخلوقات كخلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق الملائكة والجن والإنس والطير والحش والأنعام والدواب والرياح والسحاب المسخر والنبات والشمس والقمر والنجوم والمجرات والليل والنهار (الآيات) والناس يقرون بهذا الجانب والقرآن يحتج عليهم بإقرارهم على ما أنكروه من الجانبين الآخرين (التشريعى والجزائى)، أوالنبوات والمعاد.
* وعلماء السوء يهونون من هذه الردّة الظاهرة، يهونون من شأن الحكم بغير ما أنزل الله والذى هو حكم الجاهلية فيجعلونه كفرا دون كفر، أو يشترطون الاستحلال، وسيأتى الفصل فى ذلك إن شاء الله.
ومن أنكر الآيات الدالات على ربوبيته سبحانه ظلما وعلوا فقد أخبرنا الله عز وجل أنه قد استيقنتها أنفسهم، قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} {ولئن سألتهم..} ومئات السياقات فى القرآن يرشد فيها الله عز وجل عباده إلى الاستدلال بهذا الجانب (المخلوقات وتدبير أمرها) على الجانبين الآخرين أو على أحدهما أو على توحيد الأسماء والصفات أو على توحيد الإلهية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ..} الآيات 5-7 الحج.
وقال: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} القيامة. وقال {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} 6 الزمر.
وقال: { أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ..} 60-66 النمل. ولما أعرضوا عن الذكر قال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)} الشعراء 7، 8، 9.
وكل المخلوقات وحركاتها وسكناتها وأقدارها وتدبير أمرها كل ذلك إنما يكون بكلمات الله القدرية الكونية، وهى كلمات الله التامات التى لا يجاوزها بر ولا فاجر، فهى الكلمة العليا التى لا يسبقها شىء وفى الحديث {لو كان شىء سابق القدر لسبقته العين..}. والعين لا تسبقه لأنها هى أيضا من القدر ولا تكون إلا بقدر وجميع أفعال المخلوقات الأحياء بقدر، قال تعالى: {وما كانوا سابقين} وقال { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ } فما شاء الله كان وإن لم يشأه الخلق، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الخلق. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقوله تعالى فى آية براءة { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } على القراءة بالرفع: هى الكلمة القدرية الكونية. ولاحظ إضافة الكلمات للربوبية فى قوله تعالى {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 109 الكهف. وكل ما فى السماوات والأرض إنما هى من آلاء الله ونعمه على الناس ابتداء بغير سابقة عمل منهم. قال تعالى { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.. الآية} 21 لقمان. وقال {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} الجاثية 12، 13. وقال {فبأى آلاء ربكما تكذبان}.
والقرآن يذكر بنعم الله وما تستوجبه وتقتضيه من شكر النعمة من واجب السمع والطاعة وهو أداء الواجبات الشرعية، ليتم نعمته عليهم بالرسل والتشريع والجزاء. قال تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} المائدة، وقال { قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} وقال { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14)} 13-14 الزخرف.
وقال { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191).. رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا.. الآيات} آل عمران.
هذه الآيات من سورة آل عمران ويل لمن لاكها بين لحييْه ولم يتدبرها.
إن أولى الألباب تناجيهم فطرتهم وعقولهم بأن الإحكام والإتقان والحسبان الدقيق فى جميع المخلوقات والحكمة البالغة في كل شىء، والرعاية والاهتمام بهذا الإنسان تناديهم بأن هذا لا يكون باطلا، وبأن الله عليم حكيم ولابد من إرسال الرسل وإقامة الحجة، ولابد من يوم الحساب للثواب والعقاب إذ أَذِن الله قدرا بوجود المؤمن والكافر، المقسط والظالم، والسارق والمسروق، والله يتعالى عن خلق هؤلاء عبثا وتركهم سدى، لذلك استعاذوا بربهم من عذابه { سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }، ثم أتاهم المنادى بالإيمان بما نادتهم به فطرتهم وعقولهم الصريحة أَن آمنوا بربكم فآمَنُوا ورَجُوا الخير من الله سبحانه.
وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} مالذى يصرفكم صرفا شديدا مفاجئا عن معرفة نعم الله وأنه وحده صاحب النعمة فهو وحده يستحق العبادة. والقرآن مملوء من السياقات المجملة والمفصلة فى تقرير النعمة وحقها من الشكر الذى لا يكون أساسا إلا باتباع شرع رب العالمين، وإنما ذكرت إشارات فقط كأمثلة سريعة.
ثانيا: الجانب الجزائى: أى الثواب والعقاب فى الدنيا ، والآخرة غير أن الجزاء الدنيوى داخل تحت الجانب القدرى الكونى من الربوبية، ومن أمثلة ذكر الجزاء الدنيوى فى القرآن:
- {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)..إلى قوله إن ربك لبالمرصاد} الفجر.
- { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} الأعراف. و{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ..} الرعد.
- {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} – {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ} 27 العنكبوت. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا..} الأعراف.
ومن أمثلة ذكر الجزاء الأخروى فى القرآن:
قوله تعالى {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} النبأ – {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } نون وقوله {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} هود وقوله {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وقوله { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}. وقوله {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
ثالثا: الجانب التشريعى: وهو الوحى وإرسال الرسل وإنزال الكتب:
قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} السجدة. وقال { نُودِي.. أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال { إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 104 الأعراف. وقال {إِنِّي رَسُولُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ} وقال {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الشعراء. وقال { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 16 الشعراء. وقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} 17 آل عمران. وقال {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}61-67 الأعراف وقال {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} 29 الأعراف. وقال {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ..} 33 الأعراف. وقال {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} 62 الأعراف. وقال {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً..} 80 الأنعام وقال{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي..} وقال {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ..} ومئات الآيات فى ذلك الجانب من جوانب الربوبية، فكيف يكون مؤمنا مَنْ دفع او أهدر شيئا من ذلك الجانب؟؟ وكيف غفل المسلمون كل هذه الغفلة عن كتاب ربهم وسنة نبيهم حتى أُهدِرت الشريعة وغيبت عن حياتهم وهم شهود، وحكمت فيهم بدلا عنها شرائع الطواغيت، حتى وصل خصوم الإسلام وأعداؤه إلى ما يريدون من إبعاد الإسلام عن حياة المسلمين!!! إنا لله وإنا إليه راجعون.
ألا ما أقبح الإرجاء والمرجئة وما أقبح علماء السوء، وما أقبح الدعاة الذين يستعملون آلة الدين للدنيا، ويخطبون بدعوتهم ود السلطان، فيهونون من إهدار الشريعة بجعله كفرا دون كفر ولا يكون أكبر إلا بالاستحلال مثله كمثل مجرد الذنب او المعصية التى تكون كفرا أكبر باستحلالها.
إن كلمة الشرع الربانى يجب أن تكون هى العليا فى حياة الناس، إنها كلمة ربهم عز وجل وفى الصحيحين من حديث أبى موسى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) سئل عن الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل رياء والرجل يقاتل شجاعة أى ذلك فى سبيل الله فقال {من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله}. ولو شاء الله لجعل الكلمات الشرعية كالكلمات القدرية مستلزمة لآثارها قال تعالى { إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}.
فائدة: تلك هى الجوانب الثلاث للربوبية وتظهر فيها آثار مقتضيات وأحكام الأسماء الحسنى والصفات العلى وينبغى مراعاة ذلك عند دراسة الأسماء الحسنى، ونوضح بمثال نختار فيه اسما له أكبر التعلق بموضوعنا وهو "الحَكَم".
الحَكَم: هو الذى يحكم ما يريد (قدرا وشرعا وجزاءا) ولا يُرَدّ حكمه وتمتنع معارضته، ويمتنع عليه الظلم بل هو الذى يمنع الظلم وهو صاحب حكمة تمنع من الجهل، وكل ذلك واقع فى الجانب القدرى والجزائى، أما فى الجانب الشرعى فهو الذى ابتلى الله به المُكلفين كما سبق وفرض عليهم الالتزام به فمن امتنع عن الالتزام فسيأتيه الحكم جزاءا يوم القيامة قال تعالى {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنْ النَّارِ } غافر.
من أمثلة الحكم القدرى الكونى فى القرآن:
41 الرعد {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }.
48 الطور {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا..}
67 يوسف {وَقَالَ يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ}
من أمثلة الحكم الجزائى الأخروى:
56 آل عمران {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
56 الحج {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ..}، 62 الأنعام {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين}
- {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} الشعراء، وقال {ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} 99 يونس وقال {أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} ولكنه أراد ابتلائهم وامتحانهم {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ومن شاء فليحكّم شرع الحَكَم ومن شاء فليعرض.
من أمثلة الحكم الجزائى الدنيوى: (وهو يدخل تحت الحكم القدرى)
87 الأعراف {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } 109 يونس {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} 157 الأنعام {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} 112 الأنبياء {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }
من أمثلة الحكم الشرعى: 40 يوسف {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ..}
114 الأنعام {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً..}
105 النساء {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ..}
40 المائدة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } – الظالمون – الفاسقون
40 المائدة {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
51 النور {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا..}
وأحيانا ترد كلمة الحكم شاملة للأحكام الثلاث، قال تعالى الكهف {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} وقال {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
عود إلى بيان خطورة إهدار أو دفع أو رد شىء من شريعة الرب السيد الملك العلى الكبير ذى الكبرياء صاحب الكلمة العليا:
- من فعل ذلك خرج من الملة بإجماع المسلمين، وإليك طائفة من حكايات الإجماع على ذلك:
قال ابن حزم فى مراتب الإجماع: ولم يعلق عليه ابن تيمية فى نقده لكتاب مراتب الإجماع. "واتفقوا على أنه مذ مات النبىُّ (صلى الله عليه وسلم) فقد انقطع الوحى، وكمل الدين واستقرت الشريعة، وأنه لا يحل لأحد ان يزيد فيها شيئا برأيه بغير استدلال منها ولا أن ينقص منها شيئا ولا أن يبدل شيئا مكان شىء، ولا أن يحدث شريعة وأن من فعل ذلك كافر".
قال ابن كثير: (البداية والنهاية): "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر (مثل شريعة موسى وعيسى (عليه السلام) المنزلة من عند الله) فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه من فعل ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين".
قال ابن تيمية: 267/3: "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه فهو كافر مرتد باتفاق الفقهاء."
قال اسحاق بن راهويه: "أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب النبى (صلى الله عليه وسلم) أو دفع شيئا مما أنزل الله عز وجل أو قتل نبيا من الأنبياء، أنه كافر بذلك وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله."
قلت: وما نحن فيه الآن هو دفع عام لما أنزل الله إلا قليلا، وجارى إهدار ما تبقى من الثوابت فى النكاح والطلاق والمواريث وما شابه.
ومن العلماء المعاصرين:
قال الشيخ الشنقيطى: (كما مر بنا فى البداية): وبهذه النصوص السماوية التى ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التى شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله عز وجل على ألسنة رسله (ص) أنه لا يشك فى كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحى مثلهم.
قال الشيخ حامد الفقى:
(من اتخذ كلام الفرنجة قوانين يُتحاكم إليها فى الدماء والفروح والأموال، ويقدمها على ما علم وتبين من كتاب الله وسنة رسوله فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه بأى اسم تسمى به ولا أى عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها) هامش فتح المجيد 406.
قال الشيخ أحمد شاكر: "إن الأمر فى هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس هى كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب إلى الإسلام كائنا من كان فى العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ نفسه، وكل امرىء حسيب نفسه" عمدة التفسير 2/172-174 ثلت: وله كلام نفيس جدا فى هذا فارجع إليه.
قال الشيخ محمود شاكر: بعد أن ذكر حكاية أبى مجلز(رضي الله عنه) مع الإباضية وفظاعة القضاء فى الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، وإصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله فى كتابه وعلى لسان نبيه. قال:
"فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى وهذا كفر لا يشك فيه أحد من أهل القبلة –على اختلافهم فى تكفير القائل به والداعى إليه، والذى نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء وإيثار حكم غير حكم فى كتابة وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما فى شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة وادعاء المححتجين بذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها" عمدة التفسير.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: فى نقده لدعوة القومية العربية: قال بعد أن ذكر الواقع المزرى من تحكيم القوانين الوضعية: "هذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة كما قال تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } وقال تعالى {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ..الآيات} وكل دولة لا تحكم بشرع الله ولا تنصاع لحكم الله فهى دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها فى الله حتى تؤمن بالله وحده وتحكم شريعته كما قال عز وجل {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..الآية}."
هذه مجرد طائفة من كلام الأئمة وحكايات الإجماع يستبين به شناعة وفظاعة إهدار الشريعة على النحو الذى تعيشه الآن أكثر بلاد المسلمين. إن الرجل ليسرق ويزنى ويشرب الخمر ولا يحرم بذلك من دخول الجنة بل يرجو المغفرة فلا يدخل النار، فَلِم فى هذه القضية: يخلد فى النار فلا جنة ولا موت؟! والرجل لا يسرق ولا يزنى لكنه فقط يقول: ذلك حلال ومات على ذلك فهو مخلد فى النار لا جنة ولا موت.. وأنا أبين لك سر ذلك قبل أن تأخذك الدهشة والعجب:
أولا: إهدار الشريعة فى بلد من البلاد فيه تعطيل وإهدار لِمَلِكِيَة الله فى هذا البلد: الله تعالى هو رب الناس وملك الناس وإله الناس وهو الملك الحق:
والملك يتصرف بأمره وقوله (والعبيد والمماليك يسمعون ويطيعون) أما المالك فيتصرف بفعله، فأخص خصائص الملك الحق: الأمر والنهى وهما الشريعة، فإهدارها: إباء لحق الملك فى السمع والطاعة، وبالتالى: إهدار لحق الإلهية. ورب الناس: تمام ربوبيته لهم أن يكون ملكهم، وتمام ملكيته لهم أن يكون إلههم وأفاد هذا المعنى نظم الآيات بدون العطف الذى فيه إيذان بالمغايرة، وتكرار لفظة الناس بدلا من الإضمار كما يقول ابن القيم.
ثانيا: إهدار الشريعة فيه إهدار لحق السيادة لله عز وجل:
الرب هو المالك والسيد والمربّى والمصلح والقائم بشئون المربوبين.
والسيد الله: فى حديث عبد الله بن الشخير عند أحمد وأبى داود أن رجلا من وفد بنى عامر قال لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): أنت سيدنا. فقال (صلى الله عليه وسلم): السيد الله فقلنا فأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال (صلى الله عليه وسلم) {قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان} والمراد هنا السيادة المطلقة لله وحده الذى يملك كل شىء ولا يعارض ذلك بقوله (صلى الله عليه وسلم) {أنا سيد ولد آدم ولا فخر} وقوله لأصحابه: {قوموا لسيدكم}يريد سعد بن معاذ ، فقال عمر (رضى الله عنه) {إن سيدنا الله يا رسول الله} فقال (صلى الله عليه وسلم) {ما أنزلوه} وقوله تعالى عن يحيى (عليه السلام) {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ } وقوله تعالى {وألفيا سيدها لدى الباب} وقول أبى بكر (رضى الله عنه) لسلمان (رضى الله عنه) أتقول هذا لسيد قريش يريد أبا سفيان (رضى الله عنه)، فكل هذه سيادة نسبية مقيدة بحسب استعمالها.
قال الراغب: سيد الشىء هو الذى يملك سواده أى شخصه جميعه. (( فيض القدير)).
قال الحليمى: معناه: المحتاج إليه بإطلاق، فإن سيد الناس إنما هو رأسهم الذى إليه يرجعون، وبأمره يعملون، وعن رأيه يصدرون، ومن قوله يستهدون. ((فيض القدير)).
قلت: ولله المثل الأعلى: وحيه وشرعه يجمع هذه المعانى.
* لقد نشب صراع دموى مرير فى أوربا على السيادة بين المَلِك والامبراطور والبابا والكنيسة والإقطاع إلى أن استقروا على أن تكون السيادة للأمة بطريق الأعضاء المنتخبين الممثلين حقيقة لمدنهم أو محافظاتهم فتكون السيادة ممثلة فى هذه المجالس البرلمانية تشرع ما تريد، فلما نقلت هذه النظم الكافرة إلى بلاد المسلمين فى ظل تنحية أو إهدار الشريعة اختلف الأمر تماما ، إذ هؤلاء الأعضاء لا يمثلون أُمَتَهم إلا قليلا فأصبحت السيادة لشخص واحد هو الذى يملك حل هذه المجالس وعقدها، والقاصى والدانى والعام والخاص يعرف ذلك، فالأمر إذن واضح: السيادة الممثلة فى التشريع ليست لله وإنما هى لغيره: سواء الأمة الممثلة فى المجلس أو للشخص الذى يملك السلطان على المجلس.
فإهدار الشريعة فيه إهدار لحق الله فى السيادة كما فى الحديث {السيد الله}.
ثالثا: إهدار الشريعة فيه إهدار لحق الله فى الكبرياء فى الأرض:
قال تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} سورة الجاثية.
قال ابن كثير: قال مجاهد: الكبرياء: يعنى السبطان: أى هو العظيم المُمَجَد الذى كل شىء خاضع لديه فقير إليه.
وورد فى سورة يونس بيان قرآنى لمعنى الكبرياء: قال تعالى حاكيا عن قوم فرعون {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ..} يونس، أى: وتكون لكما العظمة والرياسة والسيادة والتشريع فى أموالنا وحياتنا وأنفسنا ونكون لكما عبيدا تابعين حيث الكلمة كلمتكما والشورى شوراكما!!
وموسى (عليه السلام) لم ينف أنه جاءهم بذلك، جاءهم بدين الله لتكون السيادة لله، ولتكون الكبرياء لله بأرض مصر وحده لا شريك له، كما له الكبرياء فى كل الأرض كما له الكبرياء فى السماوات، وما من رسول إلا قال لقومه: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
كما قال يوسف (عليه السلام) {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} والعبادة فيها غاية الذل والتعظيم للملك السيد الذى له الكبرياء فى السماوات والأرض. ولقد ورد لفظ الكبرياء فى الحديث القدسى {الكبرياء ردائى والعظمة إزارى فمن نازعنى واحدا منهما أدخلته نارى} وكما يقول شيخ الإسلام: الرداء أشرف وأعلى من الإزار، وبذلك تكون الكبرياء أكمل من العظمة، فتتضمن العظمة والسلطان والسيادة ، أما العظمة فلا تتضمن الكبرياء، وإن كانت تستلزمها.
أما سورة الجاثية التى خُتمت بهاتين الآيتين فلها مبحث حاص مستقل ، واختصاره أنها من بدايتها إلى نهايتها نظم رائع فى بيان الجوانب الثلاث للربوبية، وما يقتضيه كل جانب ويستلزمه حيث خُلق الكون كله بالحق: صادرا عن العلم والحكمة (العليم الحكيم) وهذا هو الحق السابق للخلق، مشتملا على العلم والحكمة وما اشتملت عليه المخلوقات من الحِكم والمصالح والمنافع والآيات الدالة للعباد على الله ووحدانيته وصفاته وصدق رسله وأن لقائه حق لا ريب فيه، وهذا هو الحق المقارن لهذه المخلوقات، آيلا إلى الحق الذى هو غاية خلقها ، وهى غايتان: غاية تراد من العباد: وهى أن يعرفوا ربهم وكمالاته عز وجل، ويعبدوه لا يشركوا به شيئا، وغاية تراد بالعباد: وهى الجزاء بالعدل والفضل والثواب والعقاب.
فالحق سابق للخلق مقارن له غاية له، لذلك أتى بالباء (بالحق) الدالة على هذا المعنى دون اللام التى تفيد معنى الغاية وحدها(انظر بدائع الفوائد 4/162-165).
فهذا النظم العجب لا تجد له ختاما مثل الذى ختمت به السورة { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} سورة الجاثية. فقف عند كل كلمة فيها ولاحظ مايلى:
1- الاختصاص فى الحمد {فلله الحمد} وفى الكبرياء {وله الكبرياء}. والحمد: الكمال كله بلا ذرة من نقص فلا تجد الخلائق كلها عليه سبيلا، وستشهد بذلك عند انتهاء القضاء بين العباد {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فلم يظلم أحدا ولم يخطىء خطأً ولم ينس شيئا فلم يجدوا عليه سبيلا.
2- الربط بين الاختصاص بالحمد وبين الربوبية بجوانبها كما سبق.
3- الربط بين ربوبيته للعالمين وربوبيته للسماوات والأرض كما قال إبراهيم (عليه السلام) {بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ..} وكما قال أصحاب الكهف {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً} وكما قال تعالى فى غير موضع {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ..} ولاحظ أن رب العالمين هنا فى (الجاثية): بغير حرف العطف للتنبيه على هذا المعنى.
4- الكبرياء: كما سبق: العظمة والسلطان وتتمثل أول ما تتمثل فى حياة الناس فى الشرائع التى أنزلها الله لعباده.
5- الربط بين {وله الكبرياء..} وبين الربوبية فى الآية السابقة، فالكفر بالشريعة كفر بمن له الكبرياء وهو كفر بالربوبية للسماوات والأرض والعالمين.
6- لو شاء الله ما تخلفت بقعة من أرض عن التزام تحكيم شريعته فهو العزيز لكنه هو أيضا الحكيم الذى خلق الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملا.
رابعا: إهدار الشريعة فيه إهدار لكلمة الله فضلا عن أن تكون هى العليا:
وهذا أمر لا يجهله أحد، مثلا: حرم الله الزنا وجعل عقوبته الرجم للمحصن والجلد لغير المحصن. تلك هى كلمة الله فى الزنا. أما فى القانون الوضعى: إذا تم الزنا برضى الطرفين (الزانية والزانى) فلا جريمة ولا عقوبة، تلك هى كلمة القانون الوضعى أو كلمة الطاغوت، والواقع الآن أن كلمة الطاغوت هى العليا ولها السيادة ولها الكبرياء، فهي النافذة بقوة الدولة، والناس لا يملكون اعتراضا، أما كلمة الله فمدفوعة مهدرة لا وجود لها.
ولقد سبق الحديث {من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا وهى النافذة وذات السيادة والكبرياء والسلطان}.
وتتم المناقشات التشرعية الوضعية فى أمور لله فيها كلمة، وتصدر القوانين الوضعية بلا اعتبار لكلمة الله وكأن شيئا لم يكن. ثم يأتى الدعاة من طلاب الدنيا بجهل وظلم ليقولوا للناس: هذا كفر دون كفر ولا يكون كفرا أكبر إلا بالاستحلال!! قاتلهم الله أنى يؤفكون!!
وإن عليك أيها المسلم كلما سجدت وقلت: سبحان ربى الأعلى أن تذكر أن عليك أن تكون مع الصادقين، الأعلى يجب أن تكون كلمته هى العليا فى حياتك فى نفسك وأهلك ومالك وتعاملاتك، وإن كفر بها من كفر.
خامسا: إهدار الشريعة كفر بدعاء الله باسميه: العلى الكبير:
كبير القوم (العائلة- القبيلة- وما شابه) هو أعلمهم وأفضلهم، يرجعون إليه فى المهمات واحتمالُ خطئه أو ضلاله مستبعد عندهم، وكلمته فيهم نافذة مسموعة مطاعة، فهى عليا لا تساميها كلمة لآحادهم، ينادونه: يا كبير: ما تقول فى كذا وكذا. أما الذى يلى تدبيرهم فهو سيدهم، وقد يقال للسيد: الكبير لكن لا يقال للكبير سيدا حتى يلى تدبيرهم. (راجع الفروق لأبى هلال العسكرى).
· لا سيما إن دخل فى الكهانة وادعاء علم الغيب وقراءة المستقبل.
قال تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ..} إلى قوله {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} وكبيرهم أعلمهم وأفضلهم وأرضاهم رأيا عندهم، أما كبيرهم فى السن فكان روبيل أكبرهم سنا، فسمعوا قول كبيرهم وأطاعوه وعملوا بما أمرهم به تماما.
قال تعالى {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ..} فهو المعلم المطاع الذى لا يخالف. والصبىّ من أهل الحجاز إذا جاء من عند معلمه يقول: جئت من عند كبيرى.
قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا..الآية} ففى كل قرية مجرمون، وأكابر المجرمين هم الذين يمكرون فيها بالأمر بالكفر وجعل الأنداد لله كما قال تعالى {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً}
وقال تعالى {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)} 67، 68 الاحزاب. السادة هم الأمراء الذين يلون تدبيرهم والكبراء هم علماؤهم ومشيختهم كما يقول ابن كثير فى تفسيره.
والسيد الحق هو الله عز وجل كما سبق بيانه
والكبير الحق: هو من له الكمال فى العلم حقا، وهو عالم الغيب والشهادة حقا، وله الكمال فى الحكمة حقا، وهى العلى الأعلى حقا بجميع معانى العلو لا سيما علو القدر والقهر والفضل، وهو المتعال حقا عن الظلم والضلال والنسيان والخطأ وجميع النقائص ولقد أفاد كل هذه المعانى: اقتران الكبير بالعلى (خمس مرات فى القرآن) واقترانه بعالم الغيب والشهادة والمتعال (مرة واحدة) فهو العلىّ فى كل كمالاته، كما هو المتعال عن جميع النقائص، فهو الكبير الحق، وكل ما يدعى من دونه من الكبراء وغيرهم هو الباطل قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}61 الحج. ومثلها فى سورة لقمان مع اختلاف: وأن ما يدعون من دونه الباطل. فالله وحده هو العلى الكبير[1][1]، إذن فهو وحده المستحق للاستسلام له والاستماع لوحيه والإنصات له والطاعة له وتحكيمه فى كل شىء، وقبول حكمه والرضا به بلا أدنى مثقال ذرة من حرج من قضائه، مع العمل الفورى دون توان أو فتور أو تفريط كما قال تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} بل يؤخذ وحيه بقوة.
ولننظر الآن كيف تستقبل السماوات العلا وما فيهن من الملأ الأعلى كلام الله إذا تكلم بالوحى:
قال تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ } 22 سبأ. ومالهم فيه من شرك وماله فيهم من ظهر ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا نزع من قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قال الحق وهو العلى الكبير. هذه الآية قطعت كل عروق الشرك ثن ختمت بما يؤكد الوحدانية ببلاغة منقطعة النظير ، وبسط ذلك في موطن آخر.
ومن حديث أبى هريرة غ4800 قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
{إذا قضى الله الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خَضَعانا أو خُضْعانا لقوله كأنه سلسلة على صنوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم قالوا للذى قال: الحقو هو العلىّ الكبير فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض- ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة. فيقال: أليس قد قال لنا بكذا وكذا: كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التى سمع من السماء}. قلت فيكون ذلك من أسباب علو الكاهن فى قومه ليصبح كبيرا يُسْمع له ويطاع.
ومن حديث النواس بن سمعان عند الطبرانى مرفوعا:
{إذا تكلم الله بالوحى أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع أهل السماء بذلك صعقوا وخروا سجدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل (عليه السلام)، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فينتهى به على الملائكة، كلما مر بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال الحق فينتهى به حيث أُمر} وعند ابن أبى حاتم {إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحى بأمره تكلم بالوحى، فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة شديدة أو قال: رعدة شديدة من خوف الله..}
فإذا كنت قد علمت حال السماوات من الرجفة الشديدة إذا تكلم الله بالوحى أو قضى الأمر فى السماء، وحال الملائكة إذ يصعقون ويخرون ساجدين، وحال النبى (صلى الله عليه وسلم) إذا نزل عليه الوحى، وقول جبريل ومن معه فى نهاية كلامهم {وهو العلىّ الكبير}، فما حالك عندما تستقبل كلام العلى الكبير او كلام رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وما قولك فى إهدار شريعة العلى الكبير جملة وتفصيلا وتنحيتها عن حياة المسلمين على النحو الذى تعلمه؟
وما قولك فيمن جعل ذلك كفرا دون كفر، واشترط له الاستحلال ليكون كفرا أكبر مستدلا بقول أهل العلم عن القاضى المسلم الملتزم للشريعة الحاكم بها لكنه فى واقعة معينة تحت تأثير رغبة أو رهبة أو هوى أو رشوة تلاعب فى إثباتها أو فى نفيها أو فى تكييفها حتى لا تدخل تحت العقوبة الشرعية أو العكس، فتلاعُبُه فى تحقيق المناط لا فى تحليل حرام ولا فى تحريم حلال ولا فى تبديل شرع، فهذا القاضى حكمه عند أهل العلم: كفر دون كفر ما لم يستحل تلاعبه هذا، فما قولك أيها القارىء فيمن أخذ هذا الحكم وأنزله على من أهدر الشرع وحكّم القوانين الوضعية مخالفا بذلك ما أجمعت عليه الأمة..
قال ابن حزم فى كتابه مراتب الإجماع:
باب من الإجماع فى الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع
وذكر تحته ضمن ما ذكر: واتفقوا على أنه مذ مات النبى (صلى الله عليه وسلم) فقد انقطع الوحى وكمل الدين واستقرت الشريعة..إلخ، وقد سبق ذكره مع حكايات إجماع أخرى. لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يسلم لابن حزم فى الإجماع على كفر المخالف وضرب لذلك مثلا، وهذه مسألة دقيقة لا يتسع المقام لبسطها وإنما أردت أن أبيّن شناعة المخالف وأنه على خطر عظيم، ولولا عوارض الأهلية كأن يُعذر بجهله مثلا لكان حكمه كما ذكر ابن حزم رحمه الله.
ولا أطيل الكلام عن قول العلامه محدث الزمان الشيخ الألباني أمه كما رد عليه الشيح ابن جبرين قائلا :"من قال بذلك من أهل الزمان فهو محجوج بإجماع السابقين" ، وكما رد أيضا الشيخ ابن عثيمين على كلمة الشيخ الألباني في جريدة "المسلمون" وهي فتوى مشهورة منشورة .
وأقول لهؤلاء :"إن الشيخ الألباني بشر يصيب ويخطئ ، فدخلت عليه داخله ، أو اغتر بكلام المرجئة ، وهو إمام عظيم غير متهم والحق أحق أن يتبع لا سيما وقد أجمع عليه المسلمون" .
-----------------
[1] وهو: ضمير فصل يفيد القصر الحقيقى المفيد للاختصاص فلا علىَّ كبيرَ غيره.
مقدمة فى قضية الحكم بغير ما أنزل الله |
ساحة النقاش