شرح عمدة الأحكام . الحديث الـ 23
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأهويت لأنزع خفيه ، فقال : دعهما ، فإني أدخلتهما طاهرتين ، فمسح عليهما .
في الحديث مسائل :
1 = ثبوت حكم المسح على الخفين ، وهو ثابت بالكتاب والسنة
أما بالكتاب ففي آية المائدة على قراءة الجر في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ )
فقُرأت : ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب
و ( وَأَرْجُلِكُمْ ) بالكسر ، وهو محمول على المسح على الخفين ، لا على القدمين حال الوضوء ، كما هو فعل الرافضة .
ولما وقعت المخالفة في هذا من قبل الرافضة أدخل بعض العلماء مسألة المسح على الخفين في كتب العقيدة من هذا الباب ، فقد نص عليها الإمام الطحاوي رحمه الله فقال : ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر .
مع أن هذه المسألة فقهية وليست عقدية .
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في شرح كلام الطحاوي المتقدم :
تواترت السنة عن رسول الله بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين ، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة ، فيُقال لهم : الذين نقلوا عن النبي الوضوء قولا وفعلا ، والذين تعلموا الوضوء منه وتوضؤوا على عهده وهو يراهم ويقرهم ونقلوه إلى من بعدهم أكثر عدداً من الذين نقلوا لفظ هذه الآية .
وأما ثبوت المسح بالسنة فقد ثبت عن أكثر من أربعين صحابياً .
قال ابن عبد البر رحمه الله : وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين نحو أربعين من الصحابة واستفاض وتواتر .
وقال في فوائد حديث الباب : وفيه الـحُـكم الجليل الذي فرق بين أهل السنة وأهل البدع ، وهو المسح على الخفين لا ينكره إلا مخذول أو مبتدع خارج عن جماعة المسلمين .
بل قال ابن الملقن : وبلّغتهم في تخريج أحاديث الرافعي إلى ثمانين صحابياً .
2 = حُكم المسح باقٍ مشروع في السفر وفي الحضر في الصيف وفي الشتاء
وقد مسح النبي صلى الله عليه وسلم على خُفيه قبل نزول آية المائدة وبعدها ، مما يدلّ على أن الحكم باقٍ مُحْكَم .
عن همام بن الحارث قال رأيت جرير بن عبد الله بال ثم توضأ ومسح على خفيه ثم قام فصلى ، فسُئل فقال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا . قال إبراهيم : فكان يعجبهم لأن جريراً كان من آخر من أسلم . رواه البخاري ومسلم .
وفي المسند عن همام قال : رأيت جرير بن عبد الله يتوضأ من مطهرة ومسح على خفيه فقالوا : أتمسح على خفيك فقال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على خفيه . قال : فكان هذا الحديث يعجب أصحاب عبد الله يقولون : إنما كان إسلامه بعد نزول المائدة .
أي أن آية المائدة في الوضوء لم تَنْسَخ حكم المسح على الخفين .
ومن الأحاديث الواردة في المسح
حديث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين . رواه البخاري .
وحديث بلال رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين . رواه الإمام أحمد .
وقصة ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : رأيت سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه بالعراق حين يتوضأ ، فأنكرت ذلك عليه . قال : فلما اجتمعنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لي : سل أباك عما أنكرت عليّ من مسح الخفين . قال : فذكرت ذلك له ، فقال : إذا حدثك سعد بشيء فلا تردّ عليه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين . رواه الإمام أحمد .
وهي كثيرة جدا ، جمع بعضها الشيخ جمال الدين القاسمي في كتاب " المسح على الجوربين " .
ويدل على ذلك أيضا حديث الباب وكان في غزوة تبوك ، وهي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت في السنة التاسعة من الهجرة
3 = الجورب أو ما نُسميه الشُّرّاب هو في حُـكم الخف بالنسبة للمسح
ويدلّ على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم مسحوا على اللفائف التي لفّوها على أقدامهم في ذات الرِّقاع .
قال ثوبان : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد ، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد ، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
والعصائب : هي كل ما عصبت به رأسك من عمامة أو منديل أو خرقة .
والتساخين : الخفاف .
قال ابن الأثير : وقال بعضم : التساخين كل ما يُسخن به القدم من خف وجورب ونحو ذلك .
قال ابن عمر : المسح على الجوربين كالمسح على الخفين . رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة
وقال الأزرق بن قيس : رأيت أنس بن مالك أحدث فغسل وجهه ويديه ، ومسح على جوربين من صوف ، فقلت : أتمسح عليهما ؟ فقال : إنهما خُفّان ، ولكنهما من صوف .
قال أحمد شاكر رحمه الله : رواه الدولابي ، بإسناد صحيح .
4 = الجبة والقميص لا تُقاس على الخفين ، فلا يجوز المسح على كم القميص الضيّق .
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في سفر فقال : أمعك ماء ؟ قلت : نعم . فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى عني في سواد الليل ، ثم جاء فأفرغت عليه الإداوة ، فغسل وجهه ويديه ، وعليه جبة من صوف فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة ، فغسل ذراعيه ، ثم مسح برأسه ، ثم أهويت لأنزع خفيه ، فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ، فمسح عليهما . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم :
فغسل كفيه ووجهه ، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة ، فأخرج يده من تحت الجبة ، وألقى الجبة على منكبيه ، وغسل ذراعيه ، ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه ، ثم ركِب وركبتُ فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصلاة ، يُصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بهم ركعة ، فلما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب يتأخر ، فأومأ إليه فصلى بهم فلما سلم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقمت فركعنا الركعة التي سبقتنا .
5 = قوله : في سفر ، هو في غزوة تبوك ، وفي صلاة الفجر على وجه التحديد .
جاء في رواية عبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فلما كان في بعض الطريق تخلف وتخلفت معه بالإداوة فتبّرز ، ثم أتاني فسكبت على يديه ، وذلك عند صلاة الصبح .
6 = قوله : فأهويت : أي أومأت ، والهويّ النّـزول من علو ، كالهويّ للسجود .
7 = شروط المسح على الخفين :
1 – أن تُلبس الجوارب على طهارة
لا يجوز المسح على الجوارب إلا إذا لُبست على طهارة ، ويجوز أن تُلبس على غير طهارة ، إلا أنه لا يمسح عليها .
جاء في رواية أبي داود لحديث الباب : فقال لي : دع الخفين ، فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان ، فمسح عليهما
2 – أن تكون مما يجوز لبسه ، فلا يصح لبس جوارب الحرير للرجال ، ولا لبس الجوارب من جلود الميتة التي لم يُدبغ جلدها .
3 - أن يكون الجورب ساتراً لمحلّ الفرض ؛ لأن البدل له حُكم المبدل .
ولا يُشترط فيه – على الصحيح – أن يثبت بنفسه ، بل لوثبته بخيط ونحوه جاز له المسح عليه .
4 – أن يكون المسح في الوقت المُحدد شرعاً .
5 – أن يكون من الحدث الأصغر .
8 = كيفية المسح
ظاهر حديث الباب " فمسح عليهما " أنه مسح عليهما جميعاً في وقت واحد
وإن مسح على اليمين بيده اليمنى ، ثم على اليسار بيده اليسرى أجزأه
لأن المسح بدل علن الوضوء ، والبدل له حُكم المُبدَل .
ويمسح ظاهر خُفيه
قال علي رضي الله عنه : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه . رواه أبو داود .
وقال المغيرة بن شعبة : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهور الخفين
9 = توقيت المسح :
عن شريح بن هانئ قال أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت عليك بابن أبي طالب فسله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه فقال جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم . رواه مسلم .
وفي حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم . رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه .
وفي رواية :
وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن يمسح على خفيه إذا أدخل رجليه على طهور ، وللمقيم يوم وليلة . رواه الإمام أحمد .
وفي رواية له عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : يمسح المسافر على الخفين ثلاث ليال ، والمقيم يوما وليلة .
10 = متى تبدأ مدة المسح
من أول مسح بعد الحدث
لأننا لو قلنا تبدأ مدة المسح بعد اللبس أو بعد الحدث لألزمنا الناس بما لم يُلزمهم به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم .
فالبداية هي المسح ، وقوله صلى الله عليه وسلم : يمسح المسافر على الخفين ثلاث ليال ، والمقيم يوما وليلة .
فلا يستقيم أن نقول من بعد الحدث ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يمسح ...
لأن الحدث ليس مسحاً .
وما قبل الحدث لا يُعتبر مسحاً .
11 = مسائل في المسح
* إذا خلع الممسوح
فإذا خلع ما مسح عليه جاز له أن يُصلي ، وله أن يلبس الخف مرة أخرى ، ولكنه لا يمسح عليه بعد ذلك .
فخلع الخف أو الجورب ليس من نواقض الوضوء .
قال طاوس في الرجل يمسح ثم خلع : هو على طهارة .
وعن كثير بن شنظير قال : سألت الحسن وعطاء عن رجل توضأ ومسح على خفيه ثم خلعهما . قالا : يصلي ولا يغسل قدميه .
وعن الحسن أنه كان يقول : إذا مسح على خفيه بعد الحدث ، ثم خلعهما أنه على طهارة فليصل .
وعن فضيل بن عمرو عن إبراهيم أنه رأى إبراهيم فعل ذلك ، ثم خلع خفيه . قال : ثم صلى ولم يتوضأ . أخرج هذه الآثار ابن أبي شيبة في المصنف .
* انتهاء مدة المسح
انتهاء مدة المسح لا ينقض الوضوء ، ولا يجب على لابس الجوارب أن يتوضأ إذا كان لا يزال على طهارة ؛ لأن انتهاء المدة ليس من نواقض الوضوء .
* الجوارب الخفيفة والمُخرّقة
قال الثوري : امسح عليها ما تعلقت به رجلك وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مخرقة مشققة مرقعة . ذكره عنه عبد الرزاق في المصنف .
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
ساحة النقاش