1- مراحل التعليم ودور كلّ مرحلة من مراحل الدّراسة في تحقيق تكافؤ الفرص التعليمية والتشغيلية:
يعتبر انتشار مؤسّسات التعليم الابتدائي في كلّ القرى والمدن والأحياء ووجود مدرسة إعدادية واحدة على الأقل وأخرى ثانوية في كلّ معتمدية، إلى جانب وجود مؤسّسة جامعية من التعليم العالي في كلّ ولاية، من مكاسب الشعب التونسي الذي راهن على التعليم منذ استقلاله عن فرنسا في 1956. وهو ما نرغب في تدعيمه بأن تتبني الدّولة مرحلة ما قبل المدرسة ( المرحلة التحضيرية ) حتى لا تكون مجالا للاتجار وربطها بمراحل التعليم الأخرى . فالتربية ما قبل المدرسية تهيئ الطفل وجدانيا وذهنيا واجتماعيا وحركيا لدخول المرحلة الابتدائية من خلال اللعب الموجّه.
فنلفت انتباه الوزارة إلى ضرورة التركيز على الإحاطة بالمربّين في مرحلة ما قبل الدّراسة وتحسين ظروف عملهم حتّى تتمكن من الانتشار في كلّ الحضر وكلّ الرّيف والاضطلاع بمهامها.
كما تحتاج المرحلة الابتدائية إلى إعادة نظر في جودة برامجها والكتب المستعملة فيها وتوفر الوسائل التعليمية العصرية بها ومدى مساهمتها في التربية على ترشيد الحس الوطني واحترام حقوق الإنسان والالتزام بمبادئ الديمقراطية.
أمّا المدارس الإعدادية والثانوية فإنّها تشكو من الاكتظاظ في الأقسام ، وكثرة العنف المترتب عن عوامل عديدة منها نقص التكوين لدى إطار التدريس في علم النفس وعلم الاجتماع، لذلك نرى وجوب توفير المزيد من الموارد البشرية وفرص التكوين المختص لها مع التفكير في موارد مادّية لتغطية الحاجات المستجدّة.
أمّا مؤسّسات التعليم العالي فإنّها مطالبة بالقيام بدورها الحضاري الريادي في المساهمة في حلّ المشكلات التي يعيشها المجتمع وتحقيق التوازن فيه.
فعندما نتحدث عن تطوير النظام التربوي وعن التحديات ورهانات المستقبل ، فإنه من بين هذه التحديات إعالة العائلات التونسية لأبنائها من الكفاءات وأصحاب الشهادات ومساعدتهم على تحمّل قساوة البطالة ماديا ومعنويا. فالشبان المعطلين عن العمل ليسوا من الكسالى أو ممّن يريدون العيش عالة على المجتمع أو اختاروا البطالة إراديا، بل رأيناهم، عكس ذلك، يقبلون بموطن شغل مؤقتة متى توفّرت ودون اشتراط التأمين على المرض .
كفاءات معطلة واستراتيجية تشغيلية منحرفة:
استمرّ المسئولون عن السياسة التعليمية في تونس تجاهل الكفاءات العلمية بجميع أنواعها والمتخرجة من الكليات والمعاهد ومراكز التكوين وهو ما يتجلّى في مظاهر منها على سبيل الذكر لا الحصر:
-بطء نسق التشغيل بالنسبة إلى حاملي الشهادات في الاختصاصات العلمية ,
-إقصاء عديد الاختصاصات الأدبية والإنسانية من دائرة إنتاج الخدمات.
-تقطع في عملية تشخيص معطيات سوق الشغل.
-إخفاء هوية المؤسسات التي تعرض شغلا.
-إعلان لمناظرات وعروض شغل وهمية (مدير مركز جهوي للتربية والتكوين المستمر مثلا).
تعمّد المؤسسات انتداب أعوانها بطرقها الخاصة رغم وجود البعض من إعلاناتها في مكاتب التشغيل ضمن سياسة سحب البساط من تحت أرجل الذين أفنوا حياتهم في التعليم والدراسة و«التي ليست بالقصيرة (مرحلة ابتدائية، مرحلة ثانوية، مرحلة جامعية)، وهي تمثّل 17 سنة دون احتساب سنوات الرسوب. 17 سنة من الإنفاق على الدراسة. وكلما وقع تجاوز مرحلة إلا وكان الإنفاق أكثر ليصل أقصاه ).ونذكر كمثال على ذلك المناظرات التي أنجزت مرارا لانتداب1000 من المعلّمين الجدد ولا ينجح إلاّ 600 ويستكمل العدد الباقي بالمحسوبية والرشوة . لذلك ازداد إحساس المعطلين بعدم ثقتهم في وعود الجهات الرسمية وهو ما يجب أن يراهن النظام التربوي البديل على تداركه بإرساء جسور الثقة .
5- كيف يمكن للمؤسّسات التربوية أن تساهم في حلّ مشكلات منظومة التشغيل؟
لم تتجاوز رغبة المؤسسات التعليمية في المساهمة في حلّ منظومة التشغيل الخطاب، فقد سمعنا عنها الكثير ولم نر منها شيئا إلى حدّ اليوم. واتخذت المعالجة في بعض المحاولات أبعادا تلفيقية بدعوى الاستفادة من التجارب الغربية . فلم تحدّد وفق معايير علمية بل على خلفيات سياسية جعلت تنمية العمل التربوي وتنمية منظومة التشغيل مرهونتين بقرار الأنساب والأحباب. والعيب ليس في القائمين على تسيير المؤسّسات بقدر ما هو متأتّ من السّلطة السياسية المستبدة بالقرار.
لذلك نرى ضرورة أن تكون المؤسّسات التعليمية، وخاصة مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، ضمن مدار القرار التنموي بشكل فعلي.فلا تتقبل القرارات دون أن تشارك في صياغتها، ويجب أن لا تتكيّف مضطرة مع مقتضيات قرارات تنموية صيغت بمعزل عنها وتتناقض في بعضها مع إمكانات المؤسسة وحاجيات المجتمع( *). ويطلب منها:
- ملاءمة التدريس مع حاجات التشغيل: أي أن يكون التعليم متناغما مع حاجات المجتمع بصفة عامة ويستجيب بشكل كاف مع حاجات مختلف المؤسّسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية.
- تطوير البحث العلمي لاستحداث مواطن شغل جديدة.
- تتبع مسار التشغيل في البلاد وخلق بدائل حقيقية للتشغيل غير القار بمواطن شغل قارة تحفظ كرامة المواطن التونسي .
- أن تعمل في سبيل ضمان استقلاليتها المالية بالتمويل الذاتي متعدّد المصادر كي تتمكّن من القيام بأدوارها الإبداعية ووظائفها في البحث العلمي وتسويق نتائجه انطلاقا من قرارات مستقلّة.
------------------
( *)- يجب الإشارة إلى أنّ غياب الديمقراطية في تونس كان وضعا يصعب معه على المؤسّسات التعليمية معالجة أيّ مسألة دون الرجوع إلى السلطة، ولا تلقى في أغلب الأحيان المساندة الفعلية، وهو ما يضطر تلك المؤسّسات إلى الالتجاء إلى الإيهام والتضليل الإعلامي.
6- هيكلة الإدارة التربوية ومهامها وتقاسم المسؤوليات فيها على المستوى الوطني والجهوي أو الإقليمي والمستوى المحلّي والمؤسّساتي:
تؤكّد نتائج الدراسات المنجزة محليا ودوليا ( اليونسكو) على مبدأ لامركزية الإدارة فتخوّل العديد من الصلاحيات إلى الإدارات الجهوية والمحلّية عملا بالمثل القائل : «أهل مكّة أدرى بشعابها» (ونلاحظ ،في هذا الخصوص، غياب إدارة محلية للمؤسسات التعليمية الابتدائية منذ صدور قانون 2001 لمتفقدي المدارس الابتدائية الذي يعفي المتفقد من الصلاحيات الإدارية) ومبدأ الشراكة فيقع تشريك منظمات وجمعيات المجتمع المدني وأولياء التلاميذ والتلاميذ أنفسهم في الحوار وفي حلّ المسائل الإدارية.
ويقوم تصور تقاسم المسؤوليات على ضرورة تحرّي الكفاءة المهنية في التسيير والكفاءة العلمية والعدالة بين الإطارات العاملة بوزارة التربية عند إسناد الوظائف الإدارية، فلا يسيطر موظّفو التعليم الثانوي مثلا على كلّ إدارات وزارة التربية والمندوبيات الجهوية للتربية والإدارات المتفرعة عنها (كما هو عليه الحال خلال سنة 2010).
وأرى أنّه لابدّ من الاهتمام بالإدارة المدرسية وذلك بالاختيار السّليم لمديري المدارس ، ممّا يستوجب إعادة النظر في كيفية تسمية أولئك المديرين وتكوينهم في أبجديات علوم الإدارة وخاصة منها التراتيب القانونية وقواعد التصرّف المالي وأسس علم النفس الاجتماعي الإداري مع ختم حلقات التكوين بشهائد يقع اعتبارها عند التناظر إلى جانب الأقدمية والخبرة الصناعية.
كما أقترح أن يسمّى مع كلّ مدير مساعد يعمل 30ساعة أسبوعيا إلى جانبه ( فمن التناقض اليوم أنّ المدير وهو معلم تطبيق يعمل 39 ساعة من أجل منحة لا تتجاوز 45دينارا بينما مساعده وهو من نفس الصنف يعمل20ساعة فقط، والسّرّ في ذلك أنّ المشرّع في عهد بن علي نسي أنّ اتفاقية1981 بين الوزارة والنقابة تتحدّث عن 20ساعة تنفيذية بالقسم و14 ساعة لإعداد الدروس وإصلاح الكرّاسات افتراضية بالبيت، أي أنّ جملة ساعات عمل معلم التطبيق الحقيقية حسب ذلك الاتفاق 34 ساعة).
ولما لا تقع تسمية قيم لحراسة التلاميذ أثناء الرّاحة بالمدارس الابتدائية إلى جانب حارس ليلي لحماية التجهيزات والوثائق.
ولا يمكن أن نتوقف عن الحديث في هذا الموضوع دون الإشارة إلى غياب نصوص التراتيب الإدارية المدرسية البديلة عن نصوص 1964. فقد صدرت نصوص تتعلّق بالنظام التربوي وبالحياة المدرسية لا تصل إلى دقّة وإجرائية نصوص قانون 1964 من حيث الصياغة رغم أنّ الأولى دعت إلى توقف العمل بنصوص التراتيب السّابقة.
فندعو إلى تدارك هذا النقص بصياغة نصوص جديدة تتصف بالدقة والإجرائية والشمول تسهر لجان متعددة الاختصاصات في كتابتها.
7- ما هي الأدوار الجديدة لهيئة التفقّد البيداغوجي؟
عاش متفقدو المدارس الابتدائية وهيئة التفقد عامة منذ أكتوبر 2001 تاريخ صدور ما يسمّى بالقانون الأساسي لإطار التفقّد البيداغوجي مغالطة صريحة. فوزارة العهد السابق وإداراتها المركزية تستنكر في بعض مؤلفاتها الرسمية المنشورة «المركزية المفرطة في تسيير النظام التربوي ... فكلّ شيء يصدر عن "المركز" نحو المستويات الجهوية و المحلّية التي لا تملك سوى أن تطبّق آليا ما يصدر إليها من قرارات . فانحسرت المبادرة خوفا من الوقوع في الأخطاء... » (وفق ما جاء بوثيقة الإصلاح التربوي ص21)، بينما نجد المديرين بالإدارة المركزية يعملون بعكس ما يقولون ويحرصون على أن تتمّ كلّ حركة وكلّ تفكير وكلّ تصريح بعد إذنهم. فلا استقلالية ولا حرية في المبادرة (وهي من شروط الاحتراف ) ،الأمر الذي يحطّ من قدر المشرف البيداغوجي إلى منزلة المنفّذ لبرنامج يفرض عليه من المركز ، وهو ما يجعل هويته المهنية متأزمة:
في التأطير: يؤطر المتفقد المعلّمين حسب خطة وطنية تضبط بمنشور يصدر عن إدارة التكوين المستمر وبإمضاء وزير التربية، فيحدّد المحاور والمعلّمين المعنيين والمدّة.
وفي التقييم: يسند المتفقد الأعداد للمدرسين وفق شبكة، وتؤرّخ التفقدات وفق حركة المدرسين والمديرين ويكتب التقرير وفق مطبوعة مسطرة تهتمّ بوصف الفضاء التعليمي والوثائق المكتوبة ومواظبة المدرس وسلوكه. فلا يهتمّ التقرير بنتائج عمل المدرس ولا بمكتسبات المتعلمين. فقد قدّت مطبوعة التفقد وفق مقاربة تقييمية كلاسيكية تعود إلى ما قبل 1950 بفرنسا.
وفي التجديد:يتوقف عند مشاريع وطنية صاغها أعضاء نواة متحجّرة(المقاربة بالكفايات/ المدارس ذات الأولوية التربوية/ الأقسام التحضيرية/ استعمال تكنولوجيات المعلومات والاتصال) وهي مشاريع طال تكرار الحديث فيها حتّى مجّه المدرسون وأصبحوا لا يحضرون اللقاءات التكوينية إلاّ مجاملة للمتفقد.
أمّا عن الظروف المادية السيئة لعمل المتفقد يمكن أن نشير إلى:
1 - حرمان من السكن:
لا يتمتّع بحقّ السكن إلاّ من ندر ، فجلّ المتفقدين يعملون خارج معتمدياتهم الأصلية إن لم نقل ولايتهم أو جهتهم ، ويحتاجون للمسكن اللائق ويطلبونه فلا يجدون إلاّ منحة هزيلة لا تكفي لتعليق ورقة إشهار على باب فما بالك للسّكن في محل لائق.
-2 صعوبات في التنقل:
يتنقل بسيارته الخاصة ليقوم بالتفقّد ويدفع معلوم الجولان بينما هو يقوم بالجولان لفائدة الغير. ويدفع مبالغ طائلة للصيانة وتعهّد السيارة كي لا تعوقه في طريقه إلى المدرسة. ويدفع تكاليف الطاقة زيادة عن ثمن شراء السيارة الباهظ.
-3 نقص كبير في التجهيزات:
إن توفر مكتب للتفقدية فكثيرا ما يغيب عنه الهاتف والآلة الناسخة والحاسوب وجهاز العروض، رغم أنّها كلّها ضرورية للاتصال بالمدارس والمندوبيات والمصالح الموازية، وضرورية لكتابة التقارير والوثائق، وضرورية لتأطير المدرسين وتقديم عروض.
4- تعطل الحراك المهني:
بعد صعوبات الإثبات في الخطة تأتي محدودية نسب الارتقاء من صنف إلى صنف وهو ما يحدّ من الآفاق المهنية للمتفقّد.
هذا واقع جعل الفاعلية الشخصية للمتفقد ضعيفة ، لذلك نأمل أن تغير الثورة فـ:
* تقع مراجعة القانون الأساسي لإطار التفقّد.
* يقع تكليف متفقد للمدارس الابتدائية بكلّ دائرة للسهر على الشؤون الإدارية ، فيقوم بمهامه العادية وبالمهام الإدارية التي يقع الاتفاق فيها مع المندوبية الجهوية ووزارة التربية ، على أن تسند له منحة مالية لا تقلّ عن منحة رئيس مصلحة (150د). وتتمّ تسميته بعد عملية انتخابية بين متفقدي المعتمدية الواحدة و يدوم التكليف ثلاث سنوات فقط قابلة للتجديد مرّة واحدة.
* مراجعة قواعد تقييم عمل المدرّس وإسناد الأعداد
* توفير سيارة للمتفقد أو مساعدته على اقتناء سيارة مع إعفائه من الرسوم والأداءات وتعويض مصاريف الصيانة والطاقة.
* ضمان السكن اللائق للمتفقد.
* توفير التجهيزات العصرية التي تساعد المتفقّد على إنجاز مهامّه.
ولا تختلف وضعية متفقد المدارس الإعدادية والثانوية عن زميله بالابتدائي كثيرا.
ومن يطّلع على نماذج التفقد البيداغوجي على المستوى الدولي يلاحظ تعدّدها واختلافها جوهريا ويجد أنّ النظام التربوي الحالي قد اختار أسوأها، وهو المراقبة البيداغوجية والإدارية للمعلّم، وقد صنّفها« أنتون قراو » (Anton DE GRAUWE) كالتّالي:
1)نموذج التفقد الكلاسيكي
2) نموذج التفقد المركزي
3) نموذج التفقد الذي يعتمد طريقة الدعم عن قرب
4) النموذج الخالي من التفقد البيداغوجي و المراقبة الإدارية
ويبيّن « أنتون قراو » بعد ذلك إشكالية التفقّد على أنّها: من يتفقد؟: هل يتفقد المدرس؟ هل يتفقد المدرسة؟ هل يتفقد النظام التربوي؟
ويتساءل :ما هي بدائل المتفقد الكلاسيكي المتاحة؟ ثمّ يجيب:
- الجهات الفاعلة و المخولة لتفقد المهنيين أو المحترفين هم المحترفون أنفسهم، خذ مثلا الأطباء، هم مراقبون من عمادة الأطباء نفسها
- المدرسون الأكفاء يستطيعون تفقد زملائهم
- في إفريقيا الجنوبية: يتكون فريق التفقد من ممثل للإدارة و ممثل لنقابة المدرسين و مدرّس يعيّنه المدرّس المعني بالتفقد. بهذا الصنيع الديمقراطي يكتسب التفقد مصداقية، قد يفتقدها المتفقد الكلاسيكي
- قد يُراقَب المدرسون من قبل المستفيدين أو الزبائن أو المستعملين مثل الأولياء والتلامذة.(ترجمة الدكتور محمد كشكار).
وأرى شخصيا الجمع بين تقييم التمشيات البيداغوجية عن طريق المتفقد وتقييم النواتج عن طريق الاختبارات الدولية(مثلPISA) والوطنية والجهوية والمحلّية مع تقييمات الأولياء. وبذلك يصبح للمتفقد دور فعّال في تسيير و تطوير مردود المنظومة التربوية دون أن تكون له علاقة مباشرة بقرارات الإدارة.
8- من أين ستموّل عمليات التطوير؟وكيف يمكن أن تدار الجودة الشاملة ؟
يشهد التعليم بتونس بمختلف مستوياته زيادات حادة في تكاليفه الأساسية بسبب ارتفاع أسعار السلع والأجهزة ولوازم المخابر ورواتب الموظفين والنقل. وزاد الإقبال الشعبي على التعليم من شتّى الأعمار فزاد في نفقاته. وهو أمر، وإن كان لا ينكر عاقل أهمّيته، فإنّ حلّه لا يكون دون أيّ شكّ بالتخفيض في نسبة الميزانية السنوية للتعليم كما حدث في عهد بن علي(قرابة 7% بعد ما كانت في أوائل التسعينات14% وفي1985 قاربت24%).فالنمو في أعداد التلاميذ والطلبة لم يصحبه نموّ مماثل في الإنفاق اللازم لتهيئة متطلباته. وهذا أمر خطير يستوجب التأمّل فيه والتفكير في تطويره بالترفيع في التضحية الوطنية ضمن التمويل التقليدي والتفكير في مصادر أخرى تدعم تمويل التعليم ضمانا للجودة الشاملة فالمعلّم الجيّد لا يستطيع دون تجهيزات لائقة ومعينات مناسبة أن يرتقي بمنظوره إلى المراتب العليا دوليا.
مصادر التمويل:
أ- مصادر تمويل تقليدية:
تضم مصادر التمويل التقليدية ومنها الميزانية المخصصة من الميزانية العامة والضرائب والرسوم الخاصة بالتعليم والقروض الداخلية والخارجية لإقامة المشاريع التربوية والمصادر الخاصة التي يدفعها الأولياء كرسوم الامتحانات والمصادر المحلية من البلديات والجمعيات المحلية و مساهمة المؤسسات الإنتاجية والمنح والمساعدات الخارجية . و تغطي تلك المصادر قرابة 90 % من الإنفاق المنجز، وهو دون المستوى المطلوب. ولا تغطي الموارد المتأتية من الأنشطة التي تقدمها الجامعة للمجتمع أو ربح خدماتها وأموالها المنقولة وغير المنقولة (من أرباح المطاعم و المقاصف و مساكن الطلبة و الأساتذة وفوائد الديون والتأمين والمنح والتبرعات والإعفاءات الضريبية) إلاّ القليل.
ب- مصادر تمويل متروكة لأسباب غير وجيهة:
نجد المؤسّسات التربوية في بعض الدول الغنية تفتح أبوابها خلال العطل لإنجاز مشاريع تمويلية: فالسّاحة تصبح تكترى للأفراح والقاعات للمعارض التجارية (في شراكة تامّة ،وليس بترخيص شبه مجاني من المندوبية يمنح لاتحاد الصناعة والتجارة). وأجهزة العرض تصبح مصادر تمويل بعروض سينمائية للكهول والأطفال أو مقابلات رياضية مشوقة أو سهرات موسيقية أو مسرحية. كلّ ذلك طبعا دون المساس بالقيم الاجتماعية العامة ، وهو شرط يجب أن يتوفّر في كلّ الأماكن وليس في المدرسة وحدها.
فبدلا من بيع المؤسسات إلى الخواص يحسن أن نشاركهم في الموارد. فالمؤسسات التعليمية عندما تحدّد احتياجاتها والمبالغ اللازمة لتوفيرها فإنها نادرا ما تحصل على المبالغ التي تطلبها فتقبل بالقليل وهذا يؤثر على جودة مُخرجاتها. وإذا ما زادت مواردها الذاتية عن طريق مشاريعها الخاصة أصبح بإمكانها تطوير نمط البنايات والتجهيزات والمعدّات(أذكر هنا مثال بعض المؤسّسات التي وفّرت تجهيزات التدفئة المركزية بتمويل ذاتي في بداية التسعينات/ ومثال المدارس التي بادرت إلى التجهّز بحواسيب قبل أن تقرّر الوزارة ذلك/ ويجد المطلع على تجربة شنني مثالا ناجحا في التمويل الذاتي، وهو ما نسجنا على منواله ببعض مدارس قربة: تازركة أوّلا بعقد شراكة مع البلدية وجمعية بلجيكية، ثمّ بني عيشون باستثمار المساحات الفلاحية بها استثمارا جيّدا أفضى إلى عائدات سمحت ببناء 3فضاءات جديدة وتوفير تجهيزات وتحسين نتائج التلاميذ، ونحاول الآن تكرار التجربة بعمق مع مدرسة شارع بورقيبة بقربة).
كانت تلك أمثلة من مصادر التمويل المتروكة . وهو حال له أسبابه، ومنها ما يعود إلى تعقّد التشريعات والتعقيدات الإدارية التي تعطل إقدام المدير والمعلّم والأستاذ على المبادرة.فوجود عوامل تشريعية وسياسية واجتماعية وتقنية تعوق الحصول على تمويل إضافي أو تقوم باستخدامه تعطل توفير تلك الموارد وبالتالي تعيق توفير الحاجات بالكم والكيف اللازمين للمتعلّمين والمعلّمين. فالقوانين تعطي للمؤسّسة حقّ صرف الأموال وليس استدرارها. هذا إلى جانب كثرة مهام المدير(في الابتدائي خاصة) وانفراده بالعمل الإداري في المدرسة. فالمبادرة تقتضي إحساسا بالأمن ودراية كافية بالشؤون المالية وتوفر مناخ ديمقراطي تعاقدي شفاف يبدي فيه الولي ارتياحا لتصرفات الإطار التربوي بما يراه بوضوح من نزاهة ودقّة في التعامل معه، ويكافئ المعلّم والمدير ماليا ، في إطار ضوابط، على ما يقدمه من جهد، ويجد العون التقني المختص إلى جانبه كي لا ينزلق في خطأ مالي، لا سمح اللّه.كلّ ذلك ننتظره في إطار تشريعات ملائمة جديدة نرجو أن تتوفر في النظام التربوي البديل.
مع الملاحظة بأنّ هذا المقترح الأخير ، لو نفّذ، سيساهم في خلق مواطن شغل جديدة لشباب تونس من خريجي الاقتصاد والتصرّف والمالية خاصة ومن الاختصاصات الأخرى أيضا في إطار التنسيق بين وزارتي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي من جهة والمموّلين الخواص من جهة أخرى.
ولا يمكن أن نغلق ملف التمويل دون الحديث عن تسويق نتائج البحث العلمي،فرغم أنّه لا يجب أن يكون الهدف الأساسي الذي تسعى إليه مؤسّسات البحث العلمي ،فإنّه وسيلة قد تستفيد المؤسّسة التعليمية منه. وترتبط عملية تسويق نتائج البحث العلمي بواقع حال البحث العلمي من ناحية وبأساليب تمويله من ناحية أخرى. لذلك وجب التذكير بضرورة توفّر علاقة شراكة تبادلية بين مؤسّسات البحث ومؤسّسات الإنتاج المستفيدة باعتماد التعاقد.
ونلخّص القول حول رهانات النظام التربوي البديل بالتأكيد على:
- تحرير أرواح وعقول أجيال تونس كي تكون فاعلة ومبدعة.
- مصالحتها مع هويتها الوطنية.
- توفير فرص التشغيل لهم ومساعدتهم على اكتساب القدرات التي تسمح لهم بالعيش الكريم.
- توفير مناخ تربوي ديمقراطي تعاقدي يؤسّس لذلك النمط من المجتمع.
واللّه المستعان على الخير.
ساحة النقاش