<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Tableau Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
ثورة الخبز(1983):
قرأت في عدد من الصحف مقالات تتحدّث عن ثورة الخبز بالجمهورية التونسية، واستمعت إلى عدد من التدخلات التلفزية حول نفس الموضوع . ووجدتها كلّها تتضمّن تحريفا للوقائع التّاريخية، فثمّة من يدعي البطولة وينسب اندلاع الحدث لشخصه( أنظر مقالا نشرته جريدة الصباح التونسية في عددها الصادر في 02ماي 2011 )وثمّة من يخطئ في تحديد مكان وتاريخ اندلاع تلك الثورة(كما جاء في الملف التلفزي زمن بورقيبة وملف شاهد على العصر على قناة الجزيرة).
ولأنّي ممّن عاش أحداث تلك الثورة منذ انطلاقها في الدقائق الأولى صباح يوم السبت 29ديسمبر 1983 بمدينة( سوق الأحد) من ولاية قبلّي على السّاعة التاّسعة . ونظرا لما قد يكون من أهمّية تاريخية لتدوين تلك الحقائق، ودون أن أدّعي البطولة فيها ودون أن أدّعي أنّي كنت جريحا من الجرحى الثمانية الذين سقطوا بسلاح رجل الأمن من الحرس الوطني علي العابد، أقدّم محاولة لوصف دقيق لما جرى وكيف تطوّر الأمر وانتقل من سوق الأحد إلى مدينة دوز في نفس اليوم ثمّ إلى مدينة قبلّي مركز الولاية من الغد ثمّ إلى مدينة قفصة في 01 جانفي1984 ثمّ إلى تونس العاصمة في 03جانفي 1984.
فقد قرّرت الحكومة التونسية في بداية الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر1983 رفعا مشطا في ثمن رغيف الخبز نظرا للأزمة الاقتصادية التي عاشتها البلاد منذ سنة 1977. وهو قرار أعلنه محمد مزالي الوزير الأوّل في حكومة الرئيس الحبيب بورقيبة متذرّعا بالأحوال الاقتصادية وبأنّ« المواطنين يرمون الخبز الذي تدعم الدولة تكاليفه في المزابل ويعطونه علفا للحيوانات».وقد فعل ذلك دون أن يتّعظ بما جرى قبل ذلك بالقاهرة ضدّ الرئيس محمد أنور السّادات حين رفّع في سعر الخبز.
وكنت خلال سنة 1983 معلما بالمدرسة الابتدائية (أم الصمعة) وهي إحدى قرى معتمدية سوق الأحد وتقع على الطريق الوطنية رقم 16، وكانت فترة عطلة شتاء1983. وكان يحلو لي مثل بقية سكان القرى الذهاب إلى السوق، وهو مركز المعتمدية، للقاء بالزملاء والأصدقاء لنتبادل الأخبار والحوار حول صعوبات المعيشة العديدة بتلك الجهة والتي جاء قرار مضاعفة ثمن الخبز ليفاقمها .
لقيت يومها الزميل الهادي الشيخ رحمه اللّه، فعلمت منه أنّ مظاهرة سلمية للاحتجاج على الزيادة في سعر الخبز ستنطلق من قرية (فطناسة) بداية من الساعة التّاسعة وستعبر كلّ القرى الموجودة على الطريق الوطنية رقم 16 حتّى تصل إلى سوق الأحد. فقرّرت المشاركة بالمظاهرة انطلاقا من قرية (زاوية الحرث) حيث مسكني رفقة زميلي الهادي الذي نقلني معه على شاحنته الصغيرة(بيجو 404).
شارك في المظاهرة مواطنون من كلّ الأجيال ومن كلّ الفئات الاجتماعية ومن كلّ التيارات السياسية الموجودة( الاتجاه الإسلامي/ الشيوعيون/ الحزب الاشتراكي الدستوري / الحزب الاشتراكي الديمقراطي/وغيرهم) ومن كلّ منظمات المجتمع المدني وخاصة المنتمون إلى الاتحاد العام التونسي للشغل. وتجاوز عدد المشاركين الألف.
وصل المتظاهرون إلى مشارف السّوق فاندفع رجال الأمن من الحرس الوطني لصدّهم في البداية ثمّ تراجعوا ودخلوا مقرّ عملهم وأوصدوا الباب. كنت صحبة زميلي الهادي بالشاحنة خلف مقرّ الحرس الذي يوجد بقلب المدينة حينها ، وفوجئنا بعون الأمن المعروف باسم علي العابد يصعد إلى سطح المقر ويثبت رشاشا باتجاه المتظاهرين وبدأ يطلق خراطيش بيضاء في أوّل الأمر ثمّ انتقل سريعا إلى الخراطيش المميتة، وسقط ثمانية (08)رجال أذكر منهم زميلي محمد نجيب البكري الكاتب العام المحلي لنقابة المعلمين(بعضهم استشهد وبعضهم الآخر شفي بعد تلقي العلاج).
كنت أنظر إلى الرصاص منطلقا وأنا في ذهول تام ورعب شديد، كان المجرم الذي لن أنسى اسمه ما حييت يصوّب طلقاته نحو السّوق على مسافة تزيد عن مائة متر، وبستر الله ورحمته لم ينظر الوغد إلى من تحت المبنى، ولو فعل لكنت ميّتا لا محالة إذ لا تفصلني عن رشاشه سوى خمسة أمتار وزجاج الشاحنة. كان صراخ الناس يأتي من كلّ صوب يصمّ الأذنين ، والفارّون يهرولون في كلّ اتجاه.
جاءت سيارة وحملت المصابين إلى مستشفى قبلّي، وعلم أهالي مدينة دوز الأشاوس بالخبر في نفس اليوم فاندلعت مظاهرات أخرى هناك وحمل بعضهم أسلحة صيد يهدّدون أعوان الحرس الوطني بدوز. وسقط جرحى آخرون هناك ممّا زاد من هول المصيبة، وانتقل الخبر إلى مدينة (حامّة قابس ) عن طريق المسافرين على متن سيارات الأجرة فبدأت المظاهرات هناك يوم الأحد 30ديسمبر1983 . وبلغ الخبر مدينة قفصة يوم الثلاثاء 01جانفي1984 رغم التعتيم الإعلامي على الأحداث المذكورة، فلم تخمد نار الثورة بقفصة وامتدّت من مدينة إلى أخرى حتّى وصلت مدينة تونس يوم 03جانفي1984 فكان يوما أحمر تجاوز فيه عدد الشهداء112 حسب بعض المصادر.
ولم تتوقف ثورة الخبز إلاّ في السادس من جانفي بإعلان الرئيس الحبيب بورقيبة التراجع عن القرار بالزيادة في سعر الخبز بخطابه الشهير «نرجعوا وين كنّا».
هذه شهادة أدلي بها كشاهد عيان. وأرجو من كلّ سكّان معتمديات نفزاوة (سوق الأحد) و(دوز) و(قبلّي) الذين عاشوا معي الحدث و الذين لديهم تفاصيل أخرى حوله أن يدلوا بشهاداتهم كي تبرز تلك المحطة الناصعة من تاريخ الجهة . ولا أطلب ذلك للتبجّح فقد شارك كلّ التونسيين الأحرار في ثورة الخبز ولكنّي أفعل ذلك لكشف حقائق قد تساعد في قراءة الحدث من طرف المختصّين في علم التّاريخ بشكل أفضل . فما أردت إلاّ الإصلاح واللّه أعلم. هل تبدل الحال أم أنّ ثورة الخبز ما زالت مستمرة؟
قربة في 04ماي 2011
د.حسن الجمني
ساحة النقاش