السمك يسبح في الشعر النسوي العربي
إعداد/ محمد شهاب
منذ عشتار والأغاني الفرعونية نلاحظ حضوراً دلالياً للأسماك في الأشعار الغزليّة والخصوبيّة. وهذا يُفسَّر بعيش الأسماك في طبيعة غامضة وخطرة بالنسبة إلى الإنسان القديم (كما ربّما بالنسبة إلى عموم اللاوعي البشري): المياه التي تقدِّم بشكلها الانسيابي الأملس، الهروبيّ، مثالاً على جمال ناعم هارب فتّان، لكن حسيّ للغاية أيضاً، وهذه الأسماك كانت غذاءً رئيسياً للإنسان القديم بما تنطوي عليه المفردة من لذائذ غريزية وحسّية.
تتقدّم الأسماك بصفتها رمزاً لما هو عضوي في المرحلة الأولى، وللاوعي الذي صار مرئياً، وللماء الغامض، رمز الحياة، الذي تنساب الأسماك فيه، من هنا تخرج أولى العلائم الرمزية للأسماك لدى الشعوب القديمة (انظرْ رسوم الأسماك على الفخّار الإيبيري في إسبانيا والبونيقي والشعبي في شمال إفريقيا).
بالنسبة إلى الحضارة الرافدينية كان السمك رمزاً للخصوبة بما تنطوي عليه أيضاً من معنى عضوي وجسدي وإيروتيكي في آن واحد. وهذا ما يُفسِّر تلك الأغنية السومرية التي تُخاطب فيها المرأة حبيبها قائلة:
«دعه يُهدي إليّ
سمكة شبّوط سمينة».
والأغنية الفرعونية:
«قلبي يثبُ من مكانه
مثل السمكة الحمراء في حوضها».
بالنسبة إلى الثقافة السلتية واليونانية الشرقية ظلّ السمك يحتفظ برمزيّته للحياة والخصوبة والتكاثر.
في الثقافة المسيحية اعتُبرَ السمك مقدّساً بسبب الصيد الإعجازي الذي كان يقوم به القدّيس بيار الصيّاد. إن المفردة التي تعني في آن واحد السمك والمسيح هي ذاتها في اللغة اليونانية Ichthys. أقدم تفسيرات آباء الكنيسة تربط السمكة بطقوس الأسرار، ومن بينها نصّ لتيرتوليان (155- 220م): «نحن (البشر)، الأسماك الصغيرة على صورة آشتيوس - المسيح، نولد في الماء».
انطلاقاً من هذا التفسير الديني يرى البعض أن السمك في وصفه رمزاً للعضو الجنسي الرجالي لا قيمة له على الإطلاق، كأنهم يخشون ولا يريدون رؤية العلاقة الخفيّة الأكيدة بين القدسي والإيروتيكي.
يمثّل السمك في تأويلات الأحلام القائمة على أساس فرويديّ اللاوعي والحياة الداخلية والعمق، بينما تمثـّل جميع الزواحف والأسماك العضو الجنسيّ الذكوري. السمك هو رمز قضيبيّ عن جدارة بالنسبة إلى فرويد، وهو رمز إخصابي من دون شك بحسب البراهين التي تقدّمها ثقافات وحضارات تمتدّ من إفريقيا إلى اليابان مروراً بالشرق الأوسط.
يُستعاد السمك في الأغنية العُرسيّة النسوية العربية بطريقة لا نشكّ معها بأنه مشحون بالمغازي الإيروتيكية والخصوبية. ففي سوريا تغنّي النساء (ننقل الأغنيّة مُفصَّحةً):
«أيها السمك البُنيّ
أيها السمك الأحمر
يا لون العنبر
أنت تمشي متبختراً
مَشـْيُك يجعلني مجنونة».
وفي الجزائر يُغنّى:
«لو كنتَ بحراً أنا سمكة فيك».
ومثل ذلك في العراق في الأغنية الشهيرة التي يقول مطلعها:
«يا صيّاد السمك صِدْ لي بُنيّة».
على أن استخداماً نسوياً عربياً للأسماك يبدو، في الحقيقة وكأنه خارج من التأويلات جميعاً، الرافدينية الخصوبية، والدينية المسيحية، والتفسيرات الفرويدية التي لا تناقض بينها كلّها لأنها تشدّد على الوجهة العضوية والإخصابية المغطاة بأغطية شتّى، منها ما يُقلِّل من المعنى الحسّي الأملس للسمك ويمنحه بُعداً ميتافيزيقياً، ومنها ما يُشدِّد عليه مانحاً إيّاه بعده الإيروتيكي الأصلي المحض. وهذا ما يفسّر، من طرف آخر، وفرة الاستشهاد بالسمك النهريّ في أغاني نساء بلاد الشام (السمك البنّي) حيث الرواسب الرافدينية من جهة والمسيحية من جهة أخرى حاضرة بقوّة، رغم أن المُفترض الاستشهاد بالأحرى بأسماك بحريّة متوسّطية غير السمك البنّي.
سوف تفيد الأغنية الشعبية المصرية المتدنيّة المستوى في السنوات الأخيرة من هذا الإرث الرمزي المحفور في الذاكرة الشعبية للسمك. ويتجلّى ذلك على سبيل المثال في أغنية مطرب اسمه أحمد بعرور عنوانها «السمك»، نُعرِّب ما يقوله فيها: «السمك، السمك مسلوقاً ومشويّاً، عَرَبياً ولَعُوْباً... اشتعل العرس» إلى أن يُنهي بقوله: «أعملُ لك العنب وأقلي لك السمك». وإشاراتها الجنسية المبتذلة لن تخفى على أحد، وفيها يستخدم الرجلُ هذا الرمز العريق للتصريح مباشرة برغباته الملتهبة أمام الجمهور العريض.
ساحة النقاش