محمد شهاب- المزارع السمكية Mohamed Shihab -Aquacultures

يعرض الموقع الأحدث من ومقالات و صور و مواقع تخص الاستزراع السمكى

بحوث: صدفة تقود إلى مشاهدة ميدانية لـ«مفارقة ليام» التطوُّرية

إعداد/محمد شهاب

إذا كان شكل جسم الحيوان مخصصًا لأداء وظائف معينة تساعده على التغذِّي على كائناتٍ حيّة بعينها، فهل يضع ذلك حدودًا لما يمكن له افتراسه؟ مشاهَدات العلماء للأسماك التي تتغذى في البرّية يمكن أن تساعد في الإجابة على هذا السؤال.

في دورية «أميريكان ناتشوراليست» American Naturalist نَشر مؤخرًا الباحثان جولتشر-بينافيدس، وفاجنر مشاهَداتٍ لسلوك مجموعةٍ من الأسماك، لاحظاها مصادفةً في أثناء عمليات استكشاف تحت الماء على امتداد الشاطئ الشرقي لبحيرة تنجانيقا في تنزانيا. وتكشِف ملاحظاتهما ارتباطًا محكمًا بين بياناتٍ مخبرية، عمرها 40 عامًا يقوم على فكرة تُعرف باسم نظرية «الجمع الأمثل للغذاء»

وقعت المصادفة عندما كان جولتشر-بينافيديس وزميله التنزاني جورج كازومبي في رحلة غوص، لدراسة أنواع الكائنات الموجودة في منطقةٍ متعامدة على حافة شاطئ البحيرة. شاهد الباحثان أمامهما سربًا كبيرًا من أسماك السردين اليافعة، تتلألأ أجسامها بين سطح الماء في البحيرة وقاعها الصخري، ويُقدّر أنَّ السرب كان يضم على الأقل 50 ألف سمكة. وسجّل مقطع فيديو لهذا الحدث ما وقع عندما صادفت أسماك السردين تلك أسماكًا تنتمي إلى مجموعة تُعرف بـ«البلطيات».ويوجد في بحيرة تنجانيقا حوالي 250 نوعًا من أسماك البلطيات.وتمثل هذه الأنواع أسماكًا، تتنوع وظائفها في جمع الغذاء، منها أسماك تطورت بطريقةٍ تسمح لها باستهداف نوعٍ واحد من الفرائس لتغذِّي على مصادر متنوعة من الطعام. وأشكال وسمات رؤوس بعض أنواع هذه البلطيات تشهد على تكيُّفها لتلائم مصدر الغذاء الخاص بها (الشكل 1)

تُعدّ الأسماك من جنس Perissodus microlepis البلطيات التي طوَّرت وظائف محددة في جمع الغذاء. ولهذا النوع من الأسماك رأسٌ مقوس. وعندما تسبح هذه الأسماك بجانب سمكة أكبر منها، يمكنها شن هجومٍ مباغت، وانتزاع قضمةٍ من حراشفها. نقسم أفراد هذا النوع إلى أسماكٍ رؤوسها مقوسة إلى اليسار؛ لمهاجمة الجانب الأيمن من السمكة الفريسة، وأسماك رؤوسها مقوسة إلى اليمين؛ لتمكِّنها من مهاجمة الجانب الأيسر من الفريسة. وهناك أنواع أخرى من البلطيات، لها وظائف محددة أخرى في جمع الغذاء، من بينها كَشْط الطحالب من على الصخور، والتهام عيون الأسماك الأخرى، وابتلاع البيض بعد إسقاطه من أفواه ذكور السمك الحاضنة.

وكان يُعتقد أن هذه الوظائف تسمح لتلك الأنواع باستهداف مصادر غذاء بعينها، كوسيلة للتحايل على التنافس الحاد على الغذاء، لكنْ في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، سجَّل عالِم الأحياء كاريل ليام حركات عضلات أسماك البلطيات في أثناء إمساكها بفريستها في المختبر. أظهرت التسجيلات أنَّ هناك مِن أنواع البلطيات التي تتسم بوظائف محددة في جمع الغذاء استطاعت الاحتفاظ بقدرتها على التحرك بطرقٍ أخرى ضرورية؛ لاقتناص مجموعةٍ متنوعة من الفرائس. وبناءً على ذلك.. أكّد ليام وجود مفارقة (يُشار إليها حاليًّا بـ«مفارقة ليام»)، مفادها أنَّ الأسماك التي تملك سماتٍ تؤهلها للتغذِّي على نوعٍ بعينه من الفرائس يمكنها أيضًا التعامل مع فرائس أخرى كثيرة. إذا كان تطوير وظائف محددة في عملية جمع الغذاء لا تصاحبه أي كلفةٍ من حيث الحدّ من أنواع الطعام التي يمكن للأسماك تناولها، فمِن المفترض ألا تكون هناك حاجة كبيرة - مدفوعة بالتنافس - إلى تطوير تلك الوظائف. لذا.. قوبلت «مفارقة ليام» بالشك، لأنه بدا أنَّها تتناقض مع واحدٍ من المبادئ الأساسية للتطور، إذ يرى علماء النظم البيئية في المنافسة على الغذاء محركًا أساسيًّا لعمليات الانتقاء التطورية

وفي محاولةٍ لحسم هذا الجدال، طوّر عالِمَا الأحياء التطورية بيرين روبنسون، وديفيد ويلسون نموذجًا رياضيًّا، يصف كيف يمكن للوظائف المحددة في عملية جمع الغذاء أن تمنح النوع أفضليةً تنافسية. وأشار نموذجهما إلى أنَّ مرور النوع بفتراتٍ نادرة من نقص الغذاء يمكن أن يدفع الجسم إلى التطور؛ لاتخاذ هيئة قادرة على أداء وظيفة محددة في جمع الغذاء، مع الحفاظ على قدرته على تناول الفرائس الأخرى السهلة المتوفرة في معظم الوقت. وتوضّح هذه الفرضية، التي تقوم على أساس نظرية «الجمع الأمثل للغذاء»، كيف من الممكن - رغم كل شيء - أن تلعب المنافسة على الغذاء دورًا في تفسير «مفارقة ليام»، إذ فرّقت بين القدرة على التكيف لأداء وظائف عديدة، وتطوير وظائف محددة في جمع الغذاء. وبمعنى آخر.. فحتى لو تطوَّر الرأس بشكلٍ معين خلال الانتقاء الطبيعي؛ لاستهداف نوعٍ معين من الفرائس، ربما يظل بإمكانه أن يعمل بكفاءة؛ لاستهداف مجموعةٍ كبيرة من الفرائس السهلة

يطرح الإطار النظري لفرضية روبنسون وويلسون فكرةً مهمة لفهْم «مفارقة ليام»، ويتسق مع أدلة تشير إلى أنَّ النظم الغذائية للأسماك التي تختلف في أشكال أجسامها من الممكن أن تتشابه مع بعضها البعض إلى حدٍّ كبير، لكن ثمة تباين بين الأسماك في المفاضلة بين تدبير الغذاء والتنافس؛ واكتساب القدرة على استهداف صنف غذائي منخفض المردود، قد يكون بسيط التكلفة بالنسبة إلى التغذّي على الفرائس السهلة عالية المردود، لكنْ إذا أسفر هذا التغيير عن فقدان القدرة على التغذِّي على الفرائس السهلة، فسيكون ذلك مكلفًا بالنسبة إلى المفترِس. وينبغي أن تعكس آثار الانتقاء التطوري على شكل رأس السمكة الحاجة إلى الحصول على الأصناف الغذائية الشحيحة، التي تضمن بقاء النوع خلال الأوقات الصعبة، وليس الأصناف التي تمثل غذاءه الأساسي، أو التي يحصل عليها بوفرة

وهناك سؤال يفرض نفسه الآن.. إلى أي مدى تعكس هذه النظريات ما يحدث في البرية؟ لم تُنشر سوى نتائج محدودة حتى الآن فيما يتعلق بهذا الشأن. وعلى سبيل المثال.. هناك أدلة على أنَّ النظام الغذائي لنوعين من البلطيات من كاشطات الطحالب يتضمن أصنافًا غير الطحالب واليوم يقدِّم تقرير جولتشر-بينافيدس، وفاجنر دليلاً شاملًا على ما يحدث عندما تواجه أسماك لديها وظائف محددة في جمع الغذاء فرائس سهلة ووفيرة، تتمثل في أسماك السردين، التي لم تتخصص البلطيات في التهامها. ويُقدّر الباحثان أنَّ حوالي 870 سمكة تنتمي إلى واحدٍ وثلاثين نوعًا من البلطيات تغذَّت على أسماك السردين، أي أنَّ البلطيات تجاهلت الفريسة التي تخصصت في التغذّي عليها، واتجهت للتغذّي على تلك الفرائس السهلة وهناك أسماك من البلطيات التي راقبها الباحثان، والتي تقتات عادة على حراشف أو عيون الأسماك فقط، أو على الأغشية الحيوية - (المكونة من كائناتٍ حية، مثل البكتيريا، والطحالب) والتي تتجمع على الصخور المغمورة - تغذَّت على السردين، من خلال العودة إلى نمط التغذية القائم على الشفط، الذي كانت تتبعه في صغرها.

وأسماك البلطيات التي أمكن التعرف عليها في المواجهة التي شهدها الباحثان مع السردين تنتمي إلى عشر مجموعات، مصنفة حسب وظائفها التقليدية في جمع الغذاء - منها أسماك السردين - بحماس، في حين يبدو أنَّ أسماك المجموعتين الباقيتين قامت بتضحية كبيرة بالتخصص لأداء وظيفة محددة في جمع الغذاء، وفَوَّتت الوليمة. وبوجه خاص، فإنَّ البلطيات التي لديها فمٌ شديد الانحناء إلى الأسفل، أو أسنان «ثلاثية النتوءات»، تُستخدم لتمشيط الطحالب، لم تلتهم وجبة السردين الخفيفة

توفر هذه المشاهدة الفردية دعمًا ميدانيًّا لنظريةٍ قامت على ملاحظاتٍ تجريبية. وتوضح أهمية وجود علماء طبيعة مدربين جيدًا، ومتأهبين عقليًّا، يمكنهم وضع ملاحظاتٍ شاهدوها في العالَم الحقيقي، في إطارٍ يشمل داخله الأدبيات العلمية، والتجربة الشخصية كذلك.

الصورة:

أسماك البلطيات لدى بعض أنواع الأسماك التي تنتمي إلى فصيلة البلطيات سماتٍ شكلية جسمانية؛ لأداء وظيفة محددة في جمع الغذاء، تساعدها على التهام أنواع محددة من الفرائس. وعلى سبيل المثال.. أسماك النوع المعروف باسم Petrochromis polyodon (الصورة أ) لديها شفاه كبيرة، مما يُمَكِّنها من كشط الطحالب من على الصخور، في حين تتميز أسماك النوع Haplotaxodon microlepis (الصورة ب) بفم موجَّه إلى أعلى، مناسب للتغذي على العوالق الحيوانية العائمة في الماء. وقد أثير جدلٌ حول ما إذا كانت أنواع أسماك البلطيات هذه - التي تؤدي وظيفة محددة في جمع الغذاء - تأكل فقط الأغذية التي تطورت لاستهدافها، أم هناك أغذية غيرها. وإذا كانت تلك الأنواع ما زال بإمكانها استهداف مجموعةٍ متنوعة من مصادر الغذاء، فإنَّ هذا يشكل لغزًا معروفًا بـ«مفارقة ليام»، المتعلقة بكيفية تطوُّر تلك الوظائف. وقد قدَّم كل من جولتشر-بينافيدس، وفاجنر1في بحثهما بعض الملاحظات عن السلوك الغذائي للبلطيات البرية، ومنها الأنواع المذكورة أعلاه، عندما واجهت سربًا من أسماك السردين، التي لم تتخصص البلطيات في التغذي عليها، إذ لم تلتهم أسماك Petrochromis Polyodon في حين أن أسماك Haplotaxodon microlepis من الاعتماد على مصدر غذائها المعتاد، لتلتهم أسماك

المصدر: nature
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 231 مشاهدة
نشرت فى 28 أغسطس 2019 بواسطة hatmheet

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,909,970