أ.د/ هاني جرجس عياد

اْستاذ جامعي وكاتب صحفي

هاجمهن الفقر، وأصبحن يعشن حياة يكسوها الذل والحرمان ، هن "أمهات " تجرعن العناء بقسوة ، بعد ان اضطرتهن ظروف الحياة للاستدانة علي أسرة غاب عائلها . عرفن بـ" النساء الغارمات " من اضطرتهن ظروف الحياة للاستدانة لتزويج بناتهن ، ومن ثم عدم القدرة علي الوفاء بهذا الدين ، ليذهبن إلى السجن متلفحات بلهيب الشقاء ، ليصل عددهن مؤخرا طبقا لإحصائية المجلس القومي لحقوق الإنسان إلى 25% من النساء المصريات وتسجل الأزمة كأخطر كارثة يمكن أن تواجهها المرأة المعيلة.

أن الأم الغارمة مجرد ضحية ، وأن قضية النساء الغارمات قصة تتكرر يومياً داخل الأسر المصرية ، بعد انسحاب العائل الأساسي للأسرة عن عملية الانفاق ومن ثم تتولي المرأة دفة الانفاق ، ثم الاستدانة عند العجز عن إدارة الموقف. أن المرأة الغارمة هي كارثة تتحملها المرأة وحدها بذنب المجتمع كله.

أن قضية النساء الغارمات ليست جديدة علي المجتمع المصري ، فكل أم تسعى لتزويج بناتهن ، وتجهيزهن بأفضل الأدوات والأجهزة ومن هنا تأتى الاستدانة ، كما أن الآباء أيضا يتعرضون لتلك المأساة ولكن بطرق مختلفة بعد ارتفاع الأسعار وقلة الدخول التي أدت الي تكرار الازمات بصورها المختلفة.

أن المرأة المعيلة هي تاج علي رأس كل بيت ، فبالرغم من ضعفها البشرى التي اختصت به منذ بداية الخلق ، تخرج للبحث عن الرزق لإعالة الأبناء ، ثم تدور الأيام وتجد المرأة نفسها أمام خاطب يريد يد أبنتها التي لم تعطها الأيام فرصة للنظر الي متطلباتها المستقبلية ، لتحدث الأزمة ثم الاستدانة ، وعلي أثره تذهب برأس الأسرة وعائلها الي السجن محملة بأزمة وفضيحة لا قبل لها بها.

أن حديثنا اليوم عن مشكلة تناولتها وسائل الإعلام بقوة مؤخرا وهي قضية "الغارمات". وللتوضيح فإن الغارمين والغارمات هم ” كل من عليه دين ولم يستطع سداده ”. هي ظاهرة اجتماعية متفشية. حيث شاعت مؤخراً إحصائية تقدر عدد الغارمين والغارمات في السجون المصرية بنسبة تتراوح بين ٢٠ إلى ٢٥٪ من إجمالي السجناء أي قرابة ال ٢٠ ألف سجين . أما عن الغارمين والغارمات الذين حصلوا على أحكام نهائية ولكنهم مازالوا خارج السجون ، فإن الأعداد تتضاعف حيث أن هناك الألوف من الأحكام النهائية التي مازالت قيد التنفيذ . المؤسف أن السواد الأعظم منهم يواجهون السجن نتيجة لديون لا تتعدى بضعة آلاف من الجنيهات.

و من خلال متابعة دقيقة لأسباب هذه الظاهرة بالأخص بين النساء ، فهي تتلخص في ثلاثة أسباب . السبب الأول وهو الأكثر شيوعا هو الاستدانة لشراء مستلزمات الزواج . وفي هذه الحالة ، تقوم الأم بشراء أثاث المنزل أو الأجهزة الكهربائية من خلال معارض بنظام القسط الشهري . وسرعان ما تتعثر السيدة في السداد فيدخل الأمر لساحة القضاء ويتطور بأن تسجن السيدة بالفعل لعدم قدرتها على السداد ما لم يتدخل أهل الخير.

السبب الثاني هو ما يعرف شعبيا بالحرق ، و في هذه الحالة تقوم السيدة بشراء سلعة بثمن يكون في الغالب مبالغ فيه نظير قسط شهري وتقوم على الفور بحرق السلعة أي بيعها بثمن بخس للاستفادة من السيولة النقدية لقضاء حاجة ماسة لديها ،  وسرعان أيضا ما يحدث التعثر في السداد.

السبب الثالث هو الضمانة ، حيث تضمن السيدة جارتها أو قريبتها في أشكال من أشكال التقسيط ، وحين يتعثر الطرف الأول عن السداد يصير الضامن غارم و تتم مقاضاته. وكثير ما يصيب هذا النوع السيدات الكبيرات في السن حيث يضمنن أقاربهن أو جارتهن في التقسيط الخاص بزيجات بناتهن.

وقد تزايدت حدة هذه الظاهرة مؤخراً نظراً لاستخدام التجار “إيصالات الأمانة” لتوثيق الدين مما يحول عملية البيع والشراء من قضية مدنية يمكن الفصل فيها دون عقوبة الحبس ، إلى قضية جنائية تؤدي إلى السجن لسنوات عدة . فالقاضي في هذه الحالة ليس لديه أي حلول أخرى غير سجن الشخص المدين لأن القانون يعتبر الإيصال منزها عن الأسباب.

إن البدء في مساعدة الأمهات الغارمات وحل مشكلاتهن أفضل من عقابهن بالسجن حتى لا يتحولن إلى  سجينات ، ويحملن هذه الوصمة التي سترافقهن طوال حياتهن ، لأنهن وضعن في ظروف صعبة اضطرتهن إلى فعل ذلك ، لأن انقاذ كل أمرأة غارمة هو خطوة لإنقاذ أسرة.

 إنه لشيء رائع أن تقوم مؤسسات المجتمع المدني والجيش وأهل مصر الطيبين بسداد ديون الغارمات لأنقذهن من الحبس وضياع حياتهن وحياة أطفالهن ، الذين سيتشردون بعد إيداع الأم في السجن . لكن الأجمل لوعملنا على توعية وتثقيف المواطن بالابتعاد عن الأعراف المجحفة وشرعنا في سن قوانين تكفل الاقتراض العادل لتنظيم العلاقة بين التاجر والمقترض . الأفضل دائما أن نجتث المشكلة من جذورها لا أن نتعامل مع تابعاتها.

فمثلا لابد من توعية السيدات الفقيرات في الأحياء الشعبية بمخاطر التوقيع على إيصالات الأمانة في التعاملات المدنية مثل شراء الأجهزة المنزلية ، وهذه التوعية تأتي بمثابة الوقاية لكل سيدة من خطر السجن بسبب مبالغ مالية صغيرة ، بالإضافة الى دعم السيدات الفقيرات وتمكينهن ماديا ، والزام الشركات الحكومية البيع لهن بالتقسيط كبديل عن بائعي القطاع الخاص.

أن المجتمع لابد له أن يعيد تقييم تجربة شراء الأجهزة بالتقسيط ، ويجب أن يجد لها بدائل ، وأن هذا يجب أن يبدأ من السيدة ذاتها فبدلا من التوقيع على إيصالات أمانة هناك حلول أخرى ، مثل القروض الحسنة أو الجمعيات. أن بعض السيدات يجدن في أخذ الأجهزة ومجرد التوقيع على إيصالات الأمانة شيئاً سهلا، ولا صعوبة فيه ، وهي لا تعلم العواقب الوخيمة التي قد تكون وراء هذا التوقيع.

وضرورة أن يعطي جهاز النيابة العامة أوامره بالتدقيق في قضايا إيصالات الأمانة لإثبات الشق المدني فيها ، لأنها كلها لا علاقة لها بإيصال الأمانة كمسوغ قانوني والذي يستخدم من أجل تبادل الأموال بين الناس ، لكنه الآن يستخدم في المعاملات التجارية وهذا خطأ أصيل يجب أن يلتفت إليه القضاء المصري في درجته الأولى وهي النيابة العامة.

أن أغلب حالات سجن الغارمات تبدأ بإمضاء ايصالات وشيكات على بياض والقاضي في هذه الحالة ليس لديه أي حلول أخرى غير سجن الشخص المدين لأن القانون يعتبر الشيك منزها عن الأسباب بمعنى أن القاضي يستطيع وخلال ثلاثين يوم أو أقل حبس المتهم فترة ثلاث سنوات عن كل شيك بدون النظر في حيثيات التوقيع على الشيك ولا أسبابه.

لذلك يجب أن تقوم الدولة ومنظمات المجتمع المدني بتخصيص برامج تثقيفية قانونية وخاصة للسيدات اللاتي يقمن بشراء أجهزة والتوقيع على شيكات وإيصالات على بياض حتى لا يقعن في فخ التوقيع على أوراق قد تودي بهن إلى السجن لعشرات السنين وعلى المسؤولين أن يقوموا ببحث الحالات الموجودة حاليا بالسجون ومحاولة مساعدتهن بالشكل الذي يضمن عدم الإخلال بالقانون.

المصدر: منشور بمجلة العلوم الاجتماعية – المملكة العربية السعودية – بتاريخ 25 / 5 / 2016م
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 21 مشاهدة
نشرت فى 25 مايو 2016 بواسطة hany2015

ساحة النقاش

أ.د/ هاني جرجس عياد

hany2015
اْستاذ جامعي وكاتب صحفي »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,600