<!--
<!--<!--
إن عصرنا هو عصر المتناقضات ، لا يدوم ولا يستقر على حال ، فقد شهد العالم مجموعة من التطورات أنتجت لنا مفهوما سياسيا واقتصاديا وإعلاميا جديدا هو العولمة ، مصطلح حير الأذهان واْتعب المفكرين نظرا لضخامة وتعدد ظاهره ، ويجعل العالم فضاء مفتوحا ، بلا جدران ولا سقوف ، متداخلا فيما بينه ، بلا عوائق أو قيود.
1- تعريف العولمة :
لغويا : يشير المدلول اللغوي إلى جعل المحلى عالميا . فالعولمة مأخوذة من العالم والتعولم ، وتنحدر من جذر لغوى يدل على تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله . شاع المصطلح منذ عقد التسعينات ، بعد انهيار المعسكر الشيوعي ، إن العولمة بلونها الجديد هي أمريكية المولد والنشأة ، مما أدى بالبعض إلى تسميتها ب " الأمركة ".
اصطلاحا : العولمة تعنى إصباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع أقوامها وكل من يعيش فيها وتوحيد أنشطتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات والجنسيات والأعراف .
العولمة هي شكل من أشكال تبسيط العلاقات وتجاوز العقد التاريخية والنفسية والنظر إلى العالم باعتباره وحدة متجانسة واحدة ، وإنما نظام رشيد يضم العالم بأسره ، وهى تحاول أن تضمن الاستقرار والعدل للجميع بما في ذلك المجتمعات الصغيرة وتضمن حقوق الإنسان .
عموما ، إن مفهوم العولمة مازال مفهوما هشا في الحقل الاقتصادي الذي تشكل في إطاره . كيف نشاْ إلى ما هو عليه الآن ؟
2- نشأة مفهوم العولمة :
إن العولمة " عملية تراكمية " ، اْى أن هناك عولمات صغيرة سبقت ومهدت لهذه التي نشهدها اليوم . تاريخيا ، مر المفهوم عبر عدة محطات ، يمكن حصرها فيما يلي :
ا- المرحلة الجنينية : من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر بأوروبا ، وتميزت بنمو التجمعات القومية ، ونمو الفكر الفردي الانسانى .
ب- مرحلة النشوء : من منتصف القرن الثامن عشر من 1870م بأوروبا ، شهدت المرحلة تحول فكرة الدولة المتجانسة الموحدة ، وتبلور مفاهيم خاصة بالعلاقات الدولية ، وبالأفراد باعتبارهم مواطنين لهم أوضاع مقننة في الدولة ، ونشأت خلال المرحلة مؤسسات متعلقة بتنظيم العلاقات والاتصالات بين الدول ، وبدأت مشكلة قبول المجتمعات غير الأوروبية في المجتمع الدولي .
ج- مرحلة الانطلاقة : استمرت المرحلة من عام 1870م حتى العشرينات من القرن العشرين ، وفيها بدأت محاولات تطبيق الأفكار الخاصة بالإنسانية ، وشهدت المرحلة كذلك بداية سرعة الاتصال والإعلام ، واندلاع الحرب العالمية الأولى .
د- مرحلة الصراع من اْجل الهيمنة : منذ العشرينات من القرن العشرين حتى الستينات منه ، وخلالها بدأت الحروب الفكرية حول المصطلحات الخاصة بعملية العولمة ، وظهرت صراعات حول أشكال الحياة وتميزت بوقوع الحرب الباردة ، وتأسيس هيئة الأمم المتحدة .
ه- مرحلة عدم اليقين : منذ الستينات حتى اليوم ، وتميزت بتصاعد الفكر والوعي الكوني ، ودمج العالم الثالث في المجتمع العالمي . وفى نهاية المرحلة أسدل الستار على الحرب الباردة ، وزادت قوة المؤسسات العالمية والإقليمية ، وحركات الحقوق المدنية ، وبداْ الإعلام يلعب دورا كبيرا . وأخيرا شهدت المرحلة قيام نظام أحادى القطبية .
في ظل هذا السياق التاريخي الكرونولوجى ، نشاْء مفهوم العولمة الذي بداْ يظهر بصفة ملحوظة منذ التسعينات ، وأصبح البعض يعتبره من أهم معطيات القرن الحادي والعشرين ، رغم الاختلاف في تحديد وضبط تعريفه .
3- اختلاف المفاهيم :
إن العولمة لفظ ومصطلح جديد في القاموس السياسي والاقتصادي ، وهى ظاهرة لا يمكن فهمها بشكل أحادى ، سواء أكان ذلك من زاوية اقتصادية صرفة أم سياسية محددة ، أم ثقافية حصرية لذا يمكن استعمال لفظ " عولمات " بدل عولمة .
إن اختلاف وتعدد تعاريف المفهوم هو تعبير عن تنوع الاتجاهات الفكرية والحياتية عند الإنسان . فلدى الفكر الانسانى ، تتباين التعاريف بين الشرق والغرب ، وهو ما يتضح من خلال الأمثلة الآتية :
ا- لدى مفكري الشرق :
تتباين وجهات وأراء المفكرين العرب حول تحديد تعريف العولمة ، وفى المقابل تجمع على خطرها وسلبيتها واْن العالم العربي متضررا منها . ويرى ( زكريا مطر ) باْن العولمة " هي تلك الحالة أو الظاهرة السائدة في العالم حاليا ، تتميز بمجموعة من العلاقات والعوامل والقوى ، تتحرك بسهولة على المستوى الكوني متجاوزة الحدود الجغرافية للدول ، ويصعب السيطرة عليها ، تساندها التزامات دولية أو دعم قانوني ، مستخدمة آليات متعددة ومنتجة لآثار ونتائج ، وتتعدى نطاق الدولة الوطنية إلى مستوى العالم لتربطه في شكل كيان متشابك الأطراف يطلق عليه القرية الكونية .
بينما يذهب ( السيد ياسين ) إلى القول باْن العولمة " تعريف شامل ، لابد أن نضع في عين الاعتبار لتحديده ثلاثة عمليات ، الأولى : تتعلق بانتشار المعلومات وشيوعها ، والثانية : إزالة الحدود بين الدول ، أما الثالثة : تخص تزايد التشابه بين الجماعات والمجتمعات وهى عمليات قد تؤدى إلى نتائج سلبية بالنسبة لبعض المجتمعات وايجابية لدى الأخرى " .
ويعرف ( الشيخ محمد المهدي شمس الدين ) العولمة بأنها " ليست أكثر من مشروع استعماري يخفى عن الناس حقيقة عدوانية " .
وقد جاء في تقرير إحدى الندوات العربية حول العولمة ( بيروت 1992 ) إن العولمة هي " سهولة حركة الناس ، المعلومات ، السلع ، الأموال ، والأفكار بين مختلف الدول على نطاق الكرة الأرضية " .
ب- لدى مفكري الغرب :
يرى ( اْنتونى قيدنار ) العولمة بأنها " مرحلة جديدة من مراحل بروز الحداثة تتكيف فيها العلاقات الاجتماعية على الصعيد العالمي ، حيث يحدث تلاحم غير قابل للفصل بين الداخل والخارج ، ويتم فيها ربط المحلى والعالمي بروابط اقتصادية وثقافية وإنسانية وسياسية " .
ويعرفها ( والكوم واترز ) في كتابه العولمة بأنها هي " كل المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد أو بدون قصد على دمج سكان العالم في مجتمع عالمي واحد " .
ولدى ( رونالد روبرتسون ) فان العولمة هي " اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم وزيادة وعى الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش الذي حدث على صعيد الزمان والمكان " .
بينما يبدو للباحث ( روزانو ) بأنه مبكرا وضع تعريف كامل وجاهز يلاءم التنوع الضخم لهذه الظاهرة المتعددة ، فمن المشكوك فيه أن يتم قبوله واستعماله بشكل واسع .
مهما يكن ، فالاختلاف واقع في تحديد المفهوم ، نظرا لتشعبه وتعدد مجالاته ، بل حتى أصبح الآن تخصيص العولمة إلى فروع : سياسية ، اقتصادية وثقافية.
4- العولمة ( الأبعاد والانعكاسات الاجتماعية ) :
انطلاقا من أن العولمة كظاهرة لم تكتمل بعد ملامحها وقسماتها ، بل هي عملية مستمرة تكشف كل يوم عن وجه جديد من وجوها المتعددة ، لذلك تتعدد المحاولات الجادة من جانب علماء السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والإعلام ، سعيا لصياغة تعريف شامل للعولمة ، وبناء تصور نظري متكامل لتفسير كثير من التحولات والظواهر الاقتصادية والسياسية والثقافية ، التي تزخر بها المجتمعات الصناعية في الشمال ، وسواها من مجتمعات الجنوب مهد الحضارات القديمة .
وصياغة تعريف دقيق للعولمة تبدو مساْلة شاقة نظرا لتعدد وجهات النظر ، حول نشأتها ومصادرها وأصولها ومبادئها ، والتي تتأثر أساسا وضرورة حتمية بانحيازات الباحثين الإيديولوجية واتجاهاتهم إزاء هذه العولمة رفضا أو قبولا ، فالخلاف في وجهات النظر في العولمة بين اليسار واليمين ، بين الاشتراكية والرأسمالية ، بين النظم الوطنية والتابعة ، بين الخصوصية والعولمة ، وأيضا وهو مهم للغاية ، بين وجهة نظر إسلامية و وجهة نظر غير إسلامية .
وإذا كان علماء الاقتصاد قد نجحوا في توصيف ظاهرة العولمة و ارتباطها بنشوء الرأسمالية الصناعية ، وتطور أشكالها وأنماطها طبقا لدرجة تطور الرأسمالية الصناعية العالمية ، كما قدموا تحليلات متعمقة حول إيديولوجية السوق ودور الشركات المتعددة الجنسية كآليات فعالة لتعميق وتسويد آثار العولمة على مستوى الكرة الأرضية ، ولم يغفلوا الآثار والتحولات الحاسمة التي أحدثتها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ، ودورها في استكمال معالم العولمة كظاهرة وكعملية تاريخية مستمرة ، غير إن هذه المحاولات لم تقترب إلا قليلا من الوجه الثقافي للعولمة ، وهذا ينقلنا إلى الضفة الأخرى ، حيث يطرح علماء الانثروبولوجيا والسياسة والاجتماع رؤاهم للعولمة ، التي تتجاوز دائرة الاقتصاد والتسويق والمبادلات ، وتركز على الثقافة والسياسة والايدولوجيا ، دون إغفال لأهمية الجوانب الاقتصادية والمالية .
وعندما نتفحص اْبرز التعريفات التي قدمها الباحثون في مجال العلم الاجتماعي والثقافة عن العولمة ، نلاحظ إنها تنطلق من منظور فكرى متقارب ، يرى أن العولمة تمثل لحظة التتويج الكبرى للنظام الراْسمالى على المستوى الكوني ، وإنها تجسد الدرجات العليا في علاقة الهيمنة \ التبعية الامبريالية.
ويفرق البعض بينها وبين العالمية مؤكدا باْن العولمة احتواء للعالم ، وفعل ارادى يستهدف اختراق الآخر ، ولذلك تعد العولمة إرادة لاختراق الآخر وسلبه خصوصيته الثقافية ، بينما تعد العالمية تفتحا على ما هو كوني وعالمي ، تستهدف اغناء الهوية الثقافية. والاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة ، يريد إلغاء الصراع الايديولوجى ، والحلول محله من خلال محاولة السيطرة على الإدراك عبر الصورة السمعبصرية ، التي تسعى إلى تسطيح الوعي ، وجعله يرتبط بما يجرى على السطح من صور و مشاهد ذات طابع اعلامى مثير للإدراك ، ومستفز للعواطف وحاجب للعقل.
وتستهدف ثقافة الاختراق تنميط الذوق ، وقولبه السلوك ، وتكريس نوع معين من الاستهلاك لأنواع معينة من السلع والمعرفة والثقافة ، تتسم جميعها بالضحالة والسطحية والإثارة .
وينظر بعض علماء الاجتماع السياسي إلى العولمة باعتبارها تطورا كيفيا في تاريخ النظم السياسية \ الاقتصادية \ الاجتماعية \الثقافية ، وإنها تستعين بوسائل جديدة للسيطرة ، تتصدرها الشركات العابرة القوميات ، والتي تشكل خط الاختراق الأول للحدود الاقتصادية والسياسية ، اْى لحدود الدولة القومية المرتبطة بالسوق العالمية . أما وسائل الإعلام وشبكات المعلومات ، فهي تشكل خط الاختراق الثاني للحدود الاجتماعية والثقافية .
ويستكمل علماء الثقافة هذا التعريف للعولمة بالتأكيد على أن الثقافة بوصفها منتجا اجتماعيا قد أصبحت جزءا من العملية الاقتصادية \ التجارية الجديدة ، أسوة بغيرها من السلع والمنتجات المادية ، إذ تحررت من القيود الجمركية ، وأصبحت قابلة للتداول على أوسع نطاق في السوق العالمية . وتخضع لنفس الإجراءات والأحكام المفروضة على سواها من السلع المادية ، غير أن مجال المنافسة في تسويق هذه السلع أصبح محدودا للغاية ، وغير متاح إلا للقوى الرئيسية المسيطرة على تكنولوجيا الاتصال وتكنولوجيا صناعة المعلومات ، وتشكل العقول وأنماط التقاليد والسلوك ، الأمر الذي يشير إلى أن التبادل الثقافي العالمي الجاري حاليا في ركاب التجارة الحرة هو تبادل غير متكافئ ، يتغذى من التفاوت والخلل الرهيب في توازن القوى الثقافي على الصعيد العالمي ، بين ثقافات مسلحة بالتكنولوجيا الاتصالية والمعلوماتية ، وبين ثقافات أخرى مجردة من اْى حماية تكنولوجية أو تشريعية ، مما يحول دون إمكانية خلق التفاعل المتوازن بين الثقافات والشعوب والمجتمعات ، و هنا يبرز الوجه الحقيقي لما يسمى بثقافة العولمة ، التي لا تعنى في جوهرها سوى السيطرة الثقافية الغربية على سائر الثقافات .
وان كانت هذه السيطرة تحمل في داخلها علاقة أخرى من السيطرة ، تجعل ثقافات غربية عديدة في موقع تابع لهذه الثقافة المركزية ، التي يشار إليها بعبارة " الأمركة " التي تعبر عن نفسها على نحو متزامن باعتبارها مصدرا للسلع التجارية المقننة، وبوصفها سلسلة من القيم والمصالح البشرية العامة ، و بوصفها خطابا علميا تكنولوجيا ، وأخيرا كنظام متداخل و متكامل للاتصالات التي تشكل البنية المادية لكل المكونات والرموز الثقافية الأخرى.
وعند مقارنة ثقافة العولمة بالثقافات الوطنية في دول الجنوب أو سواها ، نلاحظ إن هذه الثقافات تتميز بالخصوصية والانتظام داخل اْطر تاريخية معينة ، كما تتميز بالقدرة على ربط أهلها بسمات وجدانية وذهنية مشتركة ، تتمثل في القيم والذاكرة الجماعية ، والإحساس المشترك بهوية تاريخية ومصير واحد . هذا فيما نرى إن ثقافة العولمة ليس لديها القدرة على أن تولد لدى الأفراد إحساسا مشتركا بهوية تاريخية أو مصير مشترك ، وينظر إليها على إنها ثقافة لا تحمل ذاكرة جماعية ، كما إنها تتسم بنزعة توسعية ، وإنها منقطعة عن اْى ماضي ، وان كانت تستغل الماضي ليوفر لها عناصر مستمدة من الأنماط الشعبية والوطنية في الموضة والأثاث والموسيقى والفنون ، التي تنتزع من سياقاتها الأصلية ، وتوضع في توليفات كوزموبوليتانية ، إذن فهي في أساسها ثقافة لا تاريخية .
اْنه إذا كانت العولمة تعنى في جوهرها رفع الحواجز والحدود أمام الشركات والمؤسسات والشبكات الدولية الاقتصادية و الإعلامية والثقافية ، كي تمارس أنشطتها بوسائلها الخاصة ، و كي تحل محل الدولة في ميادين المال والاقتصاد والثقافة و الإعلام ، مما يعنى تقلص السيادة القومية للدولة في هذه المجالات بالتحديد ، وإذا كان التفوق التكنولوجي قد أتاح للغرب إمكانية التحكم في صناعة المعلومات والاتصال ، من خلال الشركات العملاقة والمهيمنة على السوق العالمية بواسطة الثلاثي المعروف (البنك الدولي ، صندوق النقد الدولي ، ومنظمة التجارة العالمية ) ، فان المجال الثقافي وسائر مكونات المنظومة الحضارية لا يزال يمثل الساحة الرئيسية للصراع ، حيث تواصل القوى الرئيسية المتحكمة في العولمة محاولاتها الدءوبة من اْجل عولمة الثقافة والتعليم والدين وسائر مكونات المنظومة الحضارية ، التي كانت تحتفظ باستقلال نسبى خارج دوائر وقيم السوق العالمية .
إذن فالعولمة هي نظرية اقتصادية في المنطلق ، سياسية – اجتماعية ثقافية في النتائج ، تستهدف فتح الأسواق الاقتصادية وتطبيق سياسة السوق فيها بإلغاء الرسوم الجمركية وإقرار حركة تنقل رأس المال والبضائع والخدمات بين الدول دون اْى قيود، وفتح الحدود الوطنية في المجال السياسي ، والترويج لثقافة نمطية عالمية واحدة هي ثقافة القوى المهيمنة على العالم .
"
ساحة النقاش