<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->

القــراءات القــرآنية في تفسير القرطبي وأثرهـــا في

التــفسير والأحكام الــفقهيــة

                                د.أحمد محمد الصغير على

   ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ                 

1 : الإطار العام للفكرة

1/1-موضوع البحث:

        يعرض هذا البحث للقراءات القرآنية في تفسير الإمام القرطبي ، حيث يسعى الباحث إلى تعرف موقف القرطبي من القراءات القرآنية ، وتحديد معايير قبوله لها ، والأسس التي يتم من خلالها الترجيح بين القراءات  المختلفة ، والوسائل التي يعتمد عليها في تقوية وجوه القراءات ، كما يسعى الباحث أيضا إلى الكشف عن كيفية توظيف القرطبي للقراءات القرآنية، وبيان أثرها الفعال في إيضاح الدلالة التفسيرية والاستدلال الفقهي في مجال الأحكام الفقهية.

        والقراءات القرآنية قديمة معاصرة لمراحل نزول القرآن على نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وقد وفق الله تعالى بعض أئمة المسلمين إلى جمع هذه الحروف والقراءات القرآنية، وتعزية الوجوه والروايات ، والتمييز بين الصحيح والمتواتر والشاذ والضعيف منها، وقد كانت إرهاصات هذا الجمع في القرن الثالث الهجري على يد الإمام(عبيد القاسم بن سلام ت 224 هـ). (1)

        وقد أُنزل القرآن الكريم على سبعة أحرف ، ولتعدد أحرف القرآن الكريم وأوجهه السبعة التي اُختلِف حول مدلولها حكمة تعتبر ، وذلك أن القرآن أنزل على أمة أمية قليلة القراءة والكتابة كثيرة اللغات واللهجات والحروف، فلو فرض القرآن عليهم بلغة  قريش وحدها لصعب وعز على كثير منهم أن يتحول عن لهجته التي نشأ عليها وشاب في رحابها إلى لغة قريش ولتكلف في هذا مالا يطاق حمله، فكان من رحمة الله بأمة حبيبه  وتيسيره لها أن أمر بقراءة القرآن على سبعة أحرف بما يسمح لكل قبيلة أن تقرأ بما يوافق حرفها ولهجتها دون أن يؤدى هذا إلى تناقض الشرائع والأحكام ، فقرأ التميمي بالهمز ، وقرأ القرشي بدونه وفتح الحجازي أول المضارع ، وكسرته بعض القبائل الأخرى كأسد ، وهكذا تتجلى حكمة تعدد أحرف القرآن وقراءاته القرآنية (2) .

        ومن الثابت أن علماء القراءات القرآنية قد اتفقوا على المعايير التي يتم تصنيف القراءات القرآنية على أساسها وذلك على النحو التالي :

أ- كل قراءة وافقت العربية بوجه من الوجوه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها وتواترها عن رسولنا e قراءة صحيحة لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها ، فهي من الأحرف السبعة سواء كانت من الأئمة السبعة أم العشرة أم غيرهم من القراء المقبولين .

 ب - متى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة وسمت القراءة بالإفراد أو بالضعف أو الشذوذ والبطلان سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن غيرهم  (3) .

1/2- أسباب اختيار الموضوع:

يعد الإمام أبى عبد الله محمد بن أحمد القرطبي المتوفى سنة ( 671 هـ ) ، عقلية عربية فريدة وشخصية علمية متميزة ، اتسم بالزهد والفقه والتصوف ، والموسوعية في العلوم والثقافة العربية (4) .

        وحين نتعامل مع تفسيره ( الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان ) نجد الإمام القرطبي يجمع في هذا التفسير بين علمين من أجلِّ العلوم العربية :

أولهما : علم الفقه : حيث يعد القرطبي مفسرا فقهيا ينتمي إلى مدرسة الفقهاء المفسرين، وكتابه يعنى بالكشف عن آيات الأحكام وما يتعلق بها من جوانب فقهية أو تفسيرية (5) .

الثاني : علم اللغة : حيث عنى القرطبي في هذا المصنف بالكشف عن وجوه الإعراب، وغريب الألفاظ ، والتصريف وتوجيه القراءات ، واللغات ، والشواهد العربية التي تدعم التفسير اللغوي للألفاظ والتراكيب القرآنية(6) .

        ويكمن السر في تركيز القرطبي على هذين العلمين الجليلين من العلوم العربية الإسلامية إلى طبيعة الاستدلال عنده ، حيث يعتمد الإمام في تفسيره لآيات الأحكام على نوعين من الاستدلال :

أولهما لاستدلال الفقهي : حيث يعنى بعرض النصوص والنقول الفقهية الموثقة متنا وسندا ، ويفيض في عرض مسائل الخلاف الفقهي التي يتعلق ذكرها بآيات الأحكام الفقهية المستنبطة من النص القرآني (7) .

الثاني الاستدلال اللغوي : حيث  يعتمد الإمام القرطبي كثيرا على  المقاييس اللغوية في توجيه الدلالة التفسيرية أو الحكم الفقهي ، ولهذا   السبب يزخر تفسيره بالمسائل اللغوية كعرضه لتصريف الكلمات واشتقاقها وتحديده للغات والألفاظ ووجوه إعرابها ، وتوضيحه لشتى القراءات وأوجهها اللغوية المختلفة .

والسبب الأساسي الذي دعانا إلى دراسة القراءات القرآنية في تفسير القرطبي يرجع إلى الأمور التالية :

1- اهتمام الإمام القرطبي في كثير من المواطن بالكشف عن وجوه القراءات ، حيث بدا لنا في ثوب اللغوي الذي يرجح بين القراءات ، ويمعن في إظهار عللها ووجوهها معتمدا في ذلك على مقاييس لغوية ودلالية .

2- اعتماد القرطبي على القراءات القرآنية و الاستدلال اللغوي في توجيه الدلالة التفسيرية لكثير من الآيات القرآنية.

 3-اعتماد القرطبي على القراءات القرآنية في تفسير آيات الأحكام ، وبيان الأحكام الفقهية، و الترجيح بين الأقوال والمذاهب الفقهية المختلفة .

        فهذه الأسباب مجتمعة هي التي وجهتنا إلى دراسة القراءات القرآنية في تفسير القرطبي ؛ للتعرف على موقفه من متواترها وشاذها ، والوقوف على معايير قبوله لها ، وبيان أسس ترجيحه فيما بينها والوسائل المعتمدة في تقوية وجه القراءة القرآنية ، والكشف عن الأثر الفعال للقراءات القرآنية في إيضاح الدلالة التفسيرية وبيان الأحكام الفقهية .

1/3-أهداف البحث:

من خلال ما سبق عرضه فإن الباحث من خلال هذه الدراسة يهدف إلى تحقيق ما يلي :

أ- الوقوف على مفهوم الأحرف السبعة عند القرطبي ومحاولة تحديد مدلولها.

ب- بيان المعايير التي يستند إليها القرطبي لقبول القراءة من خلال العينة العلمية .

ج- تعرف وجهة نظر القرطبي في القراءات القرآنية من حيث القبول والرد.

د- تحديد أسس الترجيح بين القراءات ، ووسائل تقويتها .

هـ- الكشف عن مدى استفادة القرطبي من القراءات المختلفة في إيضاح الدلالة التفسيرية   وبيان الأحكام الفقهية.

1/4-عينة البحث:

نظرا لكبر حجم تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) ، وغزارة مادته العلمية فقد آثر الباحث أن يجرى هذا البحث على عينة علمية محددة نتوقف من خلالها عند سورتي الفاتحة والبقرة ، مع تعرضنا في الوقت ذاته إلى بعض العينات المتفرقة من التفسير ، بهدف محاولة الإحاطة بوجهة النظر العامة للإمام القرطبي في القراءات القرآنية .

1/5-مصادر الدراسة:

لما كان هذا البحث دراسة تطبيقية يتم إجراؤها على تفسير القرطبي فمن الطبيعي أن يكون المصدر الأساسي لهذه الدراسة هو كتاب القرطبي (الجامع لأحكام القرآن ، والمشتمل على ما تضمن من السنة وآي الفرقان)، حيث يتم اختيار عينة البحث من خلال مادة هذا التفسير ودراستها وصفيا وتحليلها على ضوء آراء علماء القراءات والنحاة والفقهاء والمفسرين،وقد اعتمد البحث في تحليله لعينة الدراسة على نوعين من المصادر على النحو التالي:

أ- كتب القراءات القرآنية التي تعنى بالقراءات والقراء ومعايير القبول وما إلى ذلك وفي مقدمتها:

الحجة في علل القراءات لأبى على الفارسي، والسبعة في القراءات لابن مجاهد ، والنشر في القراءات العشر لمحمد ابن الجزري .

ب- كتب الفقه و التفسير ومن أمثلتها أحكام القرآن للجصاص، وأحكام القرآن لابن العربي. وقد عالج البحث عينة الدراسة من خلال هذه المصادر على ضوء آراء القرطبي من خلال العينة العلمية ، وقام بمناقشتها على ضوء آراء علماء القراءات ، ومن خلال رؤية الباحث الشخصية في هذا الموضوع.

1/6-منهج البحث:

لما كان هذا البحث مهتما بمعالجة موقف القرطبي من القراءات القرآنية ، وبيان أثرها في التفسير والأحكام فقد نهج الباحث المنهج التالي:

أولا: المنهج الوصفي حيث يسعى البحث إلى التعرف على القراءات من منظور القرطبي، وذلك من خلال النصوص المختارة التي يتم رصدها لتكون عينة البحث.

ثانيا:  تحليل آراء القرطبي في القراءات ونقدها من خلال آراء علماء القراءات، واللغة والتفسير والفقه الإسلامي.

1/7-خطة البحث:

يتضمن الإطار العام للبحث عرض موضوع البحث ،وأسباب اختيار القرطبي كمجال للتطبيق العملي في مجال القراءات القرآنية،كما يعرض أهداف البحث التي يسعى الباحث إلى تناولها من خلال عينة الدراسة،ثم يحدد الباحث خلال الإطار العام المصادر الرئيسية التي يستقى من خلالها مادة البحث وعملية التطبيق والتحليل اللغوي لعينة البحث، كما يحدد الباحث بعد ذلك المنهج المتبع في الدراسة ، والحدود التي يتم من خلالها معالجة فكرة البحث.

ثم يحاول الباحث بعد ذلك دراسة القراءات القرآنية من منظور الإمام القرطبي، حيث يعنى بالكشف عن موقفه من القراءات وطريقة تحليله لها وتناوله لأقسامها المختلفة، ومعايير استدلاله بها ، وموقفه من الأحرف السبعة والقراءات التي اختلف حولها النحاة والمعربون.

وهنا ينتقل البحث بعد ذلك إلى المجال العملي في هذا البحث حيث ننتقل إلى بيان تأثير القراءات القرآنية في مادة التفسير لدى القرطبي،فيعرض لنماذج وصفية من تفسير القرطبي، وتحليلاته الفقهية لنرى مدى تأثير القراءات في محوري التفسير والأحكام الفقهية.

************************************

2- القراءات القرآنية من منظور الإمام القرطبي

في مقدمة تفسيره ( الجامع لأحكام القرآن ) ، ذكر الإمام  القرطبي أنه سوف يضمن تفسيره لآيات الأحكام تعليقات وجيزة تتضمن نكتا من التفسير واللغات والإعراب والقراءات (8) .

        وقد ألزم الرجل نفسه بما أخذه على عاتقه في هذه المقدمة ، حيث التزم في تفسيره للآيات بعرض شتى القراءات ( متوا ترها وشاذها ) ، كما عرض لأوجه القراءات المختلفة وعنى بتخريجها من حيث اللغة واللفظ العربي والمعنى المعجمي ، كما عنى برصد آراء النحاة في توجيه ما عرض له من القراءات القرآنية .

        ومن خلال العينة المختارة لإجراء هذا البحث ، سوف نحاول أن نلقى الضوء على موقف الإمام  القرطبي من القراءات القرآنية ، والتعرف على مدلول الأحرف السبعة عنده ، ورصد معايير قبول القراءة عنده ، والوقوف على أسس الترجيح بين القراءات القرآنية ، وتحديد موقفه من القراءات الشاذة وكيفية تخريجه لها وإفادته منها.

2/1- مفهوم الأحرف السبعة عند القرطبي :

معنى الأحرف السبعة المنصوص عليها في الحديث يتوجه عند العلماء مع اختلافهم إلى وجهين :

أ- سبعة أوجه من اللغات فكل شئ منها وجه .

ب- سبعة أحرف على طريق السعة وتسمية الشيء باسم ما هو منه ،فسمى النبي e القراءة حرفا وإن كان كلاما كثيرا (9) *.

        وقد وقع الخلاف حول الأحرف السبعة منذ عهد رسولنا e ، وجرت بذكر ذلك الكتب الصحاح ومصنفات القراءات ، وليس أدل على ذلك من خلاف سيدنا عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم حول قراءة سورة الفرقان ، وكذلك خلاف سيدنا عبد الله ابن مسعود مع صحابي آخر حول قراءة سورة (حم) ، وخلاف أبى بن كعب واثنين من الصحابة . وقد أورد الإمام القرطبي نصوص الخلاف بين الصحابة حول القراءات القرآنية في صدر مقدمة التفسير (10) .

        وقد كان الصحابة جميعا يحتكمون إلى رسول الله e ، فيقر كل صحابي على قراءته المتواترة الصحيحة ، وكثيرا ما كان ينهاهم عن الاختلاف فيما بينهم بقوله : (إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف ) ، وقد كان الفيصل في هذا هو قوله : ( هكذا أنزلت . إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه ) (11) .

        وقد امتد الخلاف وزادت سطوته في القرنين الثاني والثالث الهجريين حيث اتسعت رقعة الدولة الإسلامية ، وكثر اختلاط الأجناس وتداخلت القراءات واللهجات ، وجرى على الألسن ذكر الصحيح والمتواتر والشاذ والمقيس وغير المقيس . فبدأ الأئمة في وضع ضوابط القراءات وتحديد دلالات الأحرف السبعة التي نص عليها رسول الله e . وقد انحصر الخلاف حول مدلول هذه الأحرف في جانبين هما :

أ- جانب المعنى : حيث يرى أصحاب هذا المذهب أن السبعة يقصد بها معاني الأحكام.

        - ( ناسخ ومنسوخ ، خاص وعام ، مجمل ومبين ، مفسر )

        - ( أمر ، نهى ، طلب ، دعاء ، خبر ، استخبار ، زجر )

        - ( الحلال والحرام ، المحكم والمتشابه ، الأمثال والإنشاء ، الإخبار )

ب- جانب اللفظ حيث ذهب أصحاب هذا المذهب إلى أن السبعة يقصد بها الاختلاف في الألفاظ واللغات واللهجات .

وقد انقسم هؤلاء فيما بينهم :

فذهب فريق إلى حصر السبعة في لهجات بعينها واختلفوا في حصر اللهجات فقيل :

        - ( قريش ، هذيل ، ثقيف ، كنانة ، تميم ، اليمن )

        - ( قريش ، كنانة ، أسد ، هذيل ، تميم ، ضبة ، قيس )

وذهب فريق إلى عدم حصر السبعة في لهجات العرب ، لأن الاختلاف ينحصر في صور لفظية سبعة ذكرها القرطبي في مقدمة تفسيره وسوف نعرض لها في المحور الثاني من هذا البحث .

        وفي موازنة سريعة بين هذه الأقوال ، نرى أن الرأي الأخير فيها الذاهب إلى انحصار الاختلاف في سبعة صور لفظية وهو رأى كثير من العلماء منهم ( القاضي ابن الطيب ، والقرطبي ، وابن الجزري ، والزركشي ) هو الرأي الراجح عندنا للأمور التالية :

 أ-إن من قال إن الأحرف السبعة تنحصر في لغات بعينها ولهجات بعينها يرد عليه أن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم قد دب الخلاف بينهما في القراءات وهما من لهجة واحدة هي قريش ، كما أن لهجات العرب لم تكن سبعا بل يزيد عددها على أربعين لغة أو لهجة .

 ب-إن من قال إن الأحرف السبعة هي معاني الأحكام يرد عليه أن التوسعة المرادة في حديث الأحرف السبعة لم تقع في حلال أو حرام ، أو خبر أو استخبار بل وقعت في حروف القراءات أي ألفاظها ولغاتها .

ج- إن هذه الأحرف متفرقة في القرآن بل وفي كل رواية وقراءة ، وهى لا تكاد تنضبط من حيث التعداد ويرجع ظاهرها إلى الاختلافات اللفظية سواء نشأ عن هذا الاختلاف في الألفاظ اتفاق في المعاني ، أم اختلاف في الألفاظ والمعاني .

        فالأحرف السبعة ما هي إلا سبع صور لفظية يقع فيها التغيير في الحركات وفي الحروف ، وفي تركيب الآيات ، وفي طبيعة بنية الكلمة تجردا وزيادة ......

        وقد أجمع كثير من علماء القراءات على أن الاختلاف في القرآن لا يخرج عن هذه الصور البنيوية ، ويمكن دون مداخلة أو رد حمل الأحرف السبعة المنصوص عليها على هذه الصور اللفظية السابقة (12) .

تعقيب :

        بعد هذا العرض الموجز لمقاييس القراءات ومفهوم الأحرف السبعة ، والخلاف حول مدلولها نخلص إلى ما يلي :

- أُمِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقراء أمته القرآن على سبعة أحرف ، غير أنه لم يفسر لصحابته مدلول السبعة ( لفظيا كان أم معنويا أم مطلقا ) فلم ينص على أنها مطلق التوسعة ، أو أنها عدد مقصود لذاته ، أو أنها معاني الأحكام ، أو أنها اللهجات السبع ، أو أنها اختلافات لفظية . فقد ترك باب الاجتهاد في مدلولها مفتوحا أمام علماء المسلمين ليدلي كل واحد منهم بدلوه ، وقد ترتب على هذا تشعب الخلاف وكثرة الآراء .

وهذا الترك له في ظني مدلولات خاصة ؛ فهو زيادة من الرسول صلى الله عليه وسلم في التوسعة وبسطة في التيسير على أمته حتى يأخذ كل منهم من القرآن ما يوافق لغته ولهجته ، وما يوافق حكمه ومنهجه ، دون حرج أو عذر .

        وهو أيضا إثبات للإعجاز القرآني الذي يسيطر على لهجات العربية ولغاتها في كل زمان ومكان ، فمهما وقع بين العرب من خلاف في الألفاظ أو الأحكام أو المعاني ، فإن القرآن قادر على استيعاب تلك الخلافات محيط بها ملم بشتاتها وهذا منتهى الإعجاز اللغوي . الذي يجعل لغة القرآن لغة مرنة سهلة ، تحيط بدقائق العربية وتطورها ، وتحيط بالأحكام الشرعية والدلالات التفسيرية .

          وقد عقد الإمام  القرطبي في مقدمه تفسيره بابا مستقلا للحديث حول مدلول الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن الكريم ، وقد جاء هذا الباب تحت عنوان:(معنى قول النبي e : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه ) ؛حيث عرض خلال هذا الباب للأحاديث التي وردت حول الأحرف السبعة كما تناول بعضا من الخلافات التي وقعت بين صحابة رسول الله e حول أحرف القرآن ، فعرض للخلافات التي وقعت بين كل من :

أ- سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، وهشام بن حكيم حول قراءة سورة (الفرقان) .

ب- سيدنا أنس بن مالك ، مع بعض الصحابة حول قراءة ( وأصوب قبلا ) .

ج- خلاف أبى بن كعب حول حرف من حروف القراءة مع بعض الصحابة .

        ولم يشر القرطبي مباشرة إلى مفهوم الأحرف السبعة عنده ، حيث اكتفي بذكر الآراء والأقوال المختلفة التي تتناول اختلاف مدلول الأحرف السبعة وقد ذكر أن العلماء قد اختلفوا في مدلولها على خمسة وثلاثين قولا ، عرض لنا من جملتها خمسة أقوال وهى : (13)

القول الأول : ( وهو مذهب سفيان بن عيينة وابن وهب والطبري ) ، ويرى علماء هذا الفريق أن الأحرف السبعة  يراد بها سبعة أوجه من المعاني المتقاربة على نحو :

( أقبل ، تعال ، هلم ) ، و ( أَنظر ، أَمهل ، أَخر ) ، ( مشوا ، سعوا ، مروا ) ، مستندين في هذا القول إلى أحاديث مروية عن ( أبى بكر و أبى بن كعب ) يقول فيها رسول الله e : (اقرأ فكل شاف كاف إلا أن تخلط آيه رحمة بآية عذاب ) (14) .

القول الثاني : ( وهو مذهب عبيد بن سلام وابن عطية ) ، ويرى أصحاب هذا القول أن الأحرف السبعة يراد بها سبع لغات في القرآن على لغات العرب كلها ( يمنها ونزارها ) ، فهذه اللغات السبع متفرقة في القرآن : فبعضه نزل بلغة قريش ، وبعضه بلغة هذيل ، وبعضه بلغة هوازن ، وبعضه بلغة اليمن (15) .

القول الثالث :  ويرى أصحابه أن هذه الأحرف السبعة تنحصر في قبائل مضر (قريش ، كنانة ، أسد ، هذيل ، تميم ، ضبة ، قيس ) محتجين في هذا بقول عثمان : (نزل القرآن بلغة مضر ) .

القول الرابع : ويرى أصحابه أن الأحرف السبعة يراد بها التغيير في الألفاظ دون تحديد للهجات أو حصر لها . وهذه الاختلافات تأتى على سبعة أوجه هي :

أ- ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته نحو :  ( ماهُنَّ ، ما هُنْ ) .

ب- ما لا تتغير صورته ويتغير معناه بالإعراب نحو : (بَاعِدْ ، بَاعَدَ ، بَعِّدْ) .

ج- ما يتغير معناه باختلاف حروفه نحو : (ننشزها ، ننشرها ) .

د- ما تتغير صورته مع عدم تغير معناه نحو : (كالعهن ، كالصوف ) .

ه- ما تتغير صورته ومعناه نحو : (طلح ، طلع ) .

و- ما يتغير موقعه ( الرتبة ) نحو :

                (وجاءت سكرة الموت بالحق ، وجاءت سكرة الحق بالموت ) .

ز- التغيير اللفظي بالزيادة والنقصان نحو :

                ( أما الغلام فكان أبواه مؤمنين ، أما الغلام فكان كافرا ) (16) .

القول الخامس :  ويرى أصحابه أن اختلاف الأحرف السبعة هو اختلاف في المعاني، ويقصدون بذلك معاني الأحكام في كتاب الله مثل :

( الأمر ، النهى ، الوعد ، الوعيد ، القصص ، المجادلة ، الأمثال ) (17)

        فالقرطبي كما هو واضح من خلال العرض السابق ، قد اكتفي برصد الأقوال المختلفة حول مدلول الأحرف السبعة ، وقد أكثر خلال عرضه لها من عرض ردود العلماء ومداخلاتهم لتلك الأقوال ، واستشهد بآراء أئمته من الفقهاء والمفسرين نحو :

( البستي ، والطحاوي ،و ابن عبد البر ،و أبو عبيد ، وابن الطيب ، وابن عطية ، والطبري).

فقد التزم الإمام  بعرض الردود والنقد ، وتوثيق النصوص التي يوردها بردها إلى أصحابها ، ولم نستطع الوقوف له على منهج واضح أو قول بين السطور يحدد مفهوم الأحرف السبعة  عنده .

غير أننا نستطيع أن نستنبط رأى الرجل من خلال ما أورده من نقد وردود على النحو التالي :

حين عرض لقول من ذهب إلى أن الأحرف السبعة هي سبع لغات ، وأن القرآن نزل بلغة الكعبين ، كعب قريش وكعب خزاعة أورد قول ابن الطيب :

" ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره منزل بلغة قريش فقط ، إذ فيه كلمات وحروف هي خلاف لغة قريش . وقد قال تعالى : ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا ) ولم يقل قرشيا . " (18) .

        وإيراد القرطبي لهذا الرد دليل على رفضه القاطع للقول بأن الأحرف السبعة تنحصر في لهجة قريش وما حولها من اللهجات .

        وحينما عرض قول من حصر الأحرف السبعة في لغات مضر ، أورد عليهم : أنه " في مضر شواذ لا يجوز أن يقرأ بها القرآن مثل : كشكشة قيس نحو : ( جعل ربش تحتش سريا ) . وتمتمة تميم نحو : ( إله النات ) وهذه لغات يرغب عن القرآن بها ، ولا يحفظ عن السلف فيها شئ " (19) .

        وحينما عرض لقول من قال إن الأحرف السبعة يراد بها  معاني كتاب الله ، نجده يرفض هذا الرأي محتجا بقول ابن عطية : " وهذا ضعيف ، لأن هذا لا يسمى أحرفا ، والإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حلال ولا في تغيير شئ من المعاني " (20) .

        أما الرأي الذي أرجح أن يكون عليه الإمام  القرطبي فهو رأى من ذهب إلى أن الاختلاف في الأحرف السبعة هو اختلاف في الألفاظ من غير أن يحصر ذلك الاختلاف في لغة أو لهجة بعينها ، ودليلنا على ذلك أنه لم يورد على هذا الرأي أي رد أو مداخلة وفي هذا إيذان منه بقبوله وارتضائه .

        فالقرطبي إذن يرى أن الاختلاف الحاصل في القراءات إنما يرجع إلى سبعة أوجه لفظية ، ما بين تغيير في حركة حرف ، أو تغيير في الحروف ، أو تغيير في الصور (الأبنية) أو تغيير في الموقع التركيبي . وهذا الذي ذهب إليه القرطبي يعد أصح الآراء وأرجحها ، حيث ذهب إليه كثير من العلماء (21) .

2/2- موقف القرطبي من الصلاة بالقراءة الشاذة :

 اختلف العلماء في قبول القراءات ، وتوجيهها والترجيح بينها ، والقراءة بها في الصلاة مذاهب شتى :

فمن حيث قبولها والصلاة بها قسموا القراءة إلى ثلاثة أقسام :

أ- ما يقبل ويقرأ به في الصلاة : وهى القراءة المتواترة عن الثقات الموافقة لخط المصحف، المقيسة على وجه من وجوه العربية .

ب-ما يقبل ولا يقرأ به في الصلاة : وهى القراءة التي صحت عن الآحاد الثقات ، وصح وجهها في العربية ، وخالف لفظها رسم المصحف .

ج- مالا يقبل ولا يقرأ به : وهو المنقول عن غير الثقات ، المخالف لخط المصحف الذي لا وجه له في العربية نحو : ( فاليوم ننحيك ببدنك لتكون لمن خلفك )

        وفي مقدمته للتفسير عرض القرطبي فصلا مختصرا ، تحدث فيه حول أدلة نفي كون القراءات السبع المشهورة هي المقصودة بالأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن ، كما عرض عرضا موجزا لموقف الأئمة والعلماء من الصلاة بالقراءة الشاذة .

        والذي نستطيع أن نخلص إليه من خلال عرض القرطبي لآراء العلماء ، هو أن الإمام القرطبي - كفقيه مالكي - يرى أنه لا تجوز القراءة الشاذة في الصلاة لعدم إجماع الناس عليها ، ومن خلال مذهبه المالكي يمكننا القول إن هذا المنع ربما كان قاصرا على صلاة الجماعة ، فلا يسرى على صلاة المنفرد بدليل أن المالكية لم يحكموا ببطلان المنفرد في صلاته بالقراءة الشاذة وإنما نصوا على أن المأموم ينبغي عليه أن يقطع صلاته خلف الإمام  الذي يقرأ بالقراءة الشاذة (22) .

2/3- معايير قبول القراءة عند القرطبي :

        لم يوقفنا القرطبي مطلقا على رأيه المباشر في القراءات القرآنية ، والمعايير التي على أساسها يقبل القراءة ، فيصنفها إلى متواترة  أو شاذة أو مرفوضة ، بل اكتفي الرجل بعرض القراءات القرآنية أثناء تفسيره لآيات الأحكام وعنى بتوجيهها ، وعرض وجهها من النحو العربي  ، وتدعيمها بما يقويها من التصريف والشواهد الشعرية .

        ومن خلال عينة البحث ، ومعايشتنا للنصوص التي استشهد خلالها القرطبي بأوجه القراءات المختلفة وذلك في سورتي الفاتحة والبقرة استطعنا أن نقف على التصورات الآتية:

أولا : حينما يعرض القرطبي للقراءة المتواترة المشهورة ، يسمها بأنها قراءة الجمهور، ويصفها بالحسن والجودة والأفصح والأبين ، ويظهر وجهها من العربية من خلال التوجيه النحوي لها ، ويعرض لما يتعلق بها من المعاني المعجمية أو شواهد العربية .

        كما يثبت الإمام في كثير من الأحيان قرآنية تلك القراءة فيحدد موافقتها للفظ المصحف ، وهذا يعنى أن القراءة القرآنية إذا كانت متواترة ، ولها وجه من العربية ، وموافقة للفظ المصاحف ، فإنها قراءة مقبولة وأولى في الاستعمال وأفصح في الوجه عند القرطبي .

ومن النماذج التي تؤكد صدق استنباطنا للحكم السابق ما يلي :

أ- في تفسيره لآية ( الحمد لله رب العالمين ) عرض القرطبي لأوجه القراءات على النحو التالي :

- أجمع القراء السبعة والجمهور على رفع الدال من ( الحمدُ ) .

- روى سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج ( الحمدَ ) بنصب الدال .

 فهو كما نرى يحدد في توجيهه للقراءات قراءة الجماعة ، وكلمة الجماعة والجمهور عنده تنسحب على مفهوم التواتر ، أي القراءة المتواترة .

        ثم يسعى في ذلك لإثبات الوجه النحوي ( من اللغة ) الذي توافقه القراءة فيستدل على موافقتها لأوجه العربية بقول سيبويه : " إذا قال الرجل : ( الحمدُ لله ) بالضم ففيه من المعنى مثل ما في قولك ( حمدت الله حمدا ) ، إلا أن الذي يرفع يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله ... " (23) .

ب- وفي تفسيره لقوله تعالى ( وكلا منها رغدا ) ، يعرض القرطبي لأوجه القراءات على النحو التالي :

- قراءة الجمهور ( رغَدَا ) بفتح الغين .

- قرأ ابن وثاب والنخعي ( رغْدَا ) بتسكين الغين .

وبعد عرضه لأوجه القراءات ، يسعى القرطبي بعد ذلك إلى إثبات صحة قراءة الجمهور ويقويها بعرضه للمعنى المعجمي للكلمة ، فيذكر أن الرَّغَدَ معناه : العيش الهني ، ويستشهد بقول الشاعر :

                بينما المرء تراه ناعما           يأمن الأحداق في عيش رَغَد (24)

        فالقرطبي حين يعرض للقراءة المتواترة المجمع عليها ، يسعى لإثبات تواترها والإجماع عليها ، ويعمل على بيان وجهها النحوي بعرض آراء النحاة فيها ، كما يعمل على تقويتها بعرض مدلولها المعجمي وما يؤكدها من الشواهد العربية .

ثانيا : حين يعرض القرطبي للقراءة المخالفة لقراءة الجمهور ، نجد أنه يسعى إلى إثبات قرآنية الآية فيثبت موافقتها لأحد المصاحف كما يسعى لعرض ما لها من موافقة لأوجه العربية ،وهو بهذا يثبت قبوله للقراءة وعدم رفضه لها ، ويعتد بها في الاستدلال التفسيري أو الفقهي ،ونجده كثيرا ما يعمد إلى تقويتها بردها إلى قراءة الجمهور إذا ما كان المعنى فيهما واحدا متوافقا ، أو يدعمها ببيان موافقتها للغة من اللغات المستعملة .

        ولا نجد الإمام القرطبي يلجأ إلى وصف القراءة بالشذوذ أو الضعف وإن خالفت قراءة الجماعة مادامت قرآنية ولها وجه في العربية ، وإن وصفها بالشذوذ فإنه لا ينسب الحكم في هذا إلى نفسه وإنما ينسبه إلى من حكم على شذوذها من العلماء .

ومن النماذج التي تؤكد صدق استنباطنا السابق ما يلي :

أ- حين عرض القرطبي لتفسير قوله تعالى : ( صم بكم عمى ) ، ذكر القرطبي أوجه القراءة على النحو التالي :

- القراءة المتواترة ( الجمهور ) بالرفع ( صمٌ بكمٌ عمىٌ ) .

- قرأ ابن مسعود وحفصة ( صُمَّا بُكْمَا عُميَا ) .

وقد وجه القرطبي قراءة الآحاد توجيها يقويها ، فذكر أن وجه النصب هنا يحمل على الذم فحدد بذلك وجه القراءة من العربية ، ثم استدل على صحة هذه القراءة بقوله تعالى : (وامرأته حمالةَ الحطب ) كما دعم القراءة بعرض شواهد النحو العربي التي تقويها نحو :

        سقوني الخمر ثم تكنفوني               عداةَ الله من كذب وزور (25)

حيث نصبت كلمة ( عداة ) على الذم ، وفيها دليل صحة قراءة الآحاد .

ب- وفي تفسيره لقوله تعالى :( ولا تقربا هذه الشجرة ) ، عرض القرطبي للقراءات على النحو التالي :

- قراءة الجمهور ( هذه ) بالهاء

- روى ابن محيصن ( هذى ) بالياء بدلا من الهاء .

وقد وجه القرطبي هذه القراءة بما يدعمها ويقويها من أوجه التصريف ، حيث ذكر أن (الهاء) في (هذه) بدل من (ياء) بدليل انكسار ما قبلها وهو الأصل ، فليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة سوى ( هذه ) (26)

        فالقرطبي في هذا النموذج يقبل قراءة الآحاد ، ويؤكد صحتها بعرض تصريف الكلمة والرجوع إلى بنيتها الأصلية والتعريف بما وقع فيها من تحولات الإبدال الصوتي .

ج- وحين يفسر القرطبي آية ( الحمد لله ) ،يعرض لقراءة غير الجمهور ، وهى عن ( سفيان بن عيينة ورؤبة ) حيث يرويان ( الحمدَ ) بالنصب . وقد كانت أسس قبول القراءة عنده ما يلي :

- الاستدلال النحوي : حيث ذكر أن سيبويه يوجه النصب على المدح ، فمن نصب يخبر أن الحمد منه وحده لله .

- الاستدلال بالمعنى الدلالي :   لأن وجه النصب يحمل على معنى : ( قولوا الحمدَ لله ) ؛ لأن الله هنا يحمد نفسه ويعلم ذلك عباده .

- الاستدلال بالاستعمال العربي : لأن النصب هنا من باب الحذف لما يدل  ظاهر الكلام عليه، وعليه يقول الشاعر:

              فقال السائلون لمن حفرتم          فقال القائلون لهم : وزير

والمعنى المحفور له وزير ، فحذف الكلام لدلالة الظاهر عليه وهو كثير (27) .

        نخلص من هذه النماذج إلى أن معيار قبول القرطبي لقراءة الآحاد غير المتواترة قائم على أسس يراعى فيها قرآنية القراءة ، ومطابقتها لوجه من وجوه النحو العربي ، وللدلالة على قبولها كان القرطبي يضرب الذكر صفحا عن توجيه قراءة الجمهور في كثير من الأحيان ، حيث يعنى بتقوية قراءة الآحاد وتوجيهها والسمو بها في كثير من المواطن عن سمة الرد والشذوذ وذلك من خلال :

أ- الاستدلال بالوجه النحوي من خلال آراء النحاة .

ب- الاستدلال بالتصريف والوقوف على أصل بنية الكلمات .

جـ- الاستدلال بالمعنيين المعجمي والدلالي .

د- الاستدلال بالاستعمال العربي المتمثل في الشواهد الشعرية واللغات .

ثالثا : حينما يتناول القرطبي القراءة غير المتواترة ، وهى بالتحديد التي لا وجه لها في العربية ، ولا توافق من قريب أو بعيد لفظ المصحف ولو احتمالا ، فإنه يحكم بضعفها ويرغب عنها ويصفها بلفظ ( وهى مرغوب عنها ) .

وقد كان للقرطبي معايير ثابتة للرفض نتعرف عليها من خلال النماذج التالية :

أ- حين يفسر القرطبي قوله تعالى : ( إيَّاكَ نعبد ) ، يعرض من جملة وجوه القراءات لقراءة (عمرو بن فائد ) :  ( إِيَاكَ ) بتخفيف الياء .

وقد وجه القرطبي سبب التخفيف فذكر ( أن القارئ كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها ) ،وحكم الإمام  على القراءة بأنها ( مرغوب عنها ) وقد بنى معيار الرفض هنا على أساس مخالفة القراءة للمعنى المعجمي المنصوص عليه في قراءة الجمهور ،فالتخفيف يصير المعنى إلى: شَمْسُكَ وضَوْءُك نعبد حيث يقال :(الإِيَاهُ) للشمس والهالة للقمر .

واستدل على صحة الرفض بقول الشاعر :

        سقته إياةُ الشمس إلا لثاته               أسف فلم تكدم عليه بإثمد (28)

ب- وفي تفسيره لقوله تعالى : ( وما أنزل على المَلَكَين ) ، يعرض القرطبي لقراءة ابن عباس : ( الَملِكَين )

        فقد ذكر الإمام هنا أن هذه القراءة ضعيفة ، واستشهد على ذلك بقول ابن العربي الذي حكم بتضعيفها لاقتضائها أن يكون الملكين هما داود وسليمان ، وقيل في معناها : أن الملكين هما ( علجان كانا ببابل ملكين ) (29) .

        فرد القراءة وتضعيفها هنا ليس راجعا إلى مخالفة القراءة لوجه نحوي أو معنى معجمي ، وإنما يرجع إلى مخالفة القراءة لمقتضيات الدلالة التفسيرية التي عليها قراءة الجمهور ، لأن القرطبي يرى أن أولى ما يحمل عليه تأويل الآية أن اليهود قالوا :

( إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر ، فنفي الله عنهم ذلك وفي الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين شئ ، ولكن الشياطين كفروا ..) (30)

ج- وفي عرضه لقوله تعالى : ( وعلى الذين يطيقونه ) ، يرفض القرطبي قراءة مجاهد : (يُطَيِّقُونَه ) فذكر أنها قراءة باطلة ومحالة ، لأن الفعل مأخوذ من الطوق ، والواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال ، واستدل على صحة رفضه وبطلان القراءة بما أنشده الأنباري :

        فقيل تحمل فوق طوقك إنها             مطبعة من يأتها لا يضيرها

فأظهر الواو في الطوق وهذا دليل على أن من يضع الياء مكانها مفارق للصواب .فالقر�

المصدر: بحثي
  • Currently 55/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
18 تصويتات / 5257 مشاهدة
نشرت فى 23 أكتوبر 2010 بواسطة hamadsagier

ساحة النقاش

marooge

شكرا لك على هذا البحث القيم ولكن كيف لي ان اجده كاملاً . افيدونا يرحمكم الله .

أ.د/ أحمد محمد الصغير على

hamadsagier
أ.د/أحمد محمد الصغير على -- أستاذ النحو والصرف والعروض -- كلية دار العلوم -- جامعة المنيا. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

60,389