دمعت العيون, وحبست الانفاس, وكان العجب والاستغراب هو لسان حال كل من رآها، بل إن بعضهم تساءل هل هي مثلنا نحن باقي البشر .
كيف استطاعت فعل ذلك, وأي قلب تحمله بين جنباتها أعانها على تحمل ذلك الموقف ونحن مثلها آباء وأمهات ولا نظن أننا سنقدر على ما قدرت عليه, ما الذي دفعها لتقدم ولدها بنفسها للموت. بكل هدوء وثبات عجز اللسان والبيان عن التعبير عنه.
هل تريدون إجابة لهذه الأسئلة ..
كونوا على ثقة أن هذه الأم العظيمة التي أذهلت العالم لازالت تذكر ولدها جنينا يتحرك في أحشائها، يتنفسان نفس الهواء معا، تغذيه من دمها، تدفئه في رحمها، كانت رحلة حمل طويلة توثقت خلالها علاقتها به . وازدادت شوقا أن تراه حقيقة ماثلة أمامها، تمسكه، تقبله، وتحنو عليه . وما أن حملته بين ذراعها حتى تفجرت مكنونات أمومتها وبدأت تشعر أنها لا تستطيع البعد عنه.
كانت تخاف عليه من نسمات الهواء أن تؤذيه أصبح لها في هذه الحياة الأمل والغد والمستقبل . بدأت في تعليمه وأخذت تحلم كيف سيكون مستقبله، وكانت تتمنى في داخلها أن يكون مستقبله مثل نظرائه من الشباب.
ولكن.. هذا محال لأنها لاتعيش حياة عادية . فمن يعيش الظلم كل يوم وكل لحظة, لن يكون إنسانا عاديا ..ومن ترى الألم في عيون أبنائها ليل نهار لن تكون أما عادية.
ولن تربي أولادها تربية عادية, أولاد أرض الرباط رضعوا حليب القهر والبغض لبني صهيون، وفطموا على صوت الرصاص ،هم هناك يستيقظون ولا ينتظرون المساء .. يخرج الأب إلى عمله والأولاد إلى مدارسهم وهم لا يأملون العودة وربما ودعوا بعضهم فقد لا يتجدد اللقاء. .
خنساء فلسطين لسان حالها يقول : ما عادت مشاعرالعجز تقتلنا وما عادت الدموع تعني لنا شيئا. لقد تجاوزنا مرحلة الضغف والبكاء,و لم نعد نؤمن بالكلام فمن يسير على الدماء. ويتكئ على الجراح. ويبتلع الآهات تلو الآهات. لا يستطيع إلا أن ينظر في اتجاه واحد.
وهو استرداد الارض المغتصبة، فبدأنا نعلم أولادنا فن الموت كما تعلمون أولادكم فن الحياة, نعلمهم كيف يصنعون موتهم ويخططون له ويذهبون إليه. وكيف يحبونه . ونعلم أنفسنا كيف نحبه لهم فأولادنا اما أن يعيشوا شرفاء مكرمون .. أو ليموتوا شهداء سعداء, وإيماننا عميق أن الأعمار أقدار مقدرة لا تنقصها شدة ولا يزيدها الرخاء..
وبطلتنا كانت تعلم أن ولدها ليس اقل من غيره شجاعة ورفضا للذل والهوان . ورفضت أن ترضى له البقاء في أحضانها وداع الجهاد ينادي والأرض تستغيث، آثرت أن تختار أن تكون أما لشهيد. لا أن يفرض عليها ذلك، آثرت آن تسير مع ولدها منذ بداية الطريق تسانده.
تشجعه .. تدعو له .. تثبته .. ثم تزفه .. كان من السهل عليها أن تقهر إحساس الأمومة في داخلها؟ لا وألف لا ..كان من السهل عليها أن تودع ابنها وهو في طريقه للموت ؟ لا وألف لا، كان من السهل أن تعد له وجبة يأكلها ؟.. أو تراه يسير آخر خطوة يسيرها ؟ أو تقبله وتحضنه وتلقي آخر نظرة إلى عينيه الحبيبتين البراقتين وهي تعلم أنها لن تراه بعد الآن إلا جسدا بلا روح ؟ لا وألف مليون لا...
وكيف تظنونها قضيت آخر ليلة معه ؟.. هل كانت سهلة ؟ . طبعا لا .
وكيف كان قلبها يخفق وهي تراقب الساعات والثواني وتدعو الله أن يثبت ولدها ويسدد رميه, هل كان الانتظار سهلا ؟ أم أنه كاد أن يوقف قلبها خوفا؟ ولكن أي خوف هل خوف الموت؟ لا بل كانت تدعو ألا يعود إليها إلا شهيدا, وخوفها كان أن يخفق, أو يقبض عليه الأعداء.
لقد علمت أن هذا الطريق هو الذي سيضمن لولدها الخلود فرحبت به ..وإن كان هذا هو ثمن طريق الجنة فلم لا وأي أمنية هي أغلى من الجنان .. هذه الأم العظيمة أرادت لولدها أن يعلم أنها معه تدعو له راضية عنه .. وليس له أن يكتب في وصيته طلب مسامحتها له أو الرضا عنه .. ليس له أن يضطر أن يعمل في الخفاء عنها .. بل له أن يخبرها وسوف تكون أول من يساعده؛ بل إن هذا الأمر سيوفر على ولدها مشاعر ألم قد يشعر بها إن ظن أن ما يفعله قد يؤلمها أو يسبب الحزن لها لا .
لن تجعله ينظر للوراء ولو لحظة.. فأمه معه وتدعو له وهل هناك أعظم من دعاء الأم لولدها. أرايتم لقد تميز ولدها إنه ذهب في مهمته وهو يحمل سلاحه- الذي أصرت عليه أن يجمع ثمنه من ماله الخاص. وعتاده وإيمانه وقلب أمه الراضي عنه .ودعته شهيدا إلى جنان الله. والحمد لله أكرمها الله أن أعاده لها شهيدا وقبلت حبيبها ونور عينها الذي دعت الله أن يوفقه ويسدد رميه .
هي أنجبت ولدها مرتين ,مرة في الصغر ومرة يوم استشهاده حيث ضمنت له الحياة الكريمةالتي تتمناها كل أم لولدها .
فتقبل الله منك … وجمعك وابنك الحبيب في الفردوس الأعلى إن شاء الله ..
ساحة النقاش