ثانيا:
أدلة القائلين بجواز التفجيرات العشوائية في ديار الإسلام و الرد عليها.
يستند المؤيدون لهذه التفجيرات على أدلة واقعية وشرعية يسوقونها للتدليل على جوازها نذكرها أولا مختصرة قبل أن نناقشها بالتفصيل، وبيان ذلك كالآتي:
أ- الدليل الواقعي:
يستند بعض المؤيدين للتفجيرات العشوائية توقع ضحايا من عوام المسلمين وغيرهم على أنه لا حرج في ذلك، لأن هؤلاء الضحايا لا عصمة لدمائهم لأن الشعوب الإسلامية قد ارتدت عن الإسلام ولم يبق في البلاد الإسلامية اليوم سوى مرتد أو ذمي ناقض العهد أو ملحد، و من ثم فلا حرج من استهدافهم بالقتل بواسطة تلك التفجيرات العشوائية سواء قصدنا قتلهم أم لا.
ب- الأدلة الشرعية:
يستند المؤيدون للتفجيرات العشوائية على بعض الأدلة من السيرة والسنة النبوية – والتي يستدلون بها في غير موضعها- لنصرة رأيهم، وذلك كالآتي:
1- الاحتجاج بتبييت الرسول صلى الله عليه وسلم للمشركين.
يستدلون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيت المشركين – أي أنه أغار عليهم ليلاً – وأغار على بني المصطلق وهم غارون كما أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روى عن الصعب بن جثامة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالأبواء –أو بودان- و سئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم؟ قال:"هم منهم" ا.هـ. قالوا: فإذا أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الإغارة دون تنبيه حتى لو أدى ذلك لقتل النساء والأطفال وهم لا يجوز قتلهم فيجوز أيضًا القيام بالتفجيرات دون تنبيه وعلى حين غرة حتى لو أدى إلى قتل من لا يجوز قتله كالنساء وأطفال المشركين ضمنا للوصول للهدف المراد قتله.
2- الاحتجاج بالضرب بالمنجنيق
ويستدلون بجواز الضرب بالمنجنيق أثناء حصار الحصون ووقت اشتعال الحروب، وفي هذا الصدد يذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف عند حصاره لهم، والمنجنيق آلة كانت تستخدم في الحروب قديمًا لترمى بها الحجارة الكبار على العدو، واستغنى عنها اليوم بالمدافع الحديثة، ولذلك فلا فرق بين استخدام المتفجرات اليوم والمنجنيق قديمًا فكلاهما يستخدم كمهلك عام لا يميز بين ضحاياه.
3- الاحتجاج بأقوال بعض العلماء في جواز قتل المسلم المتترس به.
يحتجون بأقوال العلماء في جواز رمي الترس المسلم. والمقصود بالترس هو اتخاذ المسلم أو من لا يجوز قصده بالقتل كالنساء والأطفال كدرع بشري يحتمي به الكافر من وصول المسلمين إليه بالقتل أثناء الحروب.
ويقولون: إنه إذا جاز قتل بعض المسملين المتترس بهم لمصلحة الجهاد وللوصول لكافر يستحق القتل فلا حرج علينا في استهدافنا من يستحق القتل بواسطة المتفجرات حتى لو أدى ذلك إلى وقوع قتلى من معصومى الدم الموجودين معه كحراس أو من توافق وجودهم أثناء الانفجار لأنهم في هذه الحالة أشبهوا الترس الذى لا يمكن الخلوص إلى الكافر إلا بقتله.
تلك هي أهم مستنداتهم ونناقشها واحدة تلو الآخرى كالآتي:
أولا: بيان خطأ الدليل الواقعي الذي استندوا إليه:
لا شك في خطأ وخطورة الحكم على الشعوب الإسلامية عن بكرة أبيها بالردة، ولا شك في أن هذا التوصيف الجائر يفتقر إلى دليل صحيح من الواقع أو من الشرع وبيان ذلك بشكل مختصر كالآتي:
1- إن القول بوقوع المسلمين جميعاً في ردة جماعية قول ليس عليه دليل و يكذبه الواقع حيث نرى أكثر المسلمين يقومون بأداء واجباتهم الشرعية و لا يتلبسون بأي من المكفرات المخرجة من الملة عن عمد أو علم أو رضا، وما من قطر من الأقطار الإسلامية إلا ونجد الحركات الإسلامية الملتزمة بعقيدة أهل السنة و الجماعة، ووجود مثل هذه الحركات وتلك الجماعات المؤمنة ينقض هذا الادعاء من أساسه.
2- أن الاعتماد على أن المسلمين تفشى فيهم الكثير من الذنوب والمعاصي كالسرقة، والزنا، وشرب الخمر... إلخ. للقول بردتهم عن الإسلام قول لا يصح. لأن مذهب أهل السنة و الجماعة يقضي بأن فعل هذه المعاصي لا يخرج من ملة الإسلام، وأن هذه المخالفات تعد من نواقص الإيمان لا من نواقضه، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" (النساء: 48) ولقوله:"وعصى آدم ربه فغوى" (طه: 121).
وأيضًا لما جاء في حديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور: "أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على ألا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا.... إلخ فقال لهم صلى الله عليه وسلم فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئًا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارة، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه".
3- إنه لا يصح القول بتكفير الأمة لوجود بعض المسلمين –أيًا كان عددهم– يقعون في بعض الأعمال الشركية كالذبح أو النذر أو الدعاء لغير الله؛ لأن أغلب هؤلاء يقعون في تلك من جراء الجهل الذي يعد عذرا يمنع من لحوق حكم الكفر بهم وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" نحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأحد أن يدعو أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها كما أنه لم يشرع لأحد السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن لغلبة الجهل ولقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه".أ.هـ
4- لا يصح تكفير الأمة الإسلامية عن بكرة أبيها اعتمادًا على وقوع أبناءها في الموالاة المحرمة لغير المسلمين لأن الواقع يكذب ذلك، فهناك العديد من أبناء هذه الأمة يلتزمون بأحكام الموالاة التي يقع فيها بعض المسلمين لا تدخل في عداد الموالاة الباطلة الموجبة للتكفير وإن أمكن اعتبارها في عداد الموالاة الخاطئة الموجبة للتأثيم وهي من جنس الموالاة الممنوعة التي وقع فيها الصحابي البدري حاطب بن أبي بلتعة حينما راسل مشركي قريش ليخبرهم باستعداد النبي صلى الله عليه وسلم لغزوهم قبيل فتح مكة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعد أن قال: دعني أضرب عنقه يارسول الله: "دعه ياعمر إنه من أهل بدر ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال اذهبوا فافعلوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم". رواه مسلم.
وهكذا لا نجد مستندًا شرعيًا يستند عليه هذا التوصيف الجائر في حق أمة الإسلام بأسرها، وفي حق أكثر من مليار مسلم بطول العالم وعرضه.
ثانياً: بيان خطأ الاستدلالات الشرعية التي احتج بها المؤيدون لهذه التفجيرات العشوائية:
قبل أن نناقش الاستدلالات الشرعية التي استند إليها المؤيدون للتفجيرات العشوائية نود التنبيه إلى أن المشكلة في هذه الاستدلالات تكمن في الخطأ في تنزيلها على الواقع المعاش اليوم وهو ما سيظهر جليا عبر المناقشة الآتية:
أ- بيان خطأ استدلالهم بجواز التبييت لإباحة تلك التفجيرات:
أخطأ مؤيدو هذه التفجيرات حينما استدلوا بتبييت الرسول صلى الله عليه وسلم للمشركين على جواز تبييت المسلمين وغيرهم بديار الإسلام وهو ما سيتضح بجلاء في النقاط الآتية:
1- المتأمل في حديث الصعب بن جثامة أو في إغارة النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق سيدرك أن هذه الأدلة في غير موضعها وبيان ذلك.
إن حديث الصعب بن جثامة يتحدث عن تبييت أهل الدار من المشركين، فمن أراد الإستدلال به على جواز تبييت المسلمين أو تبييت أناس يختلط فيهم المؤمنون مع غير المؤمنين فقد أخطأ خطأ جسيما.
وكذلك كان حال بني المصطلق الذين أغار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا قومًا مشركين متميزين بدارهم عن غيرهم، فكيف يستدل بذلك على جواز التفجيرات ببلاد الإسلام حيث أغلبية السكان من المسلمين وغير المسلمين أقلية بينهم.
2- أن جل العلماء أوضحوا أن تبييت المشركين جائز و لو أدى ذلك إلى سقوط بعض النساء والأطفال المشركين قتلى، لكنهم اشترطوا لجواز ذلك ألا تقصد النساء والأطفال بالقتل. وفي هذ يذكر أحمد أنه لا يجوز تعمد قتل نساء وأطفال المشركين، ولا ندري ماذا كان سيقول الإمام أحمد لمن يقوم بهذه التفجيرات في بلاد الأغلبية الساحقة من سكانها من المسلمين.
ويؤكد الإمام الشافعي ما ذهب إليه الإمام أحمد في عدم جواز قصد قتل النساء والأطفال في التبييت فيقول: "فإن قال قائل: كيف أجزب الرمي بالمنجنيق والنار على جماعة المشركين فيهم الولدان والنساء، وهم منهي عن قتلهم؟.
قيل: أجزنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم شن الغارة على بني المصطلق غارين، وأمر بالبيات والتحريق، والعلم يحيط أن فيهم الولدان والنساء، وذلك أن الدار دار شرك غير ممنوعة، وإنما نهى أن تقصد النساء والولدان بالقتل إذا كان قاتلهم يعرفهم بأعيانهم" ا.هـ.
وتأمل في قول الشافعي: "إن الدار دار شرك غير ممنوعة" وقارن هذا بتلك التفجيرات التي تحدث في دار ليست دار شرك، وقارن قوله:"إنما نهى أن تقصد النساء والولدان بالقتل إذا كان قاتلهم يعرفهم بأعيانهم" بما يحدث في هذه التفجيرات حيث يكون القائم بها يعلم وجود مسلمين بأعيانهم في الموقع المستهدف و قد يرى بعينه بعض النساء و الأطفال من غير المسلمين موجودين به ثم يقدم على إتمام تلك التفجيرات.
3- أنه لا يجوز في حال اختلاط المسلم بغيره من الكفار أن يقصد المسلم بالقتل بالتبييت أو غيره. قال تعالى: "ولولا رجال مؤمنون و نساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذابنا الذين الذين كفروا منهم عذابا أليما" (الفتح: 25).
يقول القرطبى: "و هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن؛ إذا لا يمكن إذاية الكافر إلا بإذاية المؤمن؛ قال أبوزيد: قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم، حصرهم أهل الإسلام، وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم أيحرق هذا الحصن؟ قال: سمعت مالكاً و سئل عن قوم من المشركين في مراكبهم؟ فقال مالك: لا أرى ذلك لقوله تعالى لأهل مكة: (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليما)، وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه، وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة، فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا، وإذا أبيح الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيه تباعة" ا.هـ.
والسؤال الآن: هل يجوز تبييت المسلمين؟ وهل يجوز قتل النساء و الأطفال من غير المسلمين عن قصد وبعلم سابق بوجودهم في مكان التفجير بدعوى جواز التبييت؟.
الإجابة لا تحتاج إلى أدنى تفكير، وهي تكشف بالضرورة أن خطأ المؤيدين لهذه التفجيرات يكمن في التنزيل الخاطئ لأحكام التبييت على واقعنا اليوم.
ب- بيان خطأ الاستدلال بجواز الضرب بالمنجنيق:
بالنظر للاستدلال بجواز رمي المنجنيق لإسباغ الشرعية على التفجيرات العشوائية نجد أنه استدلال جانبه الصواب وخاصمه السداد وبيان ذلك كالآتي:
أولا: لايصح القول بجواز التفجيرات العشوائية استنادًا على جواز الرمي بالمنجنيق لأنه تنزيل لحكم شرعي صحيح على واقع مختلف عن الواقع الذي يلائمه وبيان ذلك كالآتي:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نصب المنجنيق على أهل الطائف كان ذلك في حرب قائمة بينه وبينهم، وكانو كفارًا متميزين عن غيرهم من المسلمين وهذا يعني أن استخدام المنجنيق أو ما يقاس عليه مشروط بوجود حالة حرب وهناك تميز فيها بين من يستحق القتل عن غيره وإلا صار لها حكم آخر، فأين كل هذا في التفجيرات العشوائية؟
فالتفجيرات العشوائية التي تتم اليوم لا تستهدف صفًا كافرًا متميزًا عن غيره، ولا تستهدف من هو مباح الدم فقط، ولكنها في الحقيقة تستهدف ضحايا غير معروفين بأعيانهم لكنهم على كل الأحوال سيكونون من مسلمي هذه البلاد أو على أحسن الفروض سيكونون كثرة مسلمة مختلطة بآخرين ممن قد لا يجوز أيضًا استهدافهم لعهد، أو لذمة أو لكونهم من النساء والأطفال أو الرهبان إلى غير ذلك من الأصناف الممنوع استهدافها بالقتل، وكل هذا يبين خطأ تنزيل هذا الحكم على واقع شعوبنا المسلمة اليوم.
ج- بيان خطأ استدلالهم بجواز رمي المسلم المتترس به لإباحة التفجيرات العشوائية:
لا يصح القول بجواز التفجيرات العشوائية التي تستهدف شخصًا معينًا حتى لو أدى ذلك إلى قتل أبرياء معصومي الدم استنادا إلى القول بجواز رمي الترس المسلم، ويخطئ الذين يستدلون بذلك من وجهين:
الأولى: الخطأ في تنزيل أحكام الترس على هذه الحالة حيث لا يوجد في الحقيقة ترس ولا متترس به.
الثانية: إهمال التقيد بالضوابط التي وضعها العلماء لإجازة رمي المسلم بما يؤدي لقتله للوصول للكافر الذي اتخذ المسلم درعا بشريا يتترس ويحتمي به من القتل وبيان ذلك كالآتي:
1- قتل الترس المسلم استثناء من الأصل القاضي بحرمة قتل المسلم فلا يصح التوسع في القياس عليه:
نهت الشريعة الإسلامية نهيًا شديدًا عن قتل المسلم البرئ وجعلت الوعيد على الإقدام على ذلك وعيدًا مخيفا فقد قال تعالى: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خلدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيم" (النساء: 93).
وقال صلى الله عليه وسلم: "قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا" و قال: "يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الآخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفاه فيقول المقتول لله سبحانه وتعالى رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل: تعست ويذهب به إلى النار" (أخرجه النسائي).
وقال صلى الله عليه وسلم: "تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق....". رواه البخاري.
وهذا النهي يمثل أصًلا ثابتًا لا يصح هدمه أو مخالفته دون دليل شرعي والسؤال هنا الذي يتوجه هنا: بأى دليل شرعي يباح قتل المسلم المتترس به؟ لن يجد أصحاب التفجيرات العشوائية دليًلا من القرآن أو السنة يدل على جواز ذلك بل إن القرآن الكريم أشار إلى عدم جواز ذلك في قوله تعالى: "ولولا رجال مؤمنون و نساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذابنا الذين الذين كفروا منهم عذابا أليما" (الفتح: 25).
ولقد استدل الإمام القرطبي على هذا الأمر فقال:"هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن إذا لا يمكن أذاية الكافر إلا إذاية المؤمن.
قال أبو زيد: قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن قومًا من المشركين في حصن من حصونهم، حصرهم أهل الإسلام، وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم أيحرق هذا الحصن؟ قال: سمعت مالكاً و سئل عن قوم من المشركين في مراكبهم؟ فقال مالك: لا أرى ذلك لقوله تعالى لأهل مكة: "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليما"، وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه، وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة، فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا.ا.هـ.
وهذا ما دفع الإمام أبو بكر بن العربي إلى أن ينتصر لقول الإمام مالك: "هذا ظاهر فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز لا سيما بروح المسلم فلا قول إلا ما قاله مالك والله أعلم" ا.هـ.
وهذا يوضح أن إباحة استهداف الترس المسلم بالقتل لا يجد مستندًا يستند عليه سوى تحصيل مصلحة معينة اعتبرها من قال بالجواز ورآها جديرة بالإعتبار ولو كان ذلك على حساب إزهاق روح مسلم معصوم قررت الأدلة من الكتاب والسنة حرمة قتله.
وهذا يعني أننا في حالة التترس بمسلم إزاء مصلحة لا يمكن تحصيلها أو مفسدة لا يمكن دفعها إلا بقتل مسلم معصوم الدم، فأي الأمرين يترجح، وأي المصلحتين أولى بالرعاية، أهي مصلحة الحفاظ على حياة المسلم المتترس به أم دفع العدو؟
يجيب على هذا السؤال الإمام الغزالي باقتدار فيقول: "إن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا وهذا لا عهد به في الشرع ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا فيجوز أن يقول قائل هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف، أنها ضرورية قطعية كلية وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فبنا غنية عن القلعة فنعدل عنها إذ لم نقطع بظفرنا بها لأنها ليست قطعية بل ظنية" ا.هـ.
وهذا يعني أن رمي الترس واستهدافه لا يصح إلا في حالات محددة تكون المصلحة المترتبة على ذلك لها هذه الأوصاف التي ذكرها الإمام الغزالي، وهو ما يعني أن القول بجواز رمي المسلم المتترس به استثناء من أصل ثابت ومقيد بقيود عديدة فلا يصح التوسع في القياس عليه.
2- لا يصح قياس التفجيرات العشوائية على مسألة التترس لأنه قياس مع الفارق:
تختلف صورة التفجيرات العشوائية عن تترس الكفار بمسلم اختلافًا بينا يجعل من المستحيل شرعًا قياس أحدهما على الآخر وذلك للآتي:
أ- في حالة تترس الكفار بمسلم يكون هذا المسلم مكرها على البقاء معهم ولا يملك الانتقال عنهم سواء كان معهم بحصن أو عربة أو سفينة لهم، بينما في حالة التفجيرات العشوائية يوجد المسلمون بكامل إرادتهم في موقع الانفجار ودون إكراه لهم ممن تستهدفه هذه التفجيرات، ولو علم هؤلاء المسلمون أن الانفجار سيقع بعد قليل لانصرفوا على الفور ودون تراخ.
ب- في حالة رمي الترس المسلم يكون الرمي سواء بالسهام أو المتفجرات على صف أغلبية الموجودين به من الكفار ومعهم قليل من المسلمين المتترس بهم، بينما في حالة التفجيرات العشوائية التي تقع بالبلاد الإسلامية يكون التفجير مستهدفا في الغالب عددا قليلا من الكفار مهدري الدم في ظل اختلاطهم بجموع غفيرة من المسلمين معصومي الدم.
ج- في حالة التترس يكون الترس متنبهًا وعارفًا بقيام الحرب واحتدام القتال بينما في هذه التفجيرات العشوائية يكون المسلمون الموجودون بموقع الانفجار في غفلة تامة عن وجود أي صراع من أي نوع مع أي أحد في هذا المكان.
د- في حالة التترس بمسلم هناك ترس ومتترس به، أما في التفجيرات العشوائية فلا وجود لمثل هذا الترس، فالمستهدفون بالانفجار لم يتخذوا المسلمين الموجودين بالمكان دروعًا يحتمون بها، والمسلمون أيضًا لم يتترس بهم احد.
فهذه الفروق تبين بجلاء أنه لا علاقة بين حكم الترس ومسألة استخدام التفجيرات العشوائية؛ لأنه ببساطة لا يوجد ترس ولا متترس به، فهذه مسألة وتلك مسألة أخرى لا تقاس عليها.
3- لا يصح القياس على جواز رمي الترس المسلم إلا مع الالتزام بالضوابط التي وضعها العلماء في هذا الصدد.
نظرًا لأن إباحة رمي المسلم المتترس به يتعارض مع الأصل القاضي بحرمة إراقة دم المسلم فقد وضع العلماء عدة قيود وضوابط تقيد هذا الحكم، ولا يصح القياس على حكم أو إنفاذه إلا بالالتزام بهذه الضوابط والتي تتمثل في الآتي:
أ- أن يكون المسلم الترس به مكرها على الوجود في صف الكفار أو مهدري الدم، أما إن كان وجود المسلم بينهم عن رضا منه فلا نكون هنا بصدد حكم الترس إنما أمام حكم آخر وهو وجود المسلم برضاه في صف الكفار أو مهدري الدم، وهذا حكم مختلف له تفصيلات مختلفة عن حكم التترس.
ومن الواضح أننا في حالة التفجيرات العشوائية لسنا بصدد وجود عدد من المسلمين قد تترس بهم المستهدفون بتلك التفجيرات، كما أننا لسنا بصدد وجود عدد من المسلمين عن رضا منهم في وسط صف مهدر الدم، إنما نحن بصدد صورة أخرى هي اختلاط كثرة من المسلمين مع من لا يدري أنه مستهدف ولا يعلمون هم باستهداف أحد له ودون وجود حالة حرب قائمة، وفي ظل وجود ظن عندهم بمشروعية وجود هؤلاء المستهدفين في هذا المكان لدخولهم للبلاد بموافقة السلطات المعنية، فأين هذا الحال من حال الترس وأحكامه.
ب- الضابط الثاني: هو قيام حالة الحرب كي يجوز استهداف الترس المسلم بالرمي، لأن عدم قيامها لا يجعل هناك مصلحة تخشى فواتها تستوجب المبادرة بذلك الرمي وهو ما نلمحه في أقوال فقهاء عديدين كابن قدامة المقدسي في قوله: "وإن تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم لكون الحرب غير قائمة، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه، أو للأمن من شرهم لم يجز رميهم" ا.هـ.
يقول الإمام الرملي: "وإن تترسوا بهم حال التحام الحرب و اضطررنا لرميهم بأن كنا لو كففنا عنهم ظفروا بنا أو عظمت نكايتهم فينا جاز رميهم في الأصح".
ومن الواضح أننا في حالة التفجيرات العشوائية لسنا بصدد حالة حرب قائمة أو ملتحمة بل إن المسلمين الموجودين في موقع الانفجار في حالة غفلة عما ينتظرهم من مصير وتفجير ولا إدراك لهم بوجود حرب قائمة أو صراع دائر.
ج- الضابط الثالث: هو ألا تكون هناك وسيلة أخرى غير رمي الترس المسلم لتحقيق المصلحة المراد تحقيقها.
يشترط لإباحة رمي الترس المسلم ألا يمكن تحقق المقصود إلا بالرمي الذي يؤدي إلى الهلاك العام -أي الدمار المتسع الذي لا يميز بين من يجوز قتله ومن لا يجوز- أما إذا وجدت وسيلة أخرى فلا يجوز ذلك الرمي، وهذا الشرط يبين حرص الفقهاء على عدم التضحية بالمسلم إلا إذا تحتم الأمر وفي هذا يقول الإمام السرخسي في شرحه للسير الكبير:"والأولى لهم إذا كانوا يتمكنون من الظفر بهم بوجه آخر ألا يقدموا على التغريق والتحريق؛ لأن في ذلك إتلاف من فيها من المسلمين، إن كانوا، وإن لم يكونوا، ففي ذلك إتلاف أطفالهم ونسائهم، وذلك حرام شرعًا، فلا يجوز المصير إليه إلا عند تحقق الضرورة، والضرورة فيه ألا يكون لهم طريق آخر يتمكنون من الظفر بهم بذلك الطريق، أو يلحقهم في الطريق الآخر حرج شديدة، فحينئذ لدفع هذه المؤنة يباح لهم التحريق" ا.هـ.
والسؤال الذي يفرضه هذا الشرط على أصحاب التفجيرات العشوائية:
ألا توجد وسيلة أخرى أمامكم يمكن الوصول بها إلى من يستحق القتل دون قتل هؤلاء المسلمين؟
الواقع يقول أن هناك العديد من الوسائل يمكن أن تحقق ذلك.
د- الضابط الرابع: أن توجد حاجة ماسة للمسلمين لرمي الترس.
ويعتبر هذا الشرط من أهم الشروط؛ لأن العلماء لم يبيحوا رمي الترس المسلم إلا من أجل مصلحة يخشون فواتها أو مفسدة يتوقعون حدوثها، ويمكن بيان أقوال العلماء في تحديد هذه المصلحة من خلال الآتي:
1- لقد اتفقت كلمة العلماء على أن قيام حالة الضرورة التي يخشى منها وقوع ضرر فادح بالمسلمين نتيجة لهزيمتهم أو دهم العدو لديارهم تبيح تلك الحالة رمي الترس المسلم، وفي هذا يقول الإمام القرطبي: "قد يجوز قتل الترس؛ ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية، فمعنى كونها ضرورية، أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس، ومعنى أنها كلية، أنها قاطعة لكل الأمة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة، ومعنى كونها قطعية، أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا، قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها؛ لأن الغرض أن الترس مقتول قطعا، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين. وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجوا المسلمون أجمعون. ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه؛ لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما يحصل منها عدم أو كالعدم والله أعلم".
وقال ابن شاس المالكي: "لو تترس كافر بمسلم لم يقصد الترس و لو خفنا على أنفسنا فإن دم المسلم لا يستباح بالخوف و لو تترسوا بالصف، و إن تركوا انهزم المسلمون و خيف استئصال قاعدة الإسلام و جمهور المسلمين و أهل القوة منهم وجب الدفع و سقطت حرمة الترس" ا.هـ.
و هذه مصلحة ضرورية قطعية كلية هي التي اشترطها الإمام الغزالي في قوله الذي أوردناه في موضع سابق.
ويقول ابن قدامة المقدسي: "وإن دعت الحاجة للخوف على المسلمين جاز رميهم لأنها حالة ضرورة ويقصد الكفار" ا.هـ.
بل إن الإمام الرملي الشافعي يجعل حكم رمي الذمي المتترس به كحكم المسلم المتترس به فيقول:"وإن تترسوا بمسلمين أو ذميين فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم" ا.هـ.
2- أما إذا لم يكن هناك ضرورة ووجدت مصلحة أو حاجة فهنا يختلف العلماء فمنهم من يبيح رميهم إن وجدت مصلحة من وراء ذلك ومنهم من يمنع ذلك.
ويقول صاحب فتح القدير: "ولا بأس برميهم (أي الكفار في حصونهم) وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر، بل لو تترسوا بأسارى المسلمين وصبيانهم؛ سواء علم أنهم إن كفوا عن رميهم انهزم المسلمون أو لم يعلموا ذلك؛ إلا أنه يقصد برميهم الكفار وعند الأئمة الثلاثة: لا يجوز في صورة الترس إلا إذا كان في الكف عن رميهم في هذه الحالة انهزم المسلمين، وهو قول الحسن بن زياد" ا.هـ.
فنسأل أصحاب هذه التفجيرات أين المصلحة الضرورية الكلية القطعية التي ستضيع لو لم يتم القيام بهذه التفجيرات العشوائية؟.
ترجيح وتوضيح:
والذي تميل إليه النفس وترجحه هو المنع من قتل المسلم المتترس به طالما لا توجد مصلحة ضرورية وقطعية وكلية على حد تعبير الإمام الغزالي.
والسؤال الذي يطرح نفسه على أصحاب التفجيرات العشوائية:
أين هذه المصلحة الكلية الضرورية القطعية التي ستضيع لو لم يتم القيام بهذه التفجيرات التي تؤدي إلى قتل عدد من المسلمين أكبر من عدد المستهدفين بتلك التفجيرت حقيقة؟ بل أين الحاجة الماسة لذلك والتي لا تتحصل إلا بهذا الطريق؟
هـ - الضابط الخامس: لإباحة رمي الترس المسلم هو أنه عند الرمي لا يقصد بذلك المسلم المتترس به.
إذا كان المسلم متترسًا به عن غير رضا منه، وكانت حالة الحرب قائمة، ولا توجد وسيلة أخرى غير التفجيرات أو الرمي بالمهلك العام، وتوجد مصلحة ضرورية قطعية كلية تقتضي القيام بهذه التفجيرات فلابد أن يقصد من يستعملها قتل الكافر دون المسلم، وهنا يتصور وجود حالتين هما:
الحالة الأولى: أن يتمكن المفجر أو الرامي من رؤية المسلم وتمييزه عن غيره من الكفار فيجب عليه أن يتوقاه قدر إمكانه ولا يرمي صوبه ويقصد المشركين بفعله.
وفي هذا يقول الإمام الرملي الشافعي: "فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم (.....) وإلا جاز رميهم في المسلمين بحسب الإمكان".ا.هـ.
ويقول الإمام السرخسي الحنفي: "وكذلك إذا تترسوا بأطفال المسلمين أو منهم وفي الوجوه كلها ينبغي لهم أن يقصدوا بفعلهم المشركين من المقاتلين دون غيرهم؛ لأنهم لو قدروا على التحرز عن إصابة الأطفال فعلا كان عليهم التحرز عن ذلك فإن عجزوا عن ذلك وقدروا على التحرز قصدًا كان عليهم ذلك عمًلا بقوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم" (التغابن:16).
الحالة الثانية: ألا يستطيع الرامي أن يرى المسلم المتترس فهنا يجوز إذا توفرت باقي الشروط أن يرمي الترس ويقصد المشركين بالرمي.
والسؤال الذي يتوجه إلى أصحاب التفجيرات العشوائية: هل يصح وضع التفجيرات في أماكن يرتادها أعداد من المسلمين تبلغ أضعافا مضاعفة من مرتاديها من غيرهم؟ وأين التوقي المأمور به في هذه الحالة؟
وهكذا يظهر من الاستعراض السابق:
* أنه لا ترس و لا متترس به موجود في حالة التفجيرات العشوائية.
* و لا حالة حرب قائمة يدركها المسلمون بموقع الانفجار
* و لا مصلحة ضرورية أو حاجة ماسة تقتضي إتمام هذه التفجيرات في تجمعات يكثر فيها تواجد المسلمين.
* كما أن هذه التفجيرات تتم مع معرفة القائمين بها بوجود مسلمين ورؤيتهم لهم بموقع التفجير مع القدرة على توقيهم أو تأجيل التفجير لحين انصرافهم.
وكل هذا يبين الخطأ الكبير الذي يقع فيه من يستدل بأحكام التترس على القول بجواز استخدام هذه التفجيرات العشوائية في بلادنا الإسلامية.
ويبقى للقوم أمران أو قل شبهتان يتشبثون بهما للقول بجواز تلك التفجيرات التي توقع عددا من المسلمين من بين ضحاياها ونستعرض هذين الأمرين على عجالة:
الأمر الأول: يحتج مؤيدو التفجيرات العشوائية بأن العلماء أجازوا استهداف من حضر من المسلمين مع جيش الكفار عند اشتعال الحرب، وضحايا هذه التفجيرات يأخذون حكم هؤلاء في جواز استهدافهم.
والجواب عن هذا يتلخص في أن ضحايا هذه التفجيرات من المسلمين لا يرون جيشًا للكفار موجودًا بموقع الانفجار كي يبتعدوا عنه، فكيف يصح تنزيل هذا الحكم عليهم، وأين هذا الجيش وأين هذه الحرب المشتعلة؟
أما الأمر الثاني: الذي يحتج به مؤيدو هذه التفجيرات فهو أن هؤلاء الضحايا من المسلمين يبعثون على نياتهم وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ناسًا من أمتي يؤمون بالبيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم فقلنا: يارسول الله إن الطريق قد يجمع الناس؟ قال: نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكًا واحدًا ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم" ا.هـ.
ويقولون: إنه كما قتل في الخسف بهذا الجيش المتجه للكعبة من ليس منه وقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يبعث على نيته، فكذلك الحكم على من يقتل في تلك التفجيرات والرد على هذا الاستدلال الخاطئ يتلخص في الآتي:
1- إن هذا يتعلق بفعل من أفعال الله القدير العليم الحكيم وهو الخسف بهذا الجيش، فلا يصح قياس عليه ما يجوز وما لا يجوز من أفعال العباد.
2- إن هذا الحديث يبين شمول عقوبة الخسف لأُناس ليس لهم ذنب سوى التواجد بجوار هذا الجيش الغازي للكعبة وهذا الغزو أمر عظيم وجرم شنيع لا يصح التهاون معه وتغتفر من أجل حماية الكعبة، ومن يعوذ بها مفسدة مقتل من لا علاقة له بهذا الجيش، والسؤال هنا لمؤيدي هذه التفجيرات: أين مثل هذه الحالة في تفجيراتكم؟ هل أنت بصدد رد جيش يغزو الكعبة أو أي دولة مسلمة للاستيلاء عليها؟ وهل وجود بعض المستهدفين في وسط جمع غفير من المسلمين في مجمع سكني أو حديقة فندق تماثل حالة غزو جيش للكعبة أو دهم مستعمر لأراضي دولة مسلمة؟.
فهؤلاء وجدوا في موضع يمر به جيش يريد غزو الكعبة أما في حالة التفجيرات العشوائية فإن ضحاياها وجدوا بموقع بعيد عن أي جيش أو في أماكن ليس فيها أدنى مظنة لقيام حرب.
لا شك في وجود اختلاف واضح بين ما يذكره هذا الحديث وما تقومون به من تفجيرات، وهذا الاختلاف يبين حقيقة الخطأ الذي يقع فيه مؤيدو التفجيرات العشوائية بالبلاد الإسلامية والذي يكمن في التنزيل الخاطئ للأحكام الشرعية على الواقع المعاش.
خاتمة:
ويبقى القول: إن هذه التفجيرات تسبب أضرارًا عديدة سواء من جراء قتل الأبرياء من المسلمين أو غيرهم، أو إثارة السخط الشعبي العام على من يقوم بها، أو استغلال خصوم الفكرة الإسلامية لها لتشويه الإسلام ذاته، والتحريض على أتباعه، فلا مصلحة حقيقية ترجى ولا ضرر ماحق سوف تدفعه، ولا حرب قائمة يتوقف الظفر فيها على القيام بها، و لا يوجد ترس و لا متترس به، فكيف بعد ذلك كله يقاس هذا على ذاك.
وكل هذا يبين خطأ القول بجواز التفجيرات العشوائية ببلداننا الإسلامية إستنادًا على القول بجواز التبيت أو الرمي بالمنجنيق أو رمي المسلم المتترس به.
و نذكر أخيرًا بقول الإمام القرطبى: "ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف" أ. هـ.
فلا يصح أن يتذرع البعض بأنهم يعتمدون في تلك التفجيرات على قول عالم لم يدققوا في كلامه، أو أخطأوا في تنزيله لأن استباحة دم المسلم لا تتم إلا عند اليقين بالجواز و في ظل اختلاف هذا العالم أو ذاك مع جمهور علماء الأمة فلا يجوز الإقدام على ذلك بحال من الأحوال.
وأغلى ما تدمره هذه التفجيرات اليوم أمور عديدة ينبغي الالتفات إليها:
- أرواح البشر التي أزهقت بغير حق والتي سيمسك أصحابها بتلابيب من قام بذلك يوم القيامة ويقولون: "سل هذا يا رب فيمَ قتلني".
- القضاء على مبدأ السلمية في مواجهة الانقلاب وفي السعي لانتصار الثورة, وصدق من قال: إن اللجوء للعنف هو مقبرة الثورة والثوار, كما أن القمع مقبرة الاستبداد.
- تدمير أواصر المحبة والمودة بين أبناء الوطن الواحد وزرع الأحقاد والرغبة في الانتقام في النفوس وهذا ربما يمتد إلى أجيال قادمة؛ فكل من أراد رضا الرحمن وانتصار الثورة والحفاظ على الأوطان فليهتف معنا:
لا للتفجير ... سلمية ... سلمية