بقلم: أمل خيري
أبو الحسن الندوي
أبو الحسن الندوي عالم جليل من علماء المسلمين في شبه الجزيرة الهندية، وأحد الدعاة المصلحين الذين حاولوا إصلاح المجتمع الإسلامي بل العالم كله، خاطب الشرق والغرب وتعرف على أدواء المجتمع. وصفه البعض بعميد الأدب الإسلامي باعتباره صاحب مدرسة خاصة في الأدب المعاصر أقامت جسرا بين الأدباء الإسلاميين وغير الإسلاميين، وخاض معركة الحياة كمصلح رباني وسفير للدعوة الإسلامية ورئيس لندوة العلماء. وقد ترك أبو الحسن تراثا غزيرا في الدراسات الإسلامية بعدة لغات كانت وما زالت مصدرا خصبا للعديد من الباحثين والدارسين في شتى أنحاء العالم.
النشأة والتكوين
ولد علي أبو الحسن بقرية تكيه كلان بولاية أترابرديش الهندية يوم السادس من محرم 1333هـ/23 نوفمبر 1914م، ونشأ في ظل أبوين كريمين اشتهرا بالعلم والفضل، فوالده العلامة السيد عبد الحي الحسني كان عالما واسع المعرفة غزير الإنتاج الفكري، فله العديد من المؤلفات وكان رئيسا عاما لندوة العلماء، أما والدته "خير النساء" فكانت حافظة للقرآن واسعة الاطلاع شاعرة، ولها الكثير من المؤلفات التربوية.
نشأ الابن في هذه البيئة العلمية الخصبة فحفظ القرآن وتلقى دروسا ابتدائية وقرأ بعض الكتب العربية والفارسية والأردية وما لبث أن توفي والده وهو في التاسعة من عمره فزادت والدته من عنايتها به.
انتقل أبو الحسن مع شقيقه الأكبر من قريته إلى مدينة لكهنؤ وكانت مدينة العلم والثقافة ومركزا لندوة العلماء، فأصبحت هذه البيئة مصدرا ثريا لتنشئة أبي الحسن وخاصة في ظل رعاية شقيقه الأكبر الدكتور عبد العلي والذي هيأ الأجواء الملائمة لهذه النشأة، فأخذه للشيخ خليل اليماني ليدرس عليه اللغة العربية، فأتقنها في أقل من سنتين، كما أتم دراسة بعض أمهات الكتب ثم التحق بقسم اللغة العربية بجامعة لكهنؤ ونال شهادة (فاضل أدب) وفاز بوسام عام 1346هـ/1927م، كما فاز بامتحان (فاضل حديث) في السنة الأخرى. ودرس اللغة الأردية والإنجليزية، ثم التحق طالبا منتظما بدار العلوم بندوة العلماء وتتلمذ على محدث العصر الشيخ حيدر حسن خان الذي أعطاه إجازة في الحديث النبوي عام 1348هـ/1929م.
كما تتلمذ على يد الشيخ إعزاز علي والشيخ أحمد اللاهوري والدكتور تقي الدين الهلالي، وزار لاهور والتقى الشاعر محمد إقبال الذي شجعه على ترجمة قصائده للعربية والتي كانت فيما بعد نواة لكتابه "روائع إقبال"، وبعد عودته إلى لكهنؤ عين أستاذا لعلوم القرآن وتفسيره والأدب العربي بدار العلوم بندوة العلماء عام 1353هـ/1934م واستمر لمدة عشر سنوات فوضع منهجا دراسيا مبتكرا.
خادم العلم
تشبع أبو الحسن بروح وأجواء ندوة العلماء ورسالتها الإصلاحية فركز جهوده على إصلاح المناهج والمقررات الدراسية ورفع مستواها، وخاصة اللغة العربية التي كرس حياته للرقي والنهوض بها وكتب مقالات عدة في ضرورة تنقية المكتبة العربية من المؤلفات وغربلتها فكان ذلك نواة فكرة إنشاء رابطة الأدب الإسلامي التي ترأسها أبو الحسن عام 1402هـ/1981م.
تعددت محاولات الندوي في تطوير المناهج فأعد منهجا دراسيا للأطفال في صورة سلاسل مثل سلسلة قصص الأنبياء للأطفال، وسلسلة القراءة الرشيدة، وسلسلة قصص من التاريخ الإسلامي للأطفال بأسلوب شائق يناسب تفكير الأولاد.
كما أعد مناهج دراسية لجامعة عليكرة الإسلامية وشارك في وضع سياسة التعليم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفي عام 1373هـ/ 1953م انتخب وكيلا للشئون التعليمية ثم رئيسا عاما لندوة العلماء عام 1381هـ/1961م.
حاول الندوي محاربة الأمية والجهل بين أبناء وبنات المسلمين وذلك بنشر فكرة إنشاء المدارس الأهلية التي تقوم على التعليم الإسلامي واللغتين العربية والأردية مع بعض العلوم العصرية المتوافقة مع الإسلام، كما استقطب كثيرا من طلاب العلم داخل البلاد وخارجها وكان دائما حلقة الوصل بين طالبي العلم والمؤسسات العلمية الإسلامية في العالم.
كما ساهم أبو الحسن في تحرير صحيفة "الضياء" العربية مع زميله مسعود عالم الندوي، وشارك في تحرير مجلة "الندوة" ورأس تحريرها فترة من الزمن، كما نشرت له المنار والفتح الصادرتان في مصر، وفي عام 1362هـ/1943م أصدر صحيفة "تعمير" الأردية لسان حال إدارة تعليمات إسلام، وأشرف على مجلة "البعث الإسلامي" العربية الصادرة منذ عام 1375هـ/1955م، وجريدة "الرائد" العربية الصادرة منذ عام 1379هـ/1959م.
الداعية الرحالة
تفرغ الندوي للدعوة وإصلاح المجتمع فقام بالعديد من الرحلات الدعوية في قرى الهند، كما خرج للعديد من الدول الإسلامية كالحجاز ومصر والسودان والشام، وكان يسجل لقاءاته وانطباعاته في مؤلفاته ومن بينها (مذكرات سائح في الشرق العربي) وكان يلقي المحاضرات والخطب.
وفي مصر أقام نحو ستة أشهر وطبع فيها كتابه الأشهر "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" وكان أول ما نشر له، وعرف الندوي بسبب هذا الكتاب في الأوساط الدينية والدعوية، والتقى قادة الجماعات والجمعيات مثل جمعية الشبان المسلمين، كما صحبه في رحلته المفكر سيد قطب والداعية محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي، والتقى كبار العلماء مثل الشيخ عبد المجيد سليم، ومحمود شلتوت، وأحمد محمد شاكر، وحسنين محمد مخلوف، وحامد الفقي، ومحمد عبد اللطيف دراز، ومصطفى صبري، وأحمد عبد الرحمن البنا.
كما سافر للحج عام 1367هـ/1947م، وتعرف على كبار علماء الحجاز ومن بينهم الشيخ عبد الرزاق حمزة، والسيد علوي المالكي، وأمين الكتبي، وحسن المشاط، ومحمد العربي وغيرهم.
كما زار تركيا وتركستان وماليزيا وسريلانكا وغيرها من دول آسيا، وزار دولا أوربية كفرنسا وإنجلترا وأسبانيا، وحصل على جائزة الملك فيصل العالمية عام 1400هـ/1980م وجائزة الشخصية الإسلامية من دولة الإمارات عام 1419هـ/1998م، وجائزة سلطان بروناي للدراسات الإسلامية عام 1420هـ/1999م وتبرع بقيمة كل جوائزه للفقراء، ونال شهادة الدكتوراة الفخرية في الآداب من جامعة كشمير 1401هـ/1981م.
وأقيمت له العديد من حفلات التكريم، وكان عضوا في العديد من المراكز والمؤسسات والجامعات، كما جرت العديد من المراسلات بينه وبين علماء عصره مثل الشيخ محمد تقي الدين الهلالي، والشيخ عبد العزيز بن باز، والدكتور أحمد أمين، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ علي الطنطاوي، كما قابل العديد من رؤساء وملوك الدول العربية والإسلامية.
فقيه الدعوة
امتلك الندوي العديد من أدوات الداعية ومواهبه مما مكنه من احتلال مكانته الرفيعة في عالم الدعوة، وقد خلف العديد من المؤلفات في فقه الدعوة والتي طبعت عدة مرات وتلقتها الأمة بالقبول. ومن معرفته بأحوال الأمة الإسلامية ومن خلال رحلاته الدعوية حدد أهم أسباب ما تعانيه الأمة من أدواء وخاصة الأدواء الفكرية المتمثلة في التعلق بالغرب ونظرياته باعتبارها المنقذ من تأخر المسلمين، وفقدان الثقة بعظمة الإسلام وقدرته على مواجهة التحديات المختلفة، وهو ما أسماه بالردة الفكرية وكتب عنها في رسالته الشهيرة (ردة ولا أبا بكر لها) فتصدى لكل هذه الأدواء مبرزا العلاج لها.
وتصدى لما أسماه بالفكرة الغربية ودرسها دراسة عميقة وأوضح المخاطر التي تحدق بكل دولة إسلامية ونبه لوسائل الوقاية منها مشيدا بدور المفكرين الإسلاميين الذين تصدوا للفكرة الغربية في كتابه "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية"، كما شحذ همم الدعاة في كتابه "إلى الإسلام من جديد" ليقوموا بدورهم في بعث الإيمان والثقة بالإسلام لدى الطبقة المثقفة وتحريرها من رق الفلسفات الغربية.
وتمثلت أهم مرتكزات فقه الدعوة لدى الندوي في إعلاء الوحي على العقل وتعميق الإيمان في مواجهة المادية وتوثيق الصلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية والسيرة المطهرة، وإعلاء قيم البناء لا الهدم والجمع لا التفريق ونبذ العصبية الجاهلية والقومية والتحزبات وكان حريصا على تأكيد دور الأمة المسلمة في التاريخ من خلال استعادة بطولات المسلمين وإحياء روح الجهاد في سبيل الله وبيان فضل الصحابة ومنزلتهم، كما لم ينقطع عن صلته بالحاضر فاهتم بالقضية الفلسطينية.
وفي كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" لفت الانتباه إلى موقع المسلمين من القيادة العالمية وهو ما أثار دهشة الكثيرين من الذين كانوا ينظرون للمسلمين على أنهم أمة عادية كغيرهم من الأمم. ولم يحاول أحد قبل الندوي الربط بين مسألة تأخر المسلمين وتأثير ذلك على العالم ككل، وكأن المسلمين هم العامل المحرك لمجريات السياسة العالمية وهو اتجاه جديد خاضه الندوي ببسالة ووصل بدراسته الحيادية المستقلة إلى أن الأمة المسلمة ذات القيم الخلقية النورانية وصاحبة الرسالة الخالدة هي الأجدر بقيادة الإنسانية جمعاء.
وحرص في كتابه "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" على سد ثغرة في التاريخ الإسلامي أوضحت عميق معرفته بخصائص الرجال المجددين للدين.
ويلاحظ من كتابات الندوي العديدة غلبة روح الداعية عليه، فهو حتى عندما صنف في الفقه لم يعن بالجانب الفقهي كما في كتابه "الأركان الأربعة" بل اهتم ببيان مكانة هذه العبادات وأسرارها وخصائصها وآثارها على النفس والمجتمع، أي أنه كتبه بروح الداعية لا بروح الفقيه.
المربي الجليل
تميز الفكر التربوي للندوي بالوسطية والجمع بين الأصالة والمعاصرة، فكان حريصا على ربط المسلم بقيمه الأصيلة مع الاستفادة من التجارب الإنسانية الأخرى، وقد اعترف في كتاباته بفضل المجددين التربويين كأبي حامد الغزالي وابن تيمية وابن القيم وابن رجب الحنبلي، وفي المقابل عارض فكر غلاة المتصوفة كالحلاج وابن عربي لأنهم خلطوا الدين الصافي بشوائب دخيلة، فكان كتابه "ربانية لا رهبانية" الذي تعرض للجانب الروحي في الإسلام بحديث المسلم الملتزم بالكتاب والسنة لا بحديث الصوفي المتأثر بفلسفة الاتحاد والحلول، موضحا أن الربانية كان لها الدور الحيوي في المجتمع فجعلته يبتعد عن التواكل والتكاسل والجمود ورأى فيها الحل لمشكلات المجتمع المعاصر.
واهتم الندوي بالتربية الشاملة للإنسان فسعى لتزكية الفرد وترسيخ القيم الدينية والأخلاقية، ورأى أن التربية عملية مستمرة تلازم الفرد في سائر مراحل حياته؛ لذا فقد نالت قضية ترشيد الصحوة الإسلامية جانبا كبيرا من اهتمام الندوي، فلم يتفق مع العلامة المودودي على التركيز على التغيير السياسي بل كان من رأيه أن إصلاح المجتمع لا يتم إلا بإصلاح الفرد ظاهرا وباطنا.
ولأن التربية والدعوة لا ينفصلان فإن مؤلفاته غالبا ما تجمع بينهما في تناغم عجيب، وكان للندوي مواقف ثابتة حين وقف ضد المشروع القانوني الذي أعلنته الحكومة الهندوسية والذي كانت تهدف من ورائه تغيير بعض قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين، وأبلغ موقفه الرافض للحكومة ووقف من ورائه المسلمون حتى تنازلت الحكومة عن موقفها وسحبت مشروعها. وكان للندوي مكانته التي حظي بها حتى في قلوب الهندوس، فهم يكنون له احتراما ويعتقدون أنه رجل عظيم أعاد للهند مكانتها في العالم.
وشارك أبو الحسن في تأسيس هيئة التعليم الديني للولاية الشمالية وتأسيس المجلس الاستشاري الإسلامي لعموم الهند عام 1384هـ/1964م وهيئة الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند عام 1392هـ/1972م.
ورث الندوي تراثا غزيرا متنوع العطاء بالعربية والأردية، وترجمت كتبه للعديد من اللغات فكتب ما يزيد عن مائة وسبعين سفرا بالعربية وحوالي سبعمائة بالأردية تنوعت بين الكتب والرسائل والمقالات، وتميزت مؤلفاته بلغة أدبية راقية، كما تميزت محاضراته باللغة الفصحى حتى أن من يسمعه لم يكن يشعر بأنه أعجمي.
وبعد حياة حافلة بالعطاء توفي الندوي قبل صلاة الجمعة من يوم 24 من رمضان 1420هـ/31 من ديسمبر 1999م.
المراجع
1. يوسف القرضاوي. الشيخ أبو الحسن الندوي كما عرفته، دمشق: دار القلم، 2001م.
2. محمد اجتباء الندوي. أبو الحسن الندوي الداعية الحكيم والمربي الجليل، دمشق: دار القلم، 2001م.
3. طارق البكري. أبو الحسن الندوي ثمانون عاما في الدعوة والإصلاح والبناء، الوعي الإسلامي، العدد 410، السنة 36، فبراير 2000م.
4. محمد رجب البيومي. من أكبر الدعاة في هذا العصر: أبو الحسن الندوي، مجلة الأزهر، الجزء الثالث، السنة الثالثة والسبعون، يونيه 2000م.
لا تنس تسجيل إعجابك بصفحة غراس على الفيس بوك
ساحة النقاش