بقلم :أمل خيري
باحثة البادية «ملك حفنى ناصف» من أعلام الحركة الثقافية النسائية في الربع الأول من القرن العشرين، ورائدة من رائدات الإصلاح الإجتماعى في مصر والعالم العربي.
نذرت نفسها للدفاع عن حقوق المراة و إصلاح وضعها في الأسرة و المجتمع متسلحة بمنطلقات إسلامية راسخة ميزتها عن غيرها من دعاة تحرير المرأة في ذلك العصر.
ولدت «ملك» في حي «الجمالية»، بالقاهرة في 25 من ديسمبر عام 1886، وشاء القدر أن يتفق يوم مولدها مع زفاف الأميرة "ملك" إلى الأمير "حسين كامل" الذي صار سلطانًا بعد ذلك، فسمّاها أبوها باسم الأميرة.و هي الابنة الكبرى للأديب الكبير حفني ناصف أحد أعلام الأدب واللغة والقضاء في مصروقد ختم حياته بعمل جليل هو كتابة المصحف الشريف على الرسم العثماني ووضع له قواعد الإملاء الخاصة به .
لذا فقد نشأت "ملك" في بيت علم وأدب، ووجدت عناية فائقة من أبيها لما رأى فيها من ذكاء ونبوغ.
التحقت بالمدرسة السنية وهي المدرسة الوحيدة التي كانت آنذاك لتعليم البنات في مصر.. وحصلت منها على الشهادة الابتدائية سنة 1900م فتدرجت عبر سلمها الدراسي حتى حصلت على شهادتها في التعليم العالي فكانت من أوائل المصريات اللواتي حصلن على هذه الشهادة.ثم اشتغلت بالتعليم في مدارس البنات الاميرية.
جهادها الباكر
بدأت «ملك» جهادها المبكر، فكانت تتولى منذ صغرها الكثير من شؤون البيت وشؤون رعاية اخوتها، حيث أقعد المرض والدتها، وكانت هي الكبرى، فكانت تكرس إجازاتها الصيفية لاعادة تنظيم البيت وتجديد كل ما يلزمه من مخيطات المفروشات، واكمال ما ينقص من أدوات واعداد ملابس العام لوالديها، واخوتها، كما كانت تساعد صديقاتها في المواسم كبدء السنة الدراسية وحلول الشتاء والأعياد وفي المناسبات الخاصة كالسفر والزواج والوفاة, كما كانت تؤم بيوت صاحباتها ومعارفها ولا تزال بهن حتى يرسلن بناتهن الى المدرسة على أن تراعي هي بنفسها أولئك الصغيرات رعاية .
في بيت الزوجية
وفي سنة 1907م تزوجت "ملك" من "عبد الستار الباسل" رئيس قبيلة "الرماح" بالفيوم، وكان رجلاً متعلمًا يجيد أكثر من لغة أجنبية، ومعروفا بالشهامة والمروءة، وفوق ذلك كان من أكبر أثرياء مصر، وبعد الزواج اتخذت "ملك" لنفسها لقبًا جديدًا اشتهرت به هو "باحثة البادية" و ارتدت العقال البدوي و كانت تباشر أعمالها المنزلية بنفسها لتكون قدوة لغيرها من السيدات اللواتي تركن أعمال منازلهن للخادمات فأوقعن بيوتهن في البلاء وأزواجهن في الشقاء.. فكانت رحمها الله إذا ما فرغت من أعمالها المنزلية عكفت على قراءة الكتب النافعة وكتابة مقالاتها والقيام بزيارات لمدارس البنات تتفحص خلالها مناهج التعليم وتقدم النصح والإرشاد لتطوير تعليم المرأة بما ينفعها.
وأثناء عيشها في البادية كانت تحث الآباء على تعليم بناتهم وعلى النظـافة والاعتناء بغذاء الجسم، حتى اصبحت القرية التي كانت فيها متحضرة أكثر مما عليه بعض المدن.
مساهماتها الاجتماعية
أسست باحثة البادية عدة جمعيات، منها:
* جمعية الاتحاد النسائي التهذيبي، وكان يضم كثيرات من نساء مصر والبلاد العربية وبعض الأجنبيات.
* وجمعية للتمريض على غرار الصليب الأحمر كانت النواة لتأسيس الهلال الأحمر،كانت ترسل الأدوية والأغطية والملابس والأغذية إلى الجهات المنكوبة في مصر والبلاد العربية. وقد حاكت بيدها 100 بذلة كاملة للهلال الأحمر المصري فكانت باكورة أعمالها في هذا المجال جمع التبرعات لمنكوبي طرابلس من ضحايا الاستعمار الفاشي..
* وعندما أذيع إحياء مشروع الجامعة المصرية كانت «ملك» الآنسة الوحيدة التي ألفت لجنة وجمعت قدراً من المال .
* وضعت برنامجاً لمشغل للفتيات وملجأ للمعوزات وكانت تنوي وقف خمسة وثلاثين فدانا بالفيوم- ملكها الخاص- للمشغل والملجأ ولكن القدر لم يمهلها لتأسيس المشغل والملجأ .
ملك (الشاعرة)
قالت الشعر وهي في الحادية عشرة من عمرها، وكان بدء أمرها فيه أن تقوله معارضة لما تحفظه في المدرسة تارة جدا وتارة هزلا. ثم كان لها من حسن استعدادها وكثرة قراءتها ونبوغ والدها فيه خير معوان على تعبيد سبيله. وفي ذلك الوقت كتبت قصيدة في رثاء السيدة عائشة التيمورية التي توفيت سنة (1320هـ = 1902) وكانت أول قصيدة لها نشرتها الجرائد، وبدأ اسمها يتردد في المحافل الأدبية.
كما نشرت بعض آثارها الشعرية في جريدة "المؤيد" للشيخ "علي يوسف"، ثم دعاها الشاعر الكبير "مطران خليل مطران" إلى الكتابة في مجلة "الجوائب المصرية" التي كان يصدرها، فنشرت قصيدة وهي في السابعة عشرة من عمرها تأسى فيها لوضع الشرق وتتألم من حاله المتردي، وقد أثارت القصيدة إعجاب الشاعر، ورأى فيها نزوعا إلى الإصلاح والتجديد.
تقول في أبيات لها عن الحياء.
إن الفتاة حديقة وحياؤها |
كالماء موقوفاً عليه بقاؤها
|
بفروعها تجري الحياة فتكتسي |
حللاً يروق الناظرات رواؤها |
يمانها بالله أحسن حلية |
فيها ، فإما ضاع ، ضاع بهاؤها |
لا خير في حسن الفتاة وعلمها |
إن كان في غير الصلاح رضاؤها |
جمالها وقف عليها إنما |
للناس منها دينها |
الأديبة و الخطيبة
كتبت باحثة البادية سلسلة من المقالات التي كانت تدعو فيها إلى وجوب تعليم المرأة، باعتباره الوسيلة الوحيدة لتحرير عقلها وتقويم أخلاقها، وإصلاح أسرتها، والاقتراب من زوجها، في جريدة "الجريدة" لصاحبها "أحمد لطفي السيد" وقد جمعت هذه المقالات في كتاب تحت عنوان "النسائيات"، ونشرته سنة 1910م، وكان يضم 24 مقالا، وخطبتين وقصيدة واحدة، وقدّم له "أحمد لطفي السيد"، وقرّظه بعض العلماء.
ولجأت باحثة البادية إلى وسيلة أخرى تؤازر مقالتها وتدعم تأثيرها؛ فاتجهت إلى الخطابة وإلقاء المحاضرات العامة على السيدات في دار الجريدة وفي الجامعة المصرية، وفي الجمعيات النسائية، وكانت خطيبة مفوهة ذات تأثير في نفوس سامعيها؛ حتى أن "أحمد زكي باشا" الملقب بـ "شيخ العروبة" كان يُثني عليها، ويقول بأنها أعادت العصر الذهبي الذي كانت فيه ذوات العصائب يناضلن أرباب العمائم في ميدان الكتابة والخطابة.
تحرير المرأة
* كانت ملك حفني ناصف تنطلق في أفكارها الإصلاحية من الشرع الإسلامي فدعت إلى إتباع الطريقة الشرعية في الخِطْبة والزواج والالتزام بالحجاب، وأيدت عمل المرأة على ألا يتعارض ذلك مع رسالتها الأولى كأم وزوجة.
*وكان أعظم ما ساهمت به ملك حفني ناصف الورقة التي قدمتها لمؤتمر مصري عن مقترحاتها حول إصلاح المرأة ضمنتها ما تراه واجباً للنهوض بالمرأة من حيث تعليم البنات الدين الإسلامي الصحيح ، وإنشاء مدارس ابتدائية وثانوية خاصة بالفتيات ، وإضافة تعليم التدبير المنزلي على أسس وقواعد سليمة.. وفتح المجال للنساء لتعلم الطب.. وإقامة معاهد لإعداد المعلمات لتتولى المرأة مهمة تعليم البنات في مصر.
معارك فكرية
كانت ملك حفني ناصف شاهداً معاصراً للمعركة القلمية التي احتدمت عريكتها في الفترة الأولى من القرن العشرين بين دعاة السفور من أرباب الأقلام المتفرنجة وبين دعاة الحجاب من أرباب الإصلاح في الإطار الإسلامي وبلغ من حدة المعركة أن دلف إليها كثير من رجال الأدب والفكر، بل إنها جذبت رجلا اقتصاديا لم يكن له انشغال بقضايا الفكر من قبل هو "محمد طلعت حرب"، فشنَّ حملة على دعاة السفور، وكانت هذه المعارك من آثار الضجة التي أشعلها كتابا: "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" لـ "قاسم أمين". وكان طبيعيا أن تنزل "ملك" هذا المعترك متسلحة بالثقافة الواسعة، ملتزمة بأحكام الشرع ومبادئه، فدفعت اعتراضات الداعين إلى السفور بآيات من القرآن الكريم ونصوص من السنة، وفنّدت آراء الذين يُرجعون تأخر الشرق إلى التمسك بالحجاب ببراهين وأدلة عقلية، مثل قولها: "إن الأمم الأوروبية قد تساوت في السفور، ولم يكن تقدمها في مستوى واحد، فمنها الأمم القوية، ومنها الأمم الضعيفة، فلماذا لم يسوّ السفور بينها جميعا في مضمار التقدم، إذا كان هو الأساس للرقي الحضاري كما يزعم هؤلاء".
مؤلفاتها
1- النسائيات وهو مجموع من خطبها وكتاباتها في الجرائد، وقد تكلمت فيه عن شؤون المرأة.
2- حقوق النساء .
3- رسالة قدمتها للمؤتمر المنعقد في مايو سنة 1191م بمصر الجديدة ضمنتها آراءها السديدة في وسائل ترقية المرأة المصرية .
4- وشرعت في ترجمة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد شعراً، فنظمت منها نحو ثمانية أبيات ثم عاجلتها المنية .
وفاتها
لم تمتد الحياة بـ "ملك حفني ناصف"، فلقيت ربها بعد عمر قصير بأيامه حافل بمنجزاته في صبيحة 17 أكتوبر 1918م عن اثنين وثلاثين عامًا.
وسار في جنازتها جمهور غفير من تلميذاتها وكبار الأدباء ورجال الدولة ، وبموتها ماتت أكبر كاتبة اجتماعية في ذلك العصر .
رثائها
* قال الشاعر «حافظ ابراهيم»، في رثائه لها: سادت على أهل القصور وسودت أهل الوبر
* وقال الدكتور «منصور فهمي»: «كانت ترسم خطوط الاصلاح وهي متسمة بميسمها الشرقي والمصري والاسلامي، وتعتز بكثير من مقومات مصر والشرق والاسلام مادامت تلك المقومات لا تجافي الطبع السليم في شيء، فمن أجل ذلك كله كانت صلتها وثيقة بالميدان الذي تعمل فيه ومن ثم كان لصوتها صدى مسموع وكان توجيهها مطاعاً مقبولاً».
* أما «تشارلز آدامز» في كتابه «الاسلام والتجديد في مصر»، فيقول عنها: «أؤكد لك أنها سارت على نهج الامام الشيخ محمد عبده في التوفيق بين المدنية الغربية والعلم الغربي وبين الحياة الاجتماعية والدينية والأدبية في مصر».
* وكذلك رثاها الشاعر أبو الوفاء محمد فقال: يا مصر قد أفل القمر فسجا ظلامك واعتكر لم يبق في فلك السما من كوكب إلا انكدر
* أفردت لها المؤلفة الانجليزية «شارلوت كمرون» فصلا خاصا في كتابها عن النهضة النسائية في العالم،
* كذلك أطنبت في الحديث عنها المؤلفة الامريكية «اليزابت كوبر» في كتابها عن المرأة المصرية،
* وقام أخوها مجد الدين حفني بجمع كتاب اسماه «آثار باحثة البادية» .
* وأخيرا تقول الأديبة مي زيادة راثية صديقتها «ملك» :«اكتب اسم باحثة البادية فيتمثل لناظري ذلك الثغر البسام وذلك الوجه ذو السمرة المصرية العذبة وأسمع صوتها الرخيم مردداً كلمات حلوة اللفظ لطيفة المعنى »
وفاء و تقدير
و قد قامت مؤسسة المرأة والذاكرة بتنظيم مؤتمر تحت عنوان "في ذكرى ملك حفني ناصف باحثة البادية ". وقد عقد المؤتمر بمكتبة القاهرة الكبرى خلال يومي 17 – 18 أكتوبر 1998. وشارك فيه العديد من الباحثين والباحثات، بأوراق عمل عن ملك حفني ناصف ودورها كرائدة من رائدات الفكر النسائي. وتمت مناقشة الأوراق خلال اليوم الأول والثاني، كما نظمت في اليوم الثاني حفل استقبال بمناسبة إعادة إصدار كتاب "النسائيات" لملك حفني ناصف.
هذه ملك حفني ناصف باحثة البادية التي أطلت على العالم المتمدن بحجابها وأخلاقها ومبادئها الإسلامية فانطلقت تبحث عن المرأة.. تجند قلمها وطاقاتها المقالية والشعرية والخطابية لخدمة الأمة الإسلامية.
المراجع
- عبد المتعال الجابري ، المسلمة العصرية عند باحثة البادية ، دار الأنصار
- إيمان الوزير، نساء رائدات ، مجلة المنار ، العدد 83 ، جمادى الآخرة 1425هـ.
- شخصيات في مسيرة الحركة النسائية العربية، عن مجلة المنار - أكتوبر سنة 2000م
- شذرات من حياة باحثة البادية، صحيفة الثورة – صنعاء
- نساء مصريات على درب تحرير المرأة ،موقع ملتقي المرأة العربية
-
لا تنس تسجيل إعجابك بصفحة غراس على الفيس بوك
ساحة النقاش