بقلم: أمل خيري

في الآونة الأخيرة  تصاعد الحديث عن تنمية القدرات وتطويرها خاصة في ظل الانهيار المتواصل للمؤسسات والشركات، إلا أن تطوير القدرات ليست مسألة بسيطة سواء في التحدث عنها أو الكتابة حولها ناهيك عن وضعها موضع التنفيذ.

ويشير مصطلح تنمية القدرات –وفق قاموس وبستر أون لاين – إلى القدرة على الأداء أو الإنتاج، والقدرة على التعلم والاحتفاظ بالمعرفة، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.

ويعد أسلوب التعلم التعاوني والمبتكر من أحدث الأساليب المستخدمة في مجال تنمية القدرات على المستوى الجماعي وهناك العديد من التجارب الناجحة في هذا المجال خاصة في حقل التنمية الريفية.

حول هذا الأسلوب صدر كتاب "التعلم التعاوني في الممارسة نماذج لادارة الموارد الطبيعية في آسيا" الصادر عن مركز أبحاث التنمية الدولية "IDRC" والذي قام بتحريره روني فيرنوي، ويركز الكتاب على استراتيجيات التعلم التعاوني الابداعي في التنمية الريفية فيما يخص إدارة الموارد الطبيعية مع تقديم نماذج ناجحة في القرية الآسيوية، حيث تؤكد هذه النماذج على أن تنمية القدرات الفعالة هي عملية ديناميكية يمكن تطويرها بسهولة في السياق المحلي، من خلال التركيز على أهداف التعلم، وتكامل الخبرات والتعاون التنظيمي، وتطبيق آليات الرصد والتقييم التشاركي، والإدارة الديناميكية.

نحو مراكز تميز مجتمعية

يشتمل الكتاب على خمس فصول يعرض من خلالها ثلاث نماذج آسيوية نجحت في إدارة الموارد الطبيعية من خلال مراكز الادارة المجتمعية التي تحاول تطوير المهارات عبر منظور أوسع وأشمل للتعلم وطرق جديدة للتفكير وتنمية الهوية الجماعية واكتساب التواصل المعرفي، وهذه هي أهم الدروس المستفادة من هذه النماذج حيث لا تنجح إدارة الموارد الطبيعية إلا من خلال اسلوب الإدارة المجتمعية حيث يتشارك الجميع في التفكير والتنفيذ خاصة مع التطور المذهل في تكنولوجيا الاتصالات التي أتاحت المزيد من التعاون والمشاركة المجتمعية وتبادل الخبرات.

وهذا ما دفع الباحثين في مركز أبحاث التنمية الدولية "IDRC" للدعوة لإنشاء مراكز تميز مجتمعية على المستوى المحلي والاقليمي، ولا يشير مفهوم "المراكز" بالضرورة لوحدات مادية أو منشآت قائمة بل يمكن أن تأخذ شكل شبكة أو تجمع افتراضي أي مجموعة من الأفراد والمؤسسات والمراكز مشتركين في نشاط مشترك ويسعون لأهداف مشتركة ويفكرون بشكل جماعي، وهو ما تجلى بوضوح في النماذج التي أوردها الكتاب.

التنمية بالمشاركة

النموذج الأول يعبر عن برنامج لإدارة الموارد الطبيعية في دول جنوب آسيا استخدمت فيه مجموعة متنوعة من أساليب التعلم سواء من حيث التدريب المباشر أو تعلم الأقران أو التوجيه والعمل الميداني، وشارك في هذا البرنامج 16 منظمة من خمسة بلدان جنوب القارة الآسيوية من بينها منظمات غير حكومية محلية ودولية ومراكز بحوث مجتمعية تشمل مجالات عمل هذه المنظمات إنتاج المحاصيل والتنوع البيولوجي والمحافظة على الغابات والصحة والتغذية وتنمية المجتمع.

ويعتمد البرنامج على تمكين الفقراء من المشاركة في الانتاج الزراعي مع المحافظة على الموارد الطبيعية على المدى الطويل، كمثال على ذلك تشكلت مجموعة مساعدة ذاتية من النساء الفقيرات في ولاية أندرا براديش الهندية لتحسين معيشة هؤلاء النساء من خلال جمع بذور البونجاميا "الزان الهندي" واستخلاص الزيوت منها لاستخدامها كوقود حيوي.

وبفضل المعارف التي اكتسبتها النساء من الباحثين الميدانيين في هذا البرنامج أصبحت المرأة تبيع لتر الزيوت المستخلصة مقابل 30 روبية (ما يعادل 0,62 دولار) وهو ما حقق الاكتفاء الذاتي لهذه القرية فلم يعد هناك حاجة للرجال أو النساء للخروج من القرية للبحث عن عمل حتى في فترات الجفاف.

وفي أعالي جبال بوتان أدركت المجتمعات الزراعية أهمية العمل الجماعي في إدارة مشروعات الري لمواكبة زيادة الطلب على الموارد المائية للزراعة حيث قام الباحثون مع المزارعين بتحليل مشكلات الري والتعرف على أسباب سوء استغلال الموارد المائية وتوجيه المزارعين للاستخدام الأمثل.

ويستغرق هذا البرنامج عامين يتم تنفيذه على ثلاث مراحل: مرحلة تقييم الاحتياجات والتخطيط وتشمل تدريب تمهيدي على مدى أسبوعين ،ثم مرحلة البحوث الميدانية، وأخيرا حلقات نقاش وورشة عمل تجميعية ، مع تذليل الصعاب التي تكتنف هذه اللقاءات مثل السماح للأمهات باصطحاب الأطفال أثناء التدريب والورش وتوفير وسائل نقل للمتدربين.

التعلم بالتكيف

يتناول النموذج الثاني شبكة إدارة الموارد الطبيعية لدول جنوب شرق آسيا والذي يهدف لتكوين مجتمع من الباحثين المشاركين في إدارة الموارد الطبيعية وإقامة مركز إقليمي لهذا المجتمع وهو عبارة عن تجمع من الأفراد والمؤسسات غير الحكومية والجامعات ومراكز البحوث والمنظمات المجتمعية واعتمدت هذه الشبكة  أسلوب التعلم المباشر والتعلم عبر الانترنت.

وهذا التجمع من المزارعين والباحثين يهدف لتحقيق الادارة المستدامة لحاجات البيئة للتكيف مع الظروف المتغيرة سواء بخصوص انتشار الفقر أو تدهور الموارد، ويطلق على هذا النهج التعلم التكيفي أو التعلم بالتكيف والذي يستند إلى فرضية أن تعلم المشاركين من تجاربهم يمكنهم من الاستجابة بفعالية أكبر وإتاحة الفرصة لاتخاذ قرارات أفضل فيما يخص إدارة الموارد الطبيعية.

ففي الفلبين على سبيل المثال اشتركت خمس منظمات في برنامج استفاد منه السكان المحليون في إحدى البلدات الجبلية حيث تم تدريب السكان من الفقراء وخاصة النساء باستخدام رسوم توضيحية ووسائل تعليمية بسيطة من البيئة المحيطة كالحجارة وحبات الذرة والجوز والبندق، وتم التدريب على كيفية استخدام الأسمدة وتنسيق أشجار الفاكهة في الحديقة وإنشاء مزارع سمكية وكل هذه التدريبات ساهمت في تحسين انتاجية المحاصيل والماشية ومن ثم أحوال المزارعين المعيشية مما خفف من الضغط على الموارد الطبيعية، وفي مناطق أخرى تم الاعتماد على التعلم الالكتروني حيث يتبادل المتدربون النقاشات والخبرات عبر منتديات مخصصة لذلك.

ويستخلص الكتاب العوامل المساهمة في تحسين عملية التعلم من خلال هذه الشبكة وتتمثل في:

  1. الالتزام المؤسسي من جانب المشاركين والمشرفين على المؤسسات المشاركة في البرنامج.
  2. تكوين الشبكات المحلية والإقليمية من الدارسين في هذا النظام.
  3. مشاركة المعارف والخبرات.
  4. اللقاء بالمدربين وجها لوجه ولو لمرة واحدة.
  5. المشاركة في عملية التعلم أفقيا (بين الباحثين والمتدربين) ورأسيا (بين السياسات المؤسسية والمجتمعات المحلية المشاركة).

التعليم العالي في خدمة التنمية

وإلى الصين يأخذنا النموذج الثالث حيث مبادرة التعليم العالي للتنمية الريفية من خلال تطوير المناهج الدراسية بهدف المساهمة في تطوير وتنفيذ مشروعات مبتكرة في مجال التنمية الريفية وتنمية القدرات بقيادة مجموعات عمل من الجامعة الزراعية الصينية والتي تسعى إلى تعميم هذه المناهج على مستوى الدراسات العليا في الصين، ودعم البحوث في المناطق الريفية واستخدام نتائج البحوث الميدانية كمدخلات لمزيد من التطوير عبر تقديم منح لتشجيع طلاب الدراسا العليا على إجراء هذه البحوث الميدانية، والعمل على إثارة روح المبادرة والقيادة بين هؤلاء الطلاب، وتبادل الخبرات بين الأساتذة والطلاب.

تأتي هذه المبادرة لمواجهة طرق التعليم التقليدية والتلقينية في الجامعات والمعاهد العليا والتي فشلت في إيجاد حلول لمشكلات الفقر والبطالة في المجتمع لانفصال الدراسة عن الواقع، حيث شارك 28 أستاذ من أعضاء هيئة التدريس في هذه المبادرة منذ عام 2008 مع 250 طالب جامعي و50 خريج جامعي و80 طالب مرشح للدكتوراة إضافة إلى خبراء استشاريين في قضايا التنمية الريفية في الصين. وكان الهدف من هذه المبادرة محاولة إشراك الجهات الاجتماعية الفاعلة عبر أربع خطوات:

  1. تحديد أولويات البحوث وتحديد المشكلات والقضايا الرئيسية والفرص المتاحة في المجتمعات المحلية.
  2. تحليل الأسباب الكامنة وراء هذه المشكلات.
  3. اتخاذ الاجراءات اللازمة على المدى القريب والبعيد لحل المشكلات بالاستفادة من الفرص.
  4. الاستفادة من هذه الاجراءات في إدخال أي تعديلات مطلوبة حسب الحاجة.

يكفي للتدليل على أهمية هذه المبادرة الإشارة إلى ما أسهمت به في تحسين أحوال المزارعين الفقراء ففي إحدى الأطروحات للدكتوراة قدم الطالب رسالته عن تلبية احتياجات المرأة من خلال القروض الصغيرة حيث دار الموضوع حول استخدام المزارعين للموارد المالية والتمويل الريفي في قرية شاجيك بمقاطعة يانشي.

وأقام الطالب في القرية خلال فترة الدراسة وساعد أثناءها القرويات على الاستفادة من مشروع القروض الصغيرة الذي كان مقاما في القرية وقد اكتشف الطالب أن كثيرا من النساء ليست لديهن فكرة واضحة عن كيفية عمل المشروع فقدم النصح والمشورة لهن ونتيجة لذلك تضاعف عدد المستفيدات من هذه القروض من 18 إلى 36 إمرأة بقرض يبلغ في المتوسط 2000 يوان (حوالي 290 دولار أمريكي) حيث ارتفع دخل الأسرة لدى 18 إمرأة بحوالي 350 يوان.

وهناك العديد من الأمثلة على أطروحات للماجستير والدكتوراة ساهمت في ترشيد استخدام مياه الري، وفي معاونة المزارعين والمنتجين على تسويق منتجاتهم الزراعية، حيث الانطلاق من تلاحم الطلاب مع مشكلات المجتمع المحلي ومحاولة إيجاد حلول علمية وعملية لها.

 رابط النشر

لا تنس تسجيل إعجابك بصفحة غراس على الفيس بوك

غراس للتنمية المستدامة

ghiras

Amal Khairy researcher

  • Currently 96/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
32 تصويتات / 1411 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2010 بواسطة ghiras

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

128,016