بقلم: أمل خيري

في ظل الأحوال المناخية السيئة في القارة الإفريقية تتزايد حدة الجفاف كلما اقتربنا من الدائرة الاستوائية؛ مما يؤدي إلى تصاعد حدة القحط والجدب، وتناقص موارد المياه العذبة والتي تتسبب في العديد من الصراعات الدموية التي تشهدها دول القارة ومن بينها كينيا ومنطقة الحدود السودانية الصومالية الأوغندية.

وتعد منطقة شمال غرب كينيا من أشد المناطق فقرا وجدبا؛ حيث تنتشر قبائل "توركانا" التي تعد ثالث أكبر القبائل الكينية وثاني أكبر مجموعات الرعاة الرحل، ويتراوح عدد سكانها بين 250.000 إلى 340.000 نسمة، ويتحدث أفرادها اللغة النيلية.

ويتسم مناخ "توركانا" بصفة عامة بالقحط والجفاف معظم شهور السنة، إضافة إلى تعرض المنطقة للفيضانات، لذا فإن النشاط الأساسي للسكان يعتمد على رعي الأبقار التي يتم جلب المياه لها من بعض الآبار الواقعة على مرتفعات شيرانجاي والتي تبعد عن منطقة توركانا بأكثر من 200 كم، وهذه الآبار تتغذى على بعض الأنهار الموسمية على طول الحدود مع أوغندا.

صراع من أجل المياه

 

 

وبنظرة للقبائل المنتشرة على حدود جنوب السودان وشمال أوغندا وشمال غرب كينيا نجد تشاركا بين هذه القبائل في الظروف القاحلة، وفي النشاط الاقتصادي، وفي التنافس على مياه الآبار المحدودة؛ مما أشعل حدة الصراعات بين هذه القبائل على الموارد المائية المتاحة، وأخذت هذه الصراعات شكل السرقة المسلحة للماشية، والغارات المنظمة على القبائل المجاورة، وإطلاق النار على الرعاة بالقرب من الآبار.

 ونظرا لتوافر الأسلحة في أيدي الرعاة والمنافسة على الموارد المحدودة فقد عانت هذه المنطقة من الصراعات الدامية التي نجم عنها تشريد ما لا يقل عن 42.000 نسمة يمثل النساء والأطفال منهم نسبة 70%، إضافة إلى تزايد حدة ترمل النساء، وتعرضهن للاغتصاب، وكذلك انتشار عمالة الأطفال الذين فقدوا ذويهم، كما ازدادت معدلات الإصابة بسوء التغذية والأمراض زيادة ملحوظة بين النساء والأمهات المرضعات وصغار الأطفال، وحسب تقرير اليونيسيف فإن "معدل الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في هذه المنطقة قد ارتفع، كما يبلغ معدل الإصابة بسوء التغذية الحاد 20%، وهو ما يتجاوز المعدل الحرج الذي حددته منظمة الصحة العالمية، وهو 15 %".

ونظرا لتعرض منطقة توركانا للجفاف المستمر على مدى السنوات الثلاث الماضية فقد أدى الضغط على الموارد إلى زيادة حدة الصراعات والقتل والتشريد؛ ومن ثم فقد تبنت منظمة practical action"" حملة لدعم سكان المنطقة بهدف العمل على إنقاذ أرواح الآلاف من خلال مشروع أطلقته لحفر المزيد من الآبار الضحلة في المنطقة بتقنيات رخيصة وبسيطة يمكنها أن تحدث فرقا هائلا لهؤلاء السكان.

حلول أكثر بساطة

ففي حين يدعو البعض لحلول معقدة لمشكلات أكثر تعقيدا فإن تقنية حفر الآبار الضحلة "Shallow Wells" تعد حلا بسيطا لإنقاذ الأرواح خاصة من النساء اللاتي يضطرهن الجفاف إلى الذهاب في رحلة طويلة وشاقة لجلب المياه للشرب وللماشية قد لا تقل عن 15 كيلومترا تقطعها المرأة وحدها تاركة أطفالها مع زوجها الذي يضطر هو أيضا للبقاء لحماية الماشية من الغارات المسلحة، فتقع المرأة بين نارين إما أن تستمر في رحلتها التي تعلم أنها قد تتعرض فيها للقتل، أو تبقى مع الأطفال والماشية ويذهب زوجها لجلب الماء فتتعرض للهجمات المسلحة التي قد تنتهي بقتلها وأطفالها وسرقة الماشية.

وفي كلتا الحالتين لا ينتج سوى المزيد من القتل والتشريد، لذا فإن اعتماد تقنية حفر الآبار الضحلة داخل حدود المنطقة تحقق العديد من المزايا من أهمها:

1. تحقيق الأمن للسكان، والحفاظ على الأرواح وتجنيب النساء مشقة الرحلة الدموية اليومية لجلب المياه.

2. زيادة كميات المياه اللازمة للشرب والغسل والطبخ ورعي الماشية مما يعني القضاء على الجوع والفقر.

3. توافر المياه النظيفة والخالية من التلوث التي تعني الوقاية من الأمراض.

استخراج المياه الجوفية

والمياه الجوفية هي المياه الموجودة تحت سطح الأرض والمخزونة في مسام الصخور المختلفة، وتوجد عادة في صخور ذات مسامية ونفاذية عالية، وتعرف باسم "الصخور الخازنة" التي تحتوي على كمية محدودة من المياه في منطقة معينة تسمى "خزان المياه الأرضية"، وصفة "المسامية" Porosity من الصفات المميزة لبعض الصخور، وتتمثل في حجم الفراغات الموجودة في الكتلة الصخرية منسوبا للحجم الفعلي للكتلة الصخرية، أما صفة "النفاذية" Permeability فتعني قابلية الصخر لإمرار الماء بين حبيباته، ويعرف السطح العلوي للماء المتخلل في الصخور باسم مستوى المياه الجوفي Water table.

وتعد الآبار Wells من أكثر الطرق شيوعا في الحصول على المياه الجوفية، وتنقسم الآبار حسب عمقها إلى آبار ضحلة وآبار عميقة.

"فالآبار الضحلة" Shallow Wells هي الآبار التي لا يزيد عمقها عن 30 مترا ولا تحتاج إلى تقنيات هائلة لحفرها واستخراج المياه منها، وتبطن جوانبها غالبا بالحصى والخرسانة، إلا أن من عيوب هذا النوع من الآبار أن كمية المياه التي تستخرج منها قليلة لا تكفي إلا للاستخدام المحلي في الشرب والرعي، ولكنها لا تصلح للزراعة، كما أنها أكثر عرضة للتلوث.

أما "الآبار العميقة" Deep Wells فهي آبار يزداد عمقها ليصل في بعض الأحيان إلى بضع مئات من الأمتار، ونظرا لهذا العمق فهي أكثر نقاء وأقل عرضة للتلوث، وكميات المياه المستخرجة منها أكبر بكثير ولكنها مكلفة في حفرها واستخراج المياه منها، وتحتاج لآلات حفر باهظة الثمن.

وتعتمد مبادرة ""practical action على حفر المزيد من الآبار الضحلة قليلة التكلفة لمساعدة السكان المحليين على توفير مصادر مياه نقية من خلال تغييرات بسيطة في تصميم وحفر الآبار التقليدية؛ مما يجعلها أكثر أمنا ونقاء حيث إن الآبار التقليدية التي تحفر يدويا تتعرض للجفاف المستمر، كما تتعرض للتلوث إما من المخلفات الحيوانية أو البشرية، لذا فإن حفر الآبار الجديدة يعد حلا أكثر دواما وأمنا صحيا.

الآبار الضحلة

 وتتمثل خطوة البداية في حفر بئر بآلات يدوية بسيطة، وإحاطة البئر بجدار من الخرسانة المسلحة، ثم تغطية فتحة البئر بغطاء معدني لمنع تسرب الملوثات للمياه، ويساعد حفر العديد من الآبار المتجاورة داخل القرى على الحد من الصراعات على المياه، وتجنيب النساء مشقة رحلة اللاعودة من أجل جلب المياه، وتعتمد طريقة استخراج المياه على الوسائل البدائية كالدلو والحبل والصفائح المعدنية المصنوعة من الحديد المجلفن، ويبلغ عمر البئر الافتراضي 15 عاما.

ومع ذلك يرى البعض أن الآبار الضحلة قد تؤدي لإصابة البشر بالتسمم نتيجة انتشار البكتيريا والميكروبات المسببة للعديد من الأمراض مثل الكوليرا والتيفود والتهاب الكبد الوبائي والإسهال وغيرها من الأمراض نتيجة قرب طبقات المياه الجوفية في هذه الآبار من سطح الأرض مما يعرضها للملوثات الحيوانية والكيميائية، كما أن هطول الأمطار بالقرب من هذه الآبار يمكن أن ينقل المياه السطحية الملوثة إلى البئر، لذا يجب الحرص على تصميم البئر الضحلة بمواصفات صحية وآمنة، وأهم هذه المواصفات تتمثل في:

1. اختيار مكان لحفر البئر يبعد عن مصادر التلوث بما لا يقل عن100 قدم من جميع الاتجاهات، مع وجود انحدار من جهة فتحة البئر لمنع تسرب مياه الأمطار إليها.

2. التأكد من نفاذية الصخور في التربة المختارة للحفر لضمان تنقية المياه وترشيحها أثناء مرورها خلال الصخور إلى البئر.

3. ضمان ارتفاع مستوى الماء الجوفي في البئر المحفورة عن مستوى الماء الجوفي في الأماكن المحتوية على مياه ملوثة.

4. تغطية البئر بشبكة محكمة من الصلب أو الفولاذ متصلة بأنبوب للصرف في قمة الغطاء.

5. إحاطة البئر من الداخل بجدار مدعوم بطبقة من الأسمنت أو الخرسانة المسلحة بسمك لا يقل عن 2 بوصة ولعمق لا يقل عن 18 قدما.

6. توفير حماية من قبل زعماء العشائر والقبائل للبئر لمنع السكان المحليين من إلقاء المخلفات في البئر.

7. قيام الجهات الصحية بعمليات تطهير مستمرة للبئر، وإضافة الكلور بنسب صحيحة، وغسل جدران البئر دوريا.

8. أخذ عينات من مياه البئر وتحليلها كل فترة للتأكد من خلوها من التلوث.

وعند الأخذ بكل هذه الاحتياطات يمكن توفير المزيد من المياه الصحية والآمنة لسكان القرى، وإنقاذ أرواح الآلاف من البشر والماشية، والمساهمة في القضاء على الفقر والجوع والمرض والتشريد والقتل وهي تجربة جديرة بالدراسة والدعم.

وهذه المبادرة ليست الأولى من نوعها؛ فقد قدمت مؤسسة Life water مبادرة سابقة لمساعدة السكان المحليين في العديد من مناطق الجفاف على حفر الآبار الضحلة بمشاركة المجتمع المحلي، كما قامت المؤسسة الدولية للتنمية والإغاثة IDRF بمشروع حفر الآبار الضحلة في الصومال، وتكررت التجارب في زامبيا ومالاوي وغيرها من الدول الإفريقية والتي ساعدت على إنقاذ حياة الآلاف من العطش بجهود السكان المحليين أنفسهم.

____________ هوامش ومصادر:

موقع practical action وهو مؤسسة خيرية تنموية تهدف للمساعدة في القضاء على الفقر في البلدان النامية من خلال تطوير واستخدام التكنولوجيا البسيطة ،وحث الفقراء على مساعدة أنفسهم بأنفسهم.
موقع منظمة اليونيسيف
تقرير السودان الصادر عن مشروع التقييم الأساسي للأمن البشري HSBA ، العدد 8 ، سبتمبر 2007
تقرير "Conflict in Northern Kenya" الصادر عن : Intermediate Technology Development Group (ITDG)  ، أكتوبر 2003


باحثة اقتصادية  

لا تنس تسجيل إعجابك بصفحة غراس على الفيس بوك

غراس للتنمية المستدامة

ghiras

Amal Khairy researcher

  • Currently 118/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
39 تصويتات / 1884 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2010 بواسطة ghiras

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

128,005