الفن والجمال فى الإسلام
: معجزة الإسلام الخالدة التي تحدى بها رسوله صلى الله عليه وسلم قريشا الذين وصلوا في البلاعة غايتها القصوى وفي الفصاحة حدها الأعلى حيث وصفهم محمود محمد شاكر بأنهم "كانوا عبدة بيان قبل أن يكونوا عبدة أوثان" هي معجزة القرآن الكريم بأسلوبه الساحر ونظمه الفريد المباين لكلام البشر ما يدخل تحت طاقتهم، و القرآن الكريم وإن انطوى على جوانب لا حصر لها من الإعجاز يكشف الزمن في كل حقبة منه عن جانب منها إلا أن جانب الأعجاز الفني منه هو الذي تحدى الله به قريش والبشرية جمعاء { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} .
فما هي حقيقة الفن؟ وما هو جوهره؟ وما موقف الإسلام منه؟
تعريف الفن
قد يكون من الصعب على الباحث أن يقدم تعريفا دقيقا للفن؛ لسعة مجاله، وسرعة تطور حركته من جهة، ولتعدد المدارس الفنية من جهة أخرى. ولكن لابد من محاولة إعطاء تعريف يجلي حقيقة الفن ويقرب فهمه إلى ذهن القارئ.
الفن هو: تعبير عن الجمال يمتاز بالتنظيم والتوازن المحكمين، وهذا التعبير يمثل استجابة وتجسيدا من الفنان لما ينفعل به انفعالا وجدانيا عميقا، فالفن على رأي الفيلسوف "جود": "هو النافذة التي يمكن أن نطل منها على حقيقة الجمال". وهذا ليس تعريفا لحقيقة الفن، وإنما هو بيان لوظيفته. وهو على رأي "محمد قطب": "محاولة البشر لتصوير حقائق الوجود وانعكاسها في نفوسهم في صورة موجبة جميلة".
ولكن الفن أوسع مجالا من تعريف محمد قطب؛ لأنه لا يقتصر على تصوير حقائق الوجود فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تجسيد انفعالات الفنان نفسه، والتعبير عن مشاعره وتصوراته وأحاسيسه، سواء أكانت صدى لحقائق الوجود، أم تعبيرا عن رؤى خيالية تجول في ذهن الفنان، وليس لها أي وجود في الخارج.
وأما الفنان فقد عرفه "محمد قطب" بأنه "شخص موهوب ذو حساسية خاصة تستطيع أن تلتقط الإيقاعات الخفية التي لا يدركها الناس العاديون، وذو قدرة تعبيرية خاصة على تحويل هذه الإيقاعات إلى لون من الأداء الجميل، يثير في النفس الانفعال ويحرك فيها حاسة الجمال". وما دامت هذه حقيقة الفن وذك جوهره؛ فإنه من المستحيل أن يحاربه الإسلام أو يعاديه؛ لأن الإسلام دين الفطرة السلمية التي تنجذب إلى الكون متناغمة معه، وإلى الوجود مستأنسة به، مستبطنة كل معاني الجمال، جامعة لجميع أشتاته في الكون والنفس، مؤلفة من ذلك نسقا متجانسا، يتواءم مع الوجود الذي أبدعه الباري جل وعلا. فالإسلام لا يحارب الفن ولا يعادي الجمال؛ لأنه ـ الإسلام ـ الدين الحق الذي أنزله خالق الكون ومصوره، وقد بلغ الإسلام المنتهى في الكمال، وتجاوز المدى في الحسن، وبلغ نهاية الإعجاز في الجمال، شكلا وجوهرا.
وقد أشاد الإسلام بالجمال ونوه به في مواضع متعددة من القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، فورد في الحديث النبوي الشريف: "إن الله جميل يحب الجمال". وقد خلق الله الكون في قمة الجمال، وجعل الإنسان خليفته في الأرض، وخلقه في أحسن تقويم، قال تعالى: [لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] (التين 4)، وبث في الكون من آيات الجمال الباهرة ما يسبي الألباب ويدهش العقول، قال تعالى: [أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ] (الغاشية 18،17)، ودعا الناس إلى تأمل جمال السماء الدنيا فقال: [إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ] (الصافات 6)، [وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ] (الحجر 16). ولفت أنظار أبصار بني آدم وبصائرهم إلى جمال الأنعام التي يرونها بكرة وعشيا، ويتمتعون بها، فقال: [وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ] (النحل6). وأمر المؤمن أن يلتزم السلوك الجميل فقال: [فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ] (الحجر85)، وغرس حب الجمال في أعماق الإنسان؛ حتى إنه لينجذب إلى كل الصور الجميلة والمناظر البديعة، ويشعر وكأنه يعرفها منذ زمن بعيد. وهذا الانجذاب إلى الجمال هو الذي يمنح المرء الاستعداد لإدراك الجمال في أسمى صوره وأبين معانيه، وهو جمال الله تعالى، وجمال دينه، والاستقامة على هديه.
موقف الإسلام من الفن
إن الفن لا يعدو كونه محاولة للتعبير عن هذا الجمال والحسن الذي يتراءى في أرجاء الكون، وينبعث من داخل كل صورة في الوجود، فيبهر الإنسان ويغمر وجدانه بالإحساس بوجود وشائج نسب خفية وأواصر تناسب عميقة بينه وبين هذا الجمال، إلى حد الرغبة في الالتحام به أو الذوبان فيه، فقد ينسى الإنسان نفسه وهو يتملى جمالا أخاذا، يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ: ''الدين والفن صنوان في أعماق النفس وقرارة الحس''.
وقد يقال بأن هذا الحكم لا يقبل على إطلاقه، وأنه لابد من تقييده بأن الفن الذي يلتقي مع الدين هو: الفن الذي يقوم على التصوير الإيماني للوجود ـ كما قال محمد قطب ـ ولكن الصحيح أن أي فن لا يصادم العقيدة الإسلامية يمكن أن يلتقي مع الدين في أعماق النفس، كما تلتقي مناظر الطبيعة الجميلة معه.
الفن في الإسلام
لقد وجد فن إسلامي أصيل شمل مجالات واسعة في الحضارة الإسلامية التي ملأ إشعاعها إرجاء العالم أربعة عشر قرنا، وكان فنا متميزا في شكله وجوهره، ينبثق من رحاب المسجد، مستلهما عقيدة الإسلام الصافية، مرتكزا على رؤية عقدية، تحكم صناعته ابتداء، وترسم مساره العام، وتحدد أهدافه الكبرى، من غير أن تلزم الفنان المسلم بصيغة واحدة للتعبير الفني. تحكمه فلسفة إسلامية صارمة تحدد هويته ابتداء وتوجه مساره نحو غايته وهي فلسفة يمكن أن تلحظ في كون الفن الإسلامي - والكلام لمحمد عبد العزيز - ليس مرتبطًا بإطار مرئي دنيوي محدد. وإن وُجِد إطار مرئي فإنه يكون ظاهرًا فقط؛ لأن الباطن يحيل إلى الله المتعالي. فالعمل الفني المجرد في الإسلام يصبح دالا ذا مدلول غيبي؛ حيث يرجع المتلقي إلى غير المجسد وغير المتخيل، وهو الله سبحانه وتعالى، مدبر الكون ومسيره. ويتحقق ذلك بصنع دالٍّ مجازي بصري مرادف لمدلول الكلمة (النص) ".
الفن الإسلامي والمسجد
علاقة الفن الإسلامي بالمسجد علاقة لا انفكاك لها لأنه يحتضن هذه الفنون في حنو حيث العمارة وشكلها الهندسي المتميز والخطوط وعالمها والزخارف المنسابة عبر جدران المسجد وقبابه وهو ما جعل الفيلسوف "روجيه جارودى" يستنتج أن العامل المحرك للفن الإسلامي هو المسجد وفن عمارته، ثم قال مقولته الرائعة: ''إن الفنون في الإسلام تفضي إلى المسجد، والمسجد يفضي إلى الصلاة ''. وهذا يعني أن الفن الإسلامي يجذب الإنسان جذبا إلى الله تعالى، فيتوق إلى عبادته ويستلذ مناجاته؛ رغبة في التخلص من كل عبودية لسواه. إن الفنان المسلم لا يكون فنه أصيلا إلا إذا عاش في رحاب المسجد، ووقف بين يدي الله في إخبات وخشوع، في أوقات الصلاة المكتوبة على الأقل، يتأمل أسرار الوجود، وحقيقة الحياة والموت، ويتلقى إيقاعات لا حد لها، تخاطب العقل والسمع، وتهز القلب والوجدان، وتناجى الروح، وتحث الجسد على التسامي، ففي الصلاة يتساوق جمال الاستقامة مع جلال الخشوع لله، ويتلازم انتظام أجسام المؤمنين في الصفوف مع قوة وحدة قلوبهم، وصفاء أرواحهم، عندما تسمو في معارجها إلى الله تعالى، كلما سجدت لله أو ركعت رغبة أو رهبة، أو محبة وتذللا، أو استمعت إلى القرآن يتلى متدفقا في أسلوبه الآسر، الذي يفيض حسنا ويشع ألقا وسناء، يرشد الحائر، ويهدي الضال، ويأخذ بيد من يستجيب له إلى سعادة الدنيا، ونعيم الآخرة، فيزداد قلبه صفاء، وروحه طهارة، وحسه رهافة، ونفسه فهما للوجود واستعدادا لتقبل الخير والتخلص من جواذب الأرض.
إن الصلاة في المسجد جديرة بأن تمد الفنان المسلم بطاقة متجددة، تدفعه للإبداع والابتكار في عمله الفني، يقول "روجيه جارودي" ـ عن المسلمين الذين يؤدون الصلاة مولين وجوههم شطر مكة المكرمة ـ: "إن هؤلاء جميعا مندمجون في دوائر متراكزة، في هذا الانجذاب الروحي إلى المركز الذي هو البيت العتيق". إن هذا الشعور هو الذي استولى على الفنان المسلم فجعل عمله الفني تجسيدا للأخوة الإسلامية الجامعة.
ساحة النقاش