لا أتذكر أنني خلال مراحل الدراسة النظامية التي مررت بها درستُ في قاعة الدرس مخطوطة واحدة لمصحف من المصاحف القديمة العثمانية أو غيرها . فلم يكن هناك مادة تعنى بهذا على وجه التفصيل في المقررات الدراسية المتخصصة . وفي سنة من السنوات أسند إلي تدريس مادة علوم القرآن لقسم أصول الدين ، وكان المقرر هو التعريف بالرسم العثماني وخصائصه وبعض سماته المشهورة ، دون الخوض في التفاصيل .
إلا أنني توسعت في الموضوع حينها مع الطلاب للإفادة دون أن أطالبهم في الاختبار إلا بالمقرر في كتاب الشيخ مناع القطان رحمه الله . فأحضرت معي صوراً لمخطوطات المصاحف ، وعرضتها للطلاب مع بعض المصاحف المكتوبة بروايات أخرى غير رواية حفص عن عاصم . وقد لمست تفاعلاً من الطلاب أثناء قراءة المخطوطات تلك ، وبعض الملحوظات على هذه الخطوط التي كتب بها المصحف ، وغير ذلك من الفوائد التي عرضت حينها ، وقد رسخت تلك المعلومات في ذهني قبل أذهان الطلاب حتى اليوم .
ومنذ ذلك الوقت وأنا أزور في نفسي طرح موضوع مفصل عن هذا الموضوع في الملتقى ، حتى نتدارسه بيننا ، وما هي الطريقة المثلى لتطبيقه بشكل يتيح للجميع الفائدة والنفع . وقد عجبتُ وأنا أقرأ في ترجمة أحد المستشرقين الخبراء بقراءة خطوط المصاحف القديمة ، والمشقة التي لقيها في أثناء تعلمه هذه الخطوط ، وقد قضى في ذلك زهرة عمره ، وهو الآن فوق الثمانين فيما يظهر ، وكيف كان يمكث في فك الحرف الواحد وقتاً طويلاً ربما يزيد على الأسبوع .
فقلتُ في نفسي : رجل أجنبي على هذا الكتاب وهذه اللغة ، وينفق هذا العمر والجهد الكبير في تعلم هذا الرسم والخطوط ، ونغفل نحن عنه ونحن أولى الناس بتعلمه وتعليمه والتدرب عليه لا يوجد فينا من يقوم بهذا الفن ويحرص عليه وعلى نشره وتعليمه !
وقد عملتُ على بناء مقرر دراسي مركز لتدريس مادة الرسم العثماني ، والتدرب على قراءة مخطوطات المصاحف القديمة بحيث يطرح لطلاب الدراسات العليا في القرآن وعلومه سواء الماجستير أو الدكتوراه . بحيث يكون لمدة ثلاث ساعات في الأسبوع مثلاً ، ويتخرج الطالب بعد فصل دراسي وقد أجاد قراءة مخطوطات المصاحف وفهم أسرارها وخصائصها فهماً عملياً نافعاً ، وإنك لتهتز طرباً وأنت تتأمل في خطوط بعض المصاحف وروعتها ، وتصاب بالدهشة لذلك الإتقان والإبداع في الكتابة والتفنن في الخط العربي البديع .
وأذكر قبل تسع سنوات أنني استعرت مصحفاً مخطوطاً من أحد الأصدقاء كتب في القرن السادس الهجري بخط بديع لم أر أجمل منه ، وكنت من قبل أظن أن كتابة المصاحف وتجليدها قد بلغت في زماننا القمة ، فإذا بذلك المصحف الذي كتب في القرن السادس يفوق من حيث الخط والتجليد والفخامة مصحف المجمع الحالي .
ولو وقفتم على بعض المصاحف المخطوطة لذهلتم لروعتها وجمالها ومدى العناية بها من جميع الجوانب الفنية ، مما يدل على عناية المسلمين بهذا القرآن وحرصهم عليه ، بل إن الخطاطين المبدعين كانوا يتسابقون في كتابة المصاحف والتفنن فيها ، بل كان من وسائل إتقان الخط كتابة المصاحف المتميزة ، ولذلك فإنه لا يصلح لتدريس هذه المادة إلا من أوتي حظاً من البصر بالخط العربي وجمالياته حتى يؤتي تدريس هذه المادة ثماره .
من فوائد تدريس مقرر رسم المصحف :
1- ربط طالب الدراسات القرآنية بتاريخه الإسلامي العلمي في جانبه المتعلق بالخط العربي .
2- معرفة تاريخ الخط العربي وكيف تطور رسمه الإملائي وعلاقته بالرسم العثماني [وللدكتور غانم الحمد بحث قيم في هذا الباب نشر في مجلة المورد ].
3- معرفة الرسم العثماني بشكل عملي دقيق ملموس ، يراه في النماذج الرائعة التي تعرض عليه من بين الآف المصاحف المخطوطة ، وكيف طبقه الخطاطون للمصاحف .
4- معرفة عناية المسلمين بالمصحف من حيث الكتابة والتذهيب والتجليد وغير ذلك.
5- تنمية روح النقد الفني ، والتأمل في أسرار الخط المصحفي لدى الطالب في هذا الجانب العلمي المتعلق بالقرآن الكريم ، وهذا الجانب يمكن الاستفادة فيه من أساتذة فن الخط العربي .
وأختم ببعض الصور لبعض المصاحف المخطوطة ، وأنتظر تعقيباتكم أيها الفضلاء فلعل الله ييسر طرح مثل هذا المقرر ويقوم أحدكم بتدريسه ونحظى بشرف الحضور والاستفادة ، ولعل أستاذنا العزيز الدكتور غانم قدوري الحمد يتفضل بالتعقيب على هذا الموضوع ، فلأبي عبدالله قدم السبق والإجادة في الكتابة في رسم المصحف ، وله أبحاث رائعة استفدت منها في الرسم العثماني نفع الله به ، والمتصدي بعده للحديث في هذا الميدان ، ولو أوتي بلاغة سحبان ، لا يسري إلا على ضوء ناره ، ولا يتعلق إلا بآثار غباره .
الرياض في 22/11/1427هـ
[line]
وهذه مخطوطة للمصحف بخط ابن البواب الخطاط . وتجد خبرها مفصلاً هنا مخطوطات نادرة > مصاحف شريفة .
نشرت فى 27 ديسمبر 2009
بواسطة gamalelkhatelarabie
ساحة النقاش