سمعنا في المدرسة شعر ما قبل الإسلام ثم الفترة العباسية وأخيراً الشعر الأندلسي وشعر المعاصرين. إنها تركة ثرية من الصياغة الشعرية للكلمات، على قدر كبير من الجمال. ما قبل الإسلام وفي الصحراء سجل الشعراء تاريخ القبيلة وأصل العائلة والمآثر والمعارك في شعرهم. وهكذا كان الشاعر في ذلك الوقت يمثل ذاكرة القبيلة. وكانت عندهم شاعرات كثيرات أيضا، مثلا هذه "بنت لقيط بن زراره" تقول: إن في الشعر بعض العوض ومسح المضض ، إنْ فرحنا أنشدناه وإنْ ترحنا رددناه ونحن أهل البادية نلقى العافية في وقع القافية.. أما الشاعرة "سليمى بنت المهلهل"فتقول: لولا الشعر لاحتنوت الأرض لي مثوى، أهون به علي وأحمله ما يثقل في جنبي، فأنا اردده ترديدا ، لا أنافس به غيري ولكني لا انفّس به على فؤاد مكلوم، اردده ترديدا ولا ابغي مزيدا. وكانوا يمتلكون الوقت الكافي لصقل أشعارهم، محاطين بفضاء واسع وهدوء وصفاء يحسدهم عليه سكان المدن. فالشعر لديهم صياغة وضرب من التصوير كما يقول الجاحظ.
الشاعر ككل فنان يبحث عن التجديد لتطوير شعره وإذا مر يوم يدرك فـيه انه لم يتقدم، يهيمن عليه شعور بالغم والحزن لأنه يدرك بوضوح انه يدور في حلقة مفرغة ويعي جيدا أن الجمهور في خارج الحلقة لازال يراقـب وينتظر منه أن يدلهم على الدروب الجديدة. ويعبّر الشاعر الجاهلي ـ والأكيد انه غير جاهل ـ عبيد الأسدي في ذلك الوقت عن صعوبة تأليف البيت الشعري ويشبّه نفسه بمن يسبح في البحر يحاول اصطياد سمكة كبيرة فتفلت من يديه كلما امسكها :
اذا قبضتْ عليه الـكـف حيـنا ً تـناعص تحتـها أي انـتعـاص
وباص ولاص من ملصى ملاص وحوت البحر اسود ذو ملاص
عند قراءة البيتين أكاد اسمع الخليل بن احمد يقول : إن الشعراء هم أمراء الكلام، يصرّفونه أنى شاءوا، وجائز لهم ما لا يجوز لغيرهم .
وما يقوله هنا عبيد الأسدي عن الشعر يمكن أن أقوله اليوم عن الخط فدائما ًما أرى صورا ً في مخيلتي لتكوينات خطية ولكن عندما أريد أن أضع تلك الصورة على الورق، يهرب التكوين ويفلت كسمكة عبيد أو كحفنة رمل في يدي، أتخيل لها شكلا كما لو كانت من الطين فيسقط الرمل من بين أصابعي وبعد لحظات قليلة أجد كفي خاوية من الإبداع الذي تخيلته. ونصوص كهذه عن الشعر تؤكد أنّ الفنون يمكن أن تتعاون فيما بينها وكل فن يمكنه ان يضئ الطريق للآخر، فبعد قراءة هذا الكلام عن صعوبة الولادة الشعرية، أعي أنني لست وحيدا ًفي الترقب للإيحاءات الغائبة ومسكها فأقول لنفسي مهلا.. مهلا! وما علي إلا الاستمرار والصبر وعدم التراجع عن الطريق الفني الذي أسلكـه في مجال الخط الحديث .
وفي العصر العباسي فرض الإبداع الشعري تحولا ًعن الشعر الكلاسيكي عبر أعمال ما لُقِّبوا آنذاك بالشعراء المحدثين الذين ادخلوا تأثيرات الترف والرهافة الآتية من الحضارة المعاشة في المدن الكبرى. كذلك الالتقاء بالحضارات الفارسية والهندية، وعبر الترجمات الإغريقية حيث تعرف الشعراء العرب على النصوص الفلسفـية القديمة لهذه الحضارة فـدخلت في مواضيع أشعارهم ولكن شعـراء ذلك الزمن كانوا فنانين قبـل كل شي ويبذلون الجهد في صياغة البيت الشعري. قيل لبشار بن برد: لماذا فقتَ أهل عمرك وسبقتَ أهل عصرك، في حسن معاني الشعر وتهذيب ألفاظه ؟
فقال: لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي ويناجيني به طبعي، ويبعثه لي فكري، ونظرت إلى مغارس الفطن، ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات فسرت إليها بفهم جيد وغريزة قوية، فأحكمت سبرها، وانتقيت حرها وكشفت عن حقائقها ، واحترزت من متكلفها. ولا والله ما ملك قيادي قط الإعجاب بشيء مما أتي به .
بعد الفترة العباسية استمر الإبداع الشعري في الأندلس، فقد أضاف شعراء الأندلس مرح الحياة وخفتها في تركيبة البيت الشعري، وخففوا الإلقاء الشعري بالاتجاه نحو الغناء بإدخال كلمات عامية شعبية وكلمات إسبانية .
* * *
منذ السنوات الأولى في المدرسة الابتدائية ثم المتوسطة كنت أشعر بميولي نحو الخط بعفوية وسهولة، واصبح الخط جزءً من شخصيتي. إعجاب الآخرين وثناؤهم كان مصدر قوة داخلية لي، كنت بحاجة ماسة له، فكنت أسعى لتطوير خطي منتظرا ً من الآخرين مزيدا من الإطراء. بعد ذلك ساورني هاجس داخلي آخر، انه سراب الصور، أردت أن أكون فناناً تشكيلياً يرسم ويلوّن الأشخاص. وبقيتُ على هذه الحال لسنوات طويلة أمارس الخط والرسم، وعندما اضطرتني ظروف المعيشة لان أعمل لبضعة سنوات في مجال اللوحات التجارية والإعلان، فكنت إلى جانب الخط ارسم الساعات والمكائن وألونها ...الخ
ولكن انتقالي إلى باريس ودخولي المعهد العالي للفنون الجميلة ـ البوزار ـ وبعد خمس سنوات من ممارسة واسعة لرسم وتلوين الأشكـال البشرية، أدركت جيدا أن هذا الطريق لا يلبي رغباتي الذاتية ولا يمنحني القوة الداخلية التي ابحث عنها، فعدت للخط ومزجته تدريجيا بلوحاتي، واعتقدت أنّ مشكلة الصورة قـد حُلت. لكن الخط كان أقوى وشغل حيزا أكبر في عملي الفني فيما بعد. الحقيقة هي اكثر تعقيدا من ذلك، وبلا وعي اكتشفت تدريجيا تسرّب الصورة كخلفية لخطوطي، فرغم أن أعمالي الفنية كلها من الحروف والكلمات إلا أن الصورة لم تغادر لوحاتي وصارت كالسراب خلفية لكل خطوطي. الكلمات لم تعد كلمات فقط لأنني أعيد تشكيلها وبناءها من جديد لتتوافق مع النص الشعري وصوره، وهكذا وجدت نفسي اعمل صورا من نوع آخر...صور هياكل هندسية فيها حركات موسيقية أو معمارية البناء، وعلى ضوء الآلام أو الأفراح التي تختلج في روحي لحظة الخط، فتكتسب الحروف طاقات تعبيرية، تجعل المشاهد في غنى عن قراءة الكلمات أحياناً إذ تُفصح الحركات عن معناها وتعطي دلائل عن أشياء يفسرها المشاهد كما يرغب، فإن كان القلب مثقلا ًبالأسى جاءت الخطوط سوداء داكنة وتحولت الحروف إلى ما يشبه الأحجار المتراكمة على بعضها فنشعر بثقلها، ونرى تقلص الفضاء الذي أغلق الفراغات. و إذا كان القلب يخفق فرحا ً تحولت الخطوط إلى ما يشبه الأغصان الرهيفة ترقص في هبة نسيم، مزهرة، مثمرة تعشقها الطيور المغردة. وهذا أسلوب يخرج عن تقاليد الخط العربي التقليدي الذي لم يكن يسمح لمشاعر الخطاط بالظهور عبر الخطوط. لو أردنا تطبيق الأدبيات القديمة والقواعد بحذافيرها وهي أن الخط العربي رغم طابعه الفني يبقى دائماً كلمات تحتاج القراءة قبل كل شيء لفهم المعنى .
في ربيع عام 1972 عرض علي الممثل الفرنسي المستعرب كي جاكه أن أساهم بحفلات وأن اخط أمام الجمهور على جهاز يعكس الخط لحظة ولادته على شاشة كبيرة، بينما هو يلقي الشعر بالعربية والفرنسية. ثم انضم إلينا فيما بعد الموسيقي العراقي فوزي العائدي . عملنا فرقة تتجول في مدن فرنسا وبعض الدول الأوربية لعمل أمسيات شعـرية وموسيـقية يرافقها الخط، وهنا تمازجت خطوطي مع صوت الممثل وتناغمت مع الموسيقى. وخلال سنوات من الأمسيات الحية مع كل ما تحمله ممارسة الخط أمام الجمهور من متاعب ومن مكاسب، فان الخط تحت تأثيرات الموسيقى لم يعد الخط الذي أخطه عندما أكون وحيدا ً في مرسمي، وسماع صوت الممثل من صعود وهبوط واستمرارية وتوقف وإسراع وبطء أخذ يقود مشاعري ويدي، فأصبح الخط تعبيريا وهو لم يكن كذلك من قبل قط، والكلمة ذاتها يمكن أن تكون عندي منفتحة هنا ومغلقة هناك ولا ذنب لها سوى أنها جاورت الفرح تارة و الألم أخرى.
إن تلك الأمسيات الحية أمام الجمهور والتي استمرت لأكثر من اثنتي عشر عاما ً تطلبت منا البحث عن أجمل النصوص الشعرية والتي تحافظ على معناها والقسم الأكبر من نغمها عند الترجمة إلى اللغة الفرنسية، وكنا نضيف في كل شهر شعرا ً جديدا ً أو نبدل شعرا ً بآخر .
إن هذا التجديد في الشعر تطلب مني التجديد في الخط أيضا، كما تطلب تبسيط التكوينات الخطية لإنجازها بأسرع وقت ممكن، لأخذ نفس الوقت الذي يستغرقه القول للممثل و العزف للموسيقي وتدريجياً كنت ادفع الخط العربي للمشي بسرعة تفوق سرعته الاعتيادية. وكنت أتمرن كثيراً قبل كل لقاء، فأعمل تمرينات عبر خط شكل الكلمة عدة مرات بتخطيطات سريعة، واحفظ عن ظهر قلب الشكل الأفضل، ولكن لحظة الخط أحاول نسيان كل شئ وانتظر الإيحاءات من الموسيقى وصوت الممثل والشعر. والنتيجة دائماً تكون ولادة أخرى قاعدتها ما حفظته عن ظهر قلب ولكن بحيوية جديدة آتية من أجواء الحفلة. كلمات راقصة وأخرى ثابتة لا تتحرك، كلمات تتوسع وأخرى تتضاءل، أقلص كلمة لتتسع أخرى... وكما قال إبراهيم ابن العباس الصولي: وربما طغى القلم فوصل منفصلا ً وفصل متصلا ً.
يستعمل الشاعر الكلمات لخلق صور شعرية، يبتكر لهذه الكلمات تجاورا جديدا بهدف نغم موسيقي مسموع لم يعرف سابقا. الخطاط أيضا يستعمل الكلمات في نغم مرئي ويعمل شبكة هندسية داخل تكوينه الخطي تشابه بحور الشعر. وعندما شعرت بالحاجة لعمل صور غير طبيعية اتجهت بعفوية نحو الشعر استلهم منه الصور، فالصورة الشعرية تبقى من عالم الخيال، تحرر ما هو في ذهن الإنسان من تصورات، وتسمح بحرية التعبير المختلفة للسامع، من شخص لآخر سنجد تفسيرات مختلفة لنفس البيت الشعري.
كهذا البيت الشعري لبدر شاكر السياب:
عيناك غابتا نخيل ساعة السهر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
وهكذا عندما لا أجد الإيحاءات لعمل الخطوط، أقرا الشعر، وفجأة تثير مشاعري إحدى العبارات، فاشعر ان أخيلتي بدأت تنشط. فكم هي واسعة صورة الشاعر النابغة الذبياني في هذا البيت:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
إن بضعة كلمات صغيرة يمكنها أن تثري وتكبّر الصور المتخيلة في ذهني وإحساسي، ويمكنها أن تنقلني إلى مكان آخر كالحلم لم أكن اعرفه سابقاً، وتدريجيا تظهر الصور في مخيلتي على شكل كلمات كبيرة كنصب في الفضاء الواسع، فأحاول أن اخط على الورق ما أراه جلياً في ذهني، بواسطة أشكال الحروف وبالألوان على الورق، أحاول عمل هيكل عالٍ.
أفكر أولاً بالمركز والذي يقع دائماً في وسط الورقة، بعد ذلك الخط العمودي والخط الأفقي المتقاطعين في المركز. ثم أفكر بنقطة ارتكاز تدعو كل الحروف لتوجيه ثقلها نحوها، ودائما تقع في أسفل الورقة وأخيرا نقطة هروب في الأعلى تحلم كل الحروف بالطيران من خلالها. هذه الخطوط والنقاط المتعددة الاتجاهات هي جوهر التكوين الخطي الذي اعمله. ودائما ما أفكر بهذه الهندسية البدائية أثناء الخط، وكل الخطوط تخضع لهذه الشبكة الهندسية، ولكن تغير الكلمات وتبدل الألوان والحجم واختلاف السرعة يعطي في النهاية تعددا للأشكال في أعمالي الخطية. بينما تولد من هذه الهندسية في كل الخطوط صورة مشتركة في الانتماء إلى نفس صنف الخط. لان الهدف يبقى واحداً مهما تعددت الأشكال.
وعندما أجد أن الكلمة التي عملتها بالخط العريض كالتمثال التجريدي لا توحي ببناء كامل وتعطي إيحاءً بالسقوط لم أكن ابحث عنه، أضيف كلمات صغيرة أخرى بجانبها لإعطاء القوة المطلوبة للشكل. استعمل كلمات صغيرة لرسم شئ يشبه الأشجار أردت تأكيد مظهر الثبات، وكأشكال الغيوم إن أردت للشكل مظهر الخفة والإقلاع. وهكذا يمكنني أن أضيف استقامة للشكل، أو خلق حركة ديناميكية لإكمال التكوين الخطي. الخط الأكثر نجاحاً بالنسبة لي هو ما يعطي الانطباع لمن يشاهده بأنه اكبر من الورقة المخطوط عليها بكثير . البياض خلف الخط لابد أن يبدو كفضاء واسع بعيد. وان هذا البياض كخلفية للخط لابد أن تكون له قيمة تعبيرية لا تقل أهمية عن الخط نفسه.
أبدأ من درجة الصفر لكل خط جديد، فكل عبارة تفرض إيحاءاتها. ولابد من الاهتمام بمضمونها أي التحسس بما أراد قوله الشاعر وكيف تلفّظ البيت الشعري، ثم إنني أسعى إلى تطوير الشكل ومنحه صورة مغايرة لما فعلته بالأمس.
عند ترحالي المتواصل أرقب من السماء عالمنا المتمثل بكرة سابحة في الفضاء، أتابع كل صباح ما يجري عليها من سلبيات وإيجابيات، فأفكر بالممارسات البشرية بمختلف أنماطها، وهذه بدورها تنعكس على أحاسيسي ومن ثم على الخط فتبدو واضحة في شكله وحركاته.
منذ سنوات اخط ما بين فترة وأخرى أربع كلمات للشاعر بدر شاكر السياب:
يا ليل أين هو العراق؟ ولكن في كل مرة تكون حسب الأحداث السياسية الجارية في العراق وهذه الكلمات أصبحت كإناء اصب فيه مشاعري لتلك اللحظة نفسها. وهكذا تأخذ نفس الكلمات مظاهر متجددة في كل خط.
بينما اخترت للمشاعر العاطفية نحو العراق والذكريات مع الأهل والأصدقاء بيتا من الشعر الأندلسي لابن الحسن مطرف:
أرضعتني العراق ثدي هواها وغزتني بطرفها بغداد
إن الانبهار بالطبيعة وعناصرها كالهواء والنار والماء والأرض يلعب دورا هاما فترى رهافة الخطوط في كلمة النار الصاعدة، أو على العكس في الماء المنساب أو المنهمر. هبة نسيم وغدرها المفاجئ حينما تتحول لعاصفة مدمرة. بينما يقف الحجر بثبات وصلادة غير مبال بما يدور حوله و يعمّر أكثر بكثير من الإنسان. الأشكال البشرية الواقفة والماشية والراكضة، الأشجار وأزهارها وثمارها، الصحراء ورمالها، موجات البحر الهادئة والثائرة تصبح أيضا مبعث تأملات وينابيع صور... فابحث أحيانا في ذاكرتي عن شعر يقابل تلك الصورة المتخيلة.
***
يحاول الشاعر ابتكار تجاور لكلمات لم تلتقِ من قبل والبحث عن أصوات غير معروفة بهدف توسيع عدد الإضافات الجديدة، كذلك الخطاط يقرب الحروف المتشابهة ويجعلها تتداخل فيما بينها ثم يحاول جعل الفضاء ما بين الحروف متناغما قدر المستطاع. إن الخطاط البارع هو القادر على جعل الفراغ المحيط بالحروف يضاهي في جماله الحروف نفسها، فيجذب المشاهد إلى ذلك دون وعي منه في أغلب الأحيان. لابد من التهيؤ داخليا قبل عملية الخط. فان مصدر طاقات الحروف هي نابعة من طاقات الخطاط نفسه، والتركيز على الذات أو أعماق النفس البشرية يمكنه من زيادة الطاقة، وفي كل بداية خط يسعى كل خطاط منح شحنات أكبر من الطاقة داخل حروفه، وكما تولد النار من ضرب حجر بآخر بلمح البصر، فان امتلاك الأشكال داخليا وخطها بسرعة يمكن أن تخلق ما تصنعه الشرارة، إذ تمتزج الصورة الشعرية بالحركة الخطية، وتتحقق معجزة الفن التي لا يعرف أحداً كيف تتم، فيختلط الفكر بعالم الحلم واللاوعي ويكون الخط المتخيل سابقا، مادي المظهر آنياً، عبر الألوان وعلى الورق.
ومجيء هذه الإيحاءات لا يتم بأمر من الخطاط إنما يتم عبر الحالة التي يعيشها وتأثيرها على شخصه بأكمله كجسم وفكر وأحاسيس. فإن استطاع الإقلاع عن العالم المادي المحيط به فانه سوف يكون قادرا على الولوج في العالم اللازمني، آنذاك يمكن لصور الشاعر أن تدخل حركات الخطوط والحروف بسهولة. انهما أي الشاعر والخطاط يلتقيان بنفس الفضاء اللامتناهي. حيث يعود كل شئ هناك إلى عالم الفن. وكل فن ينير الآخر، وبسهولة يمكن أن تتحول الكلمات الشعرية عبر الألوان إلى أشكال خطية شاعرية.
ولكن لابد للخطاط من تقنيات خاصة به، ككل عمل مهني أخر. تحضير أدواته، كقصبات الخط والأخرى المبتكرة، معرفة تحضير أنواع الحبر ووصفاتها، وكل هذا يساهم في اتساع تجربته الفنية ويفتح له أفاقا لا حصر لها.
إن عملية تحضير الألوان تتطلب المعرفة بمصدر المساحيق الملونة والمواد اللاصقة التي تضاف لها كي تثبت على الورق. عملية كيماوية بسيطة لكنها تتطلب الحذر أثناء عملها وإلا تجهض العملية الفنية بأكملها رغم كل الاستعدادت النفسية لها ورغم كل الصور الواضحة في الذهن.
اختيار الورق ومادة الألوان هي أساس العمل الفني وهي التي تؤثر على المشاهد من أول وهلة. لابد من أن يلم كل فنان بتقنياته ويمكن لهذه المواد والألوان أن تعكس نظرتنا للعالم أيضا. فهناك ألوان توحي بالعالم الصناعي وأخرى بالعالم الزراعي، ولا يعني هنا أن أحدها أفضل من الأخر لكن مدى وعينا بالمادة يمكن أن يجعلنا نحسن استخدامها بالمكان المطلوب. ولأن الخط الذي اعمله يتطلب السرعة في الإنجاز، سرعة من اجل عكس عالمي الداخلي الذي أجهله في تلك اللحظة، واقل تردد سيكون مرئيا بسهولة للآخرين، لذا لابد من أن تكون ألواني وكل أدواتي طيّعة ولا تسبب لي المشاكل، فلدي الكثير من المعوقات وأحاول تخطيها للوصول إلى الخطوط الكاملة والتي تعكس توترات قلبي.
عندما يتم كل شئ بخير، ويتم الاتصال بين الرؤى الداخلية وما تقوله الكلمات والألوان والورق، ويحدث الانصهار المرتقب، فان حوارا هاما سيبدأ... حوار بهدف الارتــقــاء .
ساحة النقاش