وهـناك وصفات مبـســـطة لتــحضــير الحــبر الاســـود كهذه الوصفة لأحد الخــطاطين القـــدامى :
" ضـع ورد جـوري في قــدر كبــير ، ثم دعه يغــلي بالــماء الحار ، حــتى ينحل ، ويــقـطر مـنه ماء الورد ، ثــم خــذ البــقــيــة ( الحــثــالة ) او العـصارة على لغـة اهل الصــناعة . ضع فـيها ( حديد صـدء ) فيــتـفاعل معها بالـتأكــسـد ، ويــتـــبدل لون الحـثـــالة الى اســـود ، ثم تجـــفــف هـــذه الحـــثــالة حـتى تكون كالفصـوص، ثم تطـحن جـيدا ً وتـذاب بالمـاء الحار فـــتــكون اســودا ً .
يضــاف الى هـــذا الحــبر ، قـليــل من الصــمغ العـــربي حتى يــلـتــصق الحــبر بالورق عــند الكــتابة ، ولا يســقـط بالنــفــض او النـــفخ ، كذلـك يكتـــسـب الحـبر من الصــمغ لمعــانا ً . "
وهـذه وصـفة قـد يـمة لمـداد من مديـنة الكــوفة :
" تأخـذ قــشــور الـرمان ، تحـرقـه ، وتأخـذ رماده ، تعـجـنه بلـبــن حلــيـب وشـيء من صـمـغ محـلول .
ثـم اجـعـله ا قــراصا ً ، وجــفـفه في الـظل ، فأنه اجـود مايكون من المـداد ."
وعــند الاطلاع على وصفــات الحــبر القــديمة نــجد ان اكثــر الخــطاطــين كانوا يحاولون تحــسـيـن الحــبر بإضــافات جديـــدة ، فهــناك من يحــمص الرز كالقهـوة حتى يصبح اســـود ثم ُيـبرّد ويُــطـحن ويُخـــلط بالصـــمغ ويتـــرك في الـشـمـس لــعــدة ايام ، يضــاف اليه الصـبر لمـنع مجيء الـذباب علـيه، وبعضـهم يضـيف اليه الـسـخام المتجـمع من الشـموع التي تستخدم في حفلات العـرس الكبــيــرة .
خطــاط آخــر يحرق نوى التـــمر ثم يطـــحنها ويضـــيــفها للحــبر. وفي دول المغــرب العــربي ، ولحـــد اليــوم ، في بعـــض المــناطــق يحرقــون بقـــايا خــروف من قــطع جلــد وصــوف وقــرون حتى التـكلــس ، والعجيـنة السـوداء الـتي تــتـكون يكـفـي خلــطها بالــماء لتــكون حبــرا بــنــيا ًجـيدا ً، يــســتــعــمل للوحات الخــشــبــية في الـمـدارس القــرآنــية . وحـتما ً كان هـذا النــوع من الحــبريـســتعــمل في الماضي للخط على جلود الحــيوانات . وكل هــذه الأشـــياء المــخـلوطة في عـمل الحــبر تــتــطلب تصــفيــة ، واحــســن شيء يـســتـعـمل للـتصفـية هـو الـقـماش النــاعـم جدا ً كالحــرير او كالـجوارب النــسـائــية الــناعــمة .
وهـنا يتكلم ابن شهــيد في القـرن 12 عن نـظافـة الحبر والاعـتـناء به :
" انما مدادكم ماء ديــباجتـــكم وصــبغة امانتــكم ، فأســتـنـظفـوه اسـتـضا فـتكم لـملابـسـكم ، وأسـتجـملوه اســتجـمالكم لمـصابغـكم ، وإنـما خطـوطـكم خلـفاء الـسـنـتـكم وخطبـاء عـقـــولكـــم ..."
ابــن الــبواب في القــرن الحادي عــشــر يتــكلم عن الحــبر :
وألـق دواتـك بالـدخان مـدبــرا ً بالــخل او بالحــصــرم المعــصور
وأضــف اليــه مغــرة قــد صـولت مع اصــفر الزرنيــخ والكافــور
حتـى اذا ماخــمــرّت فأعــمــد الى الورق النــقي الـناعــم المـخبـور
ويعتني الخطاطون بالدواة وهـناك اوصـاف مـتعددة لها ويضع أكثر الخطاطين فيها ليقة ، وهـي كمية من خيوط الحرير . وتـسمى ايضا ً طرة . ويمكن كذلك وضع اسفنجة طبيعية تـساعد القلم على اخذ الكمية الملائـمة من الحـبر .
وتوجد نصــوص ادبـــية وأشـــعار كــثـــيرة حول المــحــبرة .
وهــذا النــص يعــود للخــطاط احمــد بن بنــت الاعـــز . اذ انه ترك الدواة لــمدة طــويلة دون ان يخـط لانه لم يحصل على عمل له . وعند عودته للمـحـبرة فـيــجد البــياض قد غـطى الســواد بســـبب التعـــفن فقــال :
تعــطـلــت فأ بيــضت دواتي لحـزنها ومــذ قــل مالي قــل منها مـدادهـا
وللــنـاس من ســـود اللــباس حدادهــم ولكــن مــبــيض الدواة حدادها
وقد عبر الخـطاطون عن مـشاعرهم بأستعارات عن مواد عملهم، وعن المداد ومركباته كما في النـص التـالي :
" قال ابو هـفان الـشــاعر العـباســي ، ســألت خــطاطا ً عن حاله فــقـال : عــيـشـي أضــيق من محــبرة ، وجـســمي أدق من مـســــطرة ، وجاهــي أرق من الزجاج ، ووجهــي عــند الــناس أشـــد من ســواد الحــبر بالزاج ، وحــظي أخــفى من شـــق الــقـلم ، وبدني اضعــف من قصــبة ، وطــعامي أمّر من العــفص ، وشــرابي أحــر من الحــبر ، وســوء الحال ألــزم لي من الصــمغ .
فــقــلت له عــبرت عن بلاء بــبلاء .... "
وكان عـمل الخطاطين في الماضي يقـترب من العـمل الســياسي ايـضا فعـندما أراد ابن المقـفع فـضح الـسـفاح اســتعـمل الحـبر الســري والكــتابة بالحـبر الـســري تـــتم اولا بالكـتـابة بالــمحـلول الــشـفاف المـســتخــلص من العــفص . فـتكون الحــروف غـير مرئية عـند الجفاف. وترسل الرســالة الى الــشــخص الذي يــجــب ان يــقــرأها . فــيــمرر عليــها قــطنة مــبللة بالـمحلول المــكون من الخل والاملاح الـمعــدنــية كما ذكرنا ســابقـا ً بوصــفة الحـبر ، فــتــظهر الكــتابة ســوداء . ويمكن قراءتها .
وهــناك نص قـديم يتــكلم عن هــذه الوصــفة :
" ..إن َقــتل الخلــيــفة ابن المقـــفع ، فأن طريقــتــه الســـرية في تهــريب الكلام الحر انـتــقــلت الى الـقـرامــطة فــحــملوهــا دعــوتــهم الى الثــورة والعــدل .
ثم بلغــت محــمد بن علي فدعا بها الزنوج بــســباخ البــصرة الى كــسر الاغــلال ... وأنــتهى هــذا الحــبر الى اخوان الصفـا فدونوا به رســائلهم الســرية الداعــية الى اســقاط الخلافــة العــباســية المـــتهــرئة .
وكاد المخــبرون والوشــاة يلــقــون الــقــبض على الطريقــة الســرية لاســـتحضـار هــذا الحبر لما داهــموا دار الاديب الــفــيلــســوف ابن الراوندي في الــقرن التــاســع وقــتـلوه ... الا ان احدى معــشــوقات الفــيلــســوف تــمكــنت من اخــفاء الوصفة بيــن نــهديها وهــربت ... وتجوب هــذه الوصـــفة الآن بلاد العـــرب متخـــفــية عن عــيون الســلــــطان ... "
ويعـبرابي بكـر محمـد بن يحـيي عن اهــمـية الحـبر والقــلم بالكــلمات الـتالـية :
" ... فـما رأيـنا مـدادا ً قـبل ذاك دما ً ولا رأيـنا حـساما ً قـبل ذا قصـبا ... "
وقـبل الف سـنة كانت التـقارير السـرية التي ترسـلها المـدن للســلطان ، تـكـتـب من قـبل الخطاط . ولكـنه عـندما كان يـراهـا ظالــمة ، فأنه يكـــتـبها بحــبر رديء كي لاتــقرأ . كما يعـلــمـنا النــص التــالي لاحــمد بن ابراهــيم :
" كان مــشـايخ الكـتــــّــاب وزهـاد العـــمال يخــتارون ان يكون مايــرفــعــونه من جـــماعــاتهـم الى دواويــن الســلطان بخـط غــير جــيد ومداد غــير حالك ، في صحف مظــلمة ، ليثـــقــل على من يرد عــليه من المــتــصـفحين ، فــيـعـدل عـنها الى غــيرها مــما لايــتعــبه ..."
وأخيرا ً ما هي اهــمية تحضــير الحــبر في عــصرنا الحالي ؟
اولا ً: للخطاط المهني ضرورة لابد مـنها لتحسـين خطه ، واضفاء الاناقــة لأشــكال حروفه .
ثـانـيا ً: ان هــذه المعـرفة ســوف تعــطي الخطــاط ( او الفــنان التــشـكـيلي ) الحـرية لتحضــير الالوان حـسـب المــواد المتــوفرة بالـمكان الذي يتواجد فيه ، فأن وصفات الحــبر الاســود هي الــقاعدة الــتي يمكن ان تطــبق لتحضـير بقـية الالوان ، وذلك بتــبديل الســخام الاســود بمــســـحوق ناعــم ملون آخـر .
لتحضــير لون ترابي مثلا ً يكــفي عــند التــجول في الريف اخذ طين غامـق اللون من الارض ومن الافـضل ان يمــيل لونه للـصفرة او للـحمرة . وثم خلــطه بالـماء في اناء كـبـيــر ، وتركه يــترســب لمدة قــليــلة ، ثم اخــذ الماء الخابط في اناء آخر وتركه في الشـمــس حتى يجــف ، وما ســوف يترســب في قعــر الاناء من قــشــرة ملونة ، تطحن لكي تصــير ناعــمة جدا ًوهــذا هــو المــســحوق الـملون الذي يــسـتــعـمله كل الفـنــانيــين للحصـول على الالوان التــرابـية . وتطبق عليه نفــس وصــفة الحبــر الاســود .
وإن أردنا لونا ً كثـــيفا ً فيـجب خلط المـسحوق الملون مع قـليل من الـماء ، حتى يصبح كالمـعجون ، وثم يضاف اليه الصمغ لكي يثــبت على الورق عند اســـتعــماله .
وهكـذا يكون بالامكان انـتاج الوان لا تـشابه الالوان التجارية ان كان المتوفر منها رديــئا، وكذلك يمكن ايضا ً تحـســين الالوان المــباعة بخلــطها بمواد نــبــيلة كالمــسـحوق التــرابي الذي عــملناه . فالاحبارالصــناعية ذات الوان فاقــعة وفـقـــيرة ، وبمجرد خلطها بمــســحوق ملون جــيد فــســوف تكون اكثـــر نــبلا ً وأكـــثر ثراء ً .
ساحة النقاش