إن الخط العربي كسائرالفنون الأخرى شاهد على زمانه. فهو يرينا بوضوح فترات الحركة أو الجمود في المجتمع الذي ولد فيه. فكلما كثر الإبداع في زمن ما، عكستالأعمال الفنية روح وجوهر المجتمع وحيويته في ذلك الزمن. وكلما ركدت الفنون ولم تعد سوى تقيلد لما سبقها، فأنها تسجل بذلك مرحلة تخلف وجمود المجتمع في تلك الفترة .
إن ما يمكن الحديث عنه هنا هو مظهر التكوين في الخط العربي ، أما الجوهري فلا يمكن التحدث عنه بالكلمات، لأن تحسـسه يكمن بتذوقنا له.
ابتدأ الإبداع في الخط العربي في حوالي القرن التاسع الميلادي . واستمر حتى زمننا الحالي في مسيرة مد وجزراستمرت لاكثر من ألف سنة من الابتكار واعادة الخلق لنفس الألفباء .
وقد ترك لنا أجيال الخطاطين من القرون الماضية آلاف الخطوط في الكتب وعلى الجدران . ولكن إبداع الخطاط في كل الأوقات احتاج للتشجيع المادي والمعنوي من قبل الجمهور والمؤسسات الفنية . وعندما ينفقد التشجيع فلا يوجد إبداع وإنما التقليد للماضي يظل مهيمناً، أي المراوحة بنفس المكان، رغم أن عجلة الزمن تدور .
في اكثر الأوقات يصطدم المبدعون بعدم الفهم من المجتمع. وما يجذب انتباهنا هو أننا نرى اليوم في بعض الخطوط القديمة قيمة عالية جداً، ونعتبره غاية في الجمال، ولكن ربما لم يكن كذلك في زمن ولادته، إن الإبداع يكون دائما ً غير معروف مسبقا . بلوينبعث في اغلب الأحيان من أماكن مجهولة.
ولكن ما هو أكيد ومعروف أن الإبداع كان يأتي دائما ً في زمن تشرّع فيه كل الأبواب أمام الفنانين دون رقابة ودون توجيه صارم .
يزدهرالإبداع في زمن يتولى فيه الدفاع عن الطليعة الفنية بعض المثقفين أو المتنورين . كقول الشاعر طاغور : " إن تغلقوا أبوابكم أمام كل الأخطاء فأن الحقيقة ستبقى خارجا ً " ... فلابد للفن من حريات واسعة .
وهناك حكيم آخر قال نفس الفكرة ولكن بعبارة أخرى : " اتركوا في حديقتكم مكانا ً للأعشاب الرديئة . " اكتب هذين العبارتين للقول مرة أخرى انه لا إبداع دون حرية تعبير فني تفسح المجال لكل التيارات . وتشجع كل التيارات حتى لو كانت كالأعشاب الرديئة ...فأن البعض يحكم على الفن انطلاقا ً من فن الماضي فقط ويقارن الأعمال الفنية لهذا العصر بما تحويه المتاحف من روائع ونرى هذه الظاهرة كثيرا ًعند الذين يحكمون على الخط العربي وجودته مقارنة بخطوط الماضي . أو بالأحرى مقارنته بخطوط القرن التاسع عشر ، ومع احترامنا للماضي فاننا لا نريد العيش فيه . أعيدهنا ما قاله كونفسيوس " من لا يتقدم كل يوم يتراجع كل يوم . " إذ لا يمكن اليوم معرفة ما هو فن اليوم بشكل مسبق . فن اليوم وخط اليوم هو ما يمارسه الخطاطون والفنانون الذين يعيشون بيننا. وبعد مرور الزمن سيبقى الفن الجيد . وهذا هو المهم .
في كل البلدان المتقدمة تعمل المؤسسات الثقافية على جعل نصف جهودها يحفظ الماضي ونصف يبحث عن الجديد . وهكذا يولد الحوار مع الماضي وينمو النشاط الذهني والحسي لمن يزور المعارض ولمن يقرأ النقد في وسائل الإعلام
عندما ننظر إلى تركة الخطاطين في الكتب أو على جدران المعالم المعمارية للزمن الماضي . نجد أن هنالك تيارات متعددة في الإبداع الخطي . في فترات زمنية كانت فيها المدن القديمة في تفتح وتفهم للخط وللفن بشكل عام اكثر بكثير من اليوم .
هنالك فترات يكثر فيها الإبداع وأخرى يقل . ولكن ما يلفت النظرإلى خطوط الماضيهو رؤية تكوينات مختلفة وعلى مواد عديدة في المتاحف والبنايات في المدن الإسلامية القديمة. بينما لو ننظر اليوم بشكل عام على مستوى الملايين من البشر في العالم العربي الإسلامي ، لنجد أننا اليوم نمر في اكثر الفترات فقرا ً في الإبداع الخطي . وهذا يعني أننا في حالة ركود على كل المستويات ، فالفنون هي شهادة على المجتمعات التي ولدت فيها ، بخصوبتها أو بانحسارها ...
التكوين في الخط ، هو تجميع كلمات فيما بينها ، بهدف جمالي بحت ، وعلى حساب القراءة للعبارة المخطوطة، اذ تنتهي العبارة متلابسة ومتشابكة وغير مقرأة.
هناك رغبة جمالية في خيال الخطاط تدفعه إلى تغيير مكان الكلمات والحروف ...فيقرب الأحرف المتشابهة ، ويبني تكويناً هندسياً أساسه الحروف العمودية الصاعدة والحروف المستقيمة والمدورة .
إن النظر للتكوين يكون بشكل كلي وليس جزئياً ولا يجب رؤية الكلمات والحروف بشكل منفرد، كما لو ننظر للشجرة ككل ولا ننظر لكل غصن او ورقة كل على حدة .
ومن المفروض أن يعطي شكل التكوين للمشاهد رؤى التوازن والتناغم عبر ثقل وخفة الحروف . وعبر الامتلاء للحروف والفراغ حولها .
يستخدم الخطاط كل مهارته لإيجاد هذا التناغم . فيغير من شكل الحروف . أو يضع حرفا ً في الوسط يفترض أن يكون في آخر الكلمة . فكما هو معروف لكل من يكتب العربية أن الحرف العربي يأخذ أشكالا ً متغيرة إن كان في بداية الكلمة أو في وسطها أو في آخرها . تكون هذه القاعدة غير إجبارية عند الخطاطين وفي لحظات تخيل شكل التكوين . فيلعبون بالحروف كما يرغبون . الهدف الأول هو جمالي ، أي إعطاء المشاهد هندسية جديدة ونغم جديد ما بين أجسام الحروف والفراغان المحيطة بها . فتكون طاقات جديدة تضاف لذاكرة البشر . فأن الجمال عندما يتحسسه الفرد يتحول إلى طاقة يستلمها عبر العمل الفني .
وإذا لا يمكن قراءة العبارة، فان ذلك لا يسبب مشكلة للخطاطين لأن هدفهم من عمل التكوين هو هدف فني قبل كل شيء وليس قراءة النص .
كذلك يستخدم الخطاط كل ما أتيح أجيز له استعماله كتطويل الحروف بشكل أفقي أو عمودي . ووضع مدات ما بين الحروف . وبدء العبارة من الاعلى نحو الأسفل أو العكس من الأسفل نحو الأعلى .
هل أن ذكريات الماضي في فراغ الصحراء والكثبان الرملية الأفقية المتموجة، هي التي دفعت الخطاط نحو التكوين الثابت المبني على الهيكل القائم في الفضاء عاليا ً ؟
* * *
يبتدئ الخطاط بتخيل شكل هندسي ستوضع عليه الحروف . هندسية مبسطة ودون حسابات رياضية . إنما بتقدير الشكل وثقله بالحس . وهذا الهيكل الهندسي الوهمي هو الذي سوف يعطي التوازن والنغم للتكوين . وكذلك سيمنح القوة لتماسك الكلمات .وسيكون هذا الهيكل اللامرئي خلف الحروف . كما يختفي الهيكل العظمي خلف عضلاتنا . وان هذا الهيكل نفسه سبب إعجاب كل من لا يقرا الحرف العربي ، أمام التكوينات الخطية . لان هذه الهندسية البدائية المبسطة هي لغة عالمية . والتوازن الذي تسمح به الهندسة هو مصدر سعادة داخلية .
نجد ذلك في مرونة بعض الأساليب الخطية كأسلوب الثلث التي ساعدت على إنجازالتكوينات ذات الحروف المدورة . بينما استعمل الخط الكوفي للتكوينات ذات الخطوط المستقيمة . وهكذا أن بعض الأساليب تسمح للخطاط اكثر من غيرها بتحقيق رؤاه على الورق .
في البداية يتخيل الخطاط أشكال حروفه بهدف عمل التكوين ، كتمثال كبير من الكلمات ، يقف على الأرض ، ويصعد عاليا في الفضاء .
يفكر الخطاط ويتحسس حروفه الصاعدة والتي ستواجه ضغط الفضاء ، وشدالجاذبية الأرضية . ومهما كان التكوين الخطي صغيرا ً فانه صورة لعالم اكبر . وهكذا تكون الأمور دائما ً في الخط فان ابسط حرف يمثل في ذهن الخطاط عوالم واسعة من الأشكال والمعاني .
يلتزم الخطاط بالأمانة من اصغر حرف إلى نهاية التكوين . ولا يمكن أبدا ً الغش في مجال الخط . فان لم يكن الخطاط على احسن ما يرام . فان ذلك سيبدوا واضحا ً في ضعف الحروف وهشاشة التكوين . إذ انه يلتزم ذهنيا ً وجسميا ًوبكل احساساته في تركيز تام قبل بداية الخط. وان اختل تركيزه بسبب ما واضطرب فسيكون ذلك واضحا ً للعين المتمرسة ، التي سترى خطوطه فيما بعد .
لذلك فان الخطاط يبحث قبل بدء الخط عن جو هادئ . ويبدأ التمرين بخط كل حروف الالفباء للاسلوب الذي سوف يخط فيه ويكررها لساعات طويلة. حتى يشعر تماما ً بكمال قدرته وتمكنه من كل الحروف . يبدأ آنذاك الخط .
إن هذا التمرين لن يكون تقنيا ً فحسب، بل يقود الخطاط إلى أجواء داخلية هادئة وصفاء روحي . ورؤى تعلو إلى السمو . فتتيقظ عنده كل خلايا الجسم . وعلى الرغم من مظهره السكوني الثابت، يبقى عالمه الداخلي في حركة دائبة . إن هذه الأحاسيس الداخلية هي التي تصب في الحروف وتغذيها بالطاقات العالية . فاليد تتحرك ببطيء لكن الفكر والأحاسيس تتخيل الأشكال بسرعة .
عندما يكرر الخطاط عمل الحروف في التمرين فإنما يدفع الذهن إلى الذهاب في أماكن فسيحة واسعة وفارغة . ترتسم فيها بوضوح صور التكوينات المتخيلة و التي يريد خطها . وتدريجيا ً يحتل هذا الفراغ الذي يراه بمخيلته ، الخطوط والتكوينات وصدى العبارات المخطوطة . يتوجه عندذاك بقلمه نحو المحبرة ليخط ما يرى في المخيلة ، فتتحول الورقة إلى شكل المنظر الفسيح الذي تخيله ، يمارس فيه الخطاط حرية التعبير والابتكار بتشكيلات جديدة . تكوينات لم تعرف من قبل . ولكنها على صلة قربى بخطوط الماضي .
يخط الخطاط أولا ً الحروف التي توحي بالثبات . ودائما ً يكون هذا الثبات هو مركز التكوين . ولا ينسى بعد ذلك أن يعطي لبعض الحروف حافزاً للهروب من قلب التكوين . وان كانت هذه الثنائية ناجحة وواضحة للمشاهد فأنها من أهم الأشياء في نجاح التكوين . وقيل قديما ً إن افضل الخط هو ما يبدوا متحركاً رغم أن الحروف ثابتة . وهذا نراه في كل الفنون ، فقد كان الفنان الإيطالي مايكل انجيلو يقول لطلابه: عندما ترسم إنساناً، دع ذراعيه توحيان بحركتيهما بذهاب إحداهما إلى الأمام والأخرى إلى الخلف .
والفنان الصيني يقول لتلميذه: عندما ترسم غيمة اعمل طرفا يوحي بابتلاع شيء ما، وطرفا ً آخر يوحي وكأنه يبصق شيئا ً ما .
ان الحروف التي توحي بالثبات ، هي التي تسمح للحروف المتحركة بالظهور . وهذه العلاقة النسبية تتم في مخيلة المشاهد .
تتشابك الحروف وتتلاقى كفرقة رقص على المسرح تطمح إلى التحليق في الفضاء بحركات رهيفة وقوية . تخاطر بالسقوط، لكنها لا تسقط قط..
كل حرف في التكوين له موقعه ومظهره المتحرك او الثابت . حركات تعبيرية لا يمكن وصفها بالكلمات . يبقى على المشاهد نفسه تحسسها وترجمة جمالياتها الى طاقة فنية... كغذاء فني .
يمكن للخطاط أن يعطي نفس العبارة ونفس الكلمات والحروف لتكوينات متعددة ومختلفة. يعكس فيها مفهومه الجمالي وفلسفته ونظرته للعالم . يمكن أن يكون التكوين منغلقا ً على نفسه، أو متفتحا ً على العالم . يمكنه أيضاً أن يكون واقفا ً، ويمكنه أن يكون راكضا ً.
مهما يكن كبر وصغر التكوين الذي يعمله الخطاط ، فانه يبقى يحتفظ بقوته التعبيرية بسبب الهيكل الهندسي التجريدي الذي فكر به في بداية عمله الخطي .
أما ديناميكية التكوين فتتكون في البداية من اصغر الحروف ، ثم في الكلمات ، وأخيرا ً في التكوين كله .
قوة وديناميكية الحروف آتية من داخل كل حرف . فمثلا لو نأخذ حرف الألف فانه عند الخطاط ليس خطا ً مستقيما ًوهمزة فقط، بل سلسلة من الحركات المتموجةاللامرئية داخل الخط، فأن هذا الحرف الذي يبدو مستقيما ً لأول وهلة انما هو مجموعة حركات معقدة . فيبدأ الحرف من الاعلى بتقعر خفيف غير مرئي لجهة اليمين، ثم تحدب نحو اليسار ، وبعد ذلك ينزل الحرف في استقامة، وقبل ملامسة السطر يميل قليلا ً نحو اليسار . وهذه الفوارق الصغيرة هي الخط نفسه في الأساليب الكلاسيكية ، وان فُقدت فسيكون الخط ضعيفا ً . كذلك يخفي الخطاط في كل حرف مستدير أجزاء صغيرة من خطوط مستقيمة لمنح الحرف قوة تجنب للارتخاء .
إن هذه الحركات الصغيرة والرهيفة . والتي تعلمها الخطاط الناشئ من الخطاطين الكبارالذين سبقوه، هي التي تجعل من خطوطه ثرية التعبير .
هذا ما يخص الحروف . أما ديناميكية الكلمات فإنها تأتى من مقدرة الخطاط بإعادة صياغة ورسم الكلمة في كل مرة من جديد، وهذا ممكن وذلك عبر إعادة الخط لنفس الحروف بشكل أقوى من السابق . أو البحث في المخيلة عن رسوم متعددة لنفس الحروف كي تشغل المكان بشكل افضل. ففي أسلوب الثلث مثلا ً توجد لكل حرف عدة أشكال ابتكرها الخطاطون منذ قرون عديدة .
قبل كل شيء، يتخيل الخطاط الاتجاهات العريضة للتكوين . والمساحة التي سوف يشغلها التكوين : المربع، المستطيل، أو المثلث. أو يجد شكلا ًجديدا ً . ثم يأتي بالحروف ويُسكنها في هذه الفراغات، داخل وحول الهيكل الذي تخيله . وإن بقيت حروف متمردة ترفض الانصياع والمشاركة بالعملية الفنية، فيترك لها مكان صغير، ويخطها بقلم رفيع ، كيلا يؤثر حجمها على المظهر الفني العام للتكوين .
وهكذا فان للخطاط قوة التحكم في مصير حروفه. وهنالك ما تقوله الحروف هي أيضا،فأنها تطيع بعض الخطاطين وليس جميعهم. ولهذا نعجب بخطوط البعض فقط. إنمشاهدة تكوين قوي تهبنا شعوراً بالامتلاء والاطمئنان. على عكس الخطوط الرديئة التي تخلق بداخلنا إحساسا بالقلق .
كانت التكوينات القديمة الجميلة، كأغصان سوداء متشابكة لشجرة محترقة بفعل حرارة الشمس في قلب الصحراء. حروف سوداء عارية كهيكل عظمي على خلفية صافية للفضاء ... تلابست الحروف ولم تعد تقرأ . . . فهدف الخطاط قبل كل شيء هو رؤية جمالية شاملة عبر كل الحروف .
التكوين الخطي يعطي نصف المعلومات للمشاهد، أما النصف المتمم فيبحث عنه المشاهد في نفسه، يبحث عن المعنى محاولا ً القراءة ، ويتخيل في الشكل العام للتكوين أشياء قد تبتعد تماما ً عما تخيل الخطاط. آنذاك يضع حقيقته في العمل الفني ، فيشعر هو نفسه وكأنه مساهم في عمل التكوين. يمكنه أن يشعر هو أيضا ً انه فنان وخلا ّق .
* * *
ابتداء من القرن الرابع عشر الميلادي بدأت تظهر تكوينات تتسم بالجرأة في المعالمالمعمارية في آسيا الوسطى. ثم إيران والعراق ومصر والدولة العثمانية . تكوينات متشابكة لا يستطيع قراءتها أحد ، الهدف منا متعة العين ، والانغمار في التأملات .
تكوينات الخط الكوفي الهندسي التي عملت من الطابوق ، تلغي أهم ما في خط القدماء بسبب نوعية المواد الأولية للبناء . تلغي أهم ما كان معروفا ًفي الخط العربي، ألا وهو النحافة والسمك داخل كل حرف ...
هنا الحرف يكتب بالطابوق فقط وكذلك الفراغ المحيط بالحرف يكون بسمك الطابوق أيضا. انه زمن جديد للخط طبّقته جميع الدول الإسلامية بمعالمها المعمارية. ولم نخسر أي شيء، فالخط الكلاسيكي استمر وتقدم والأساليب الجديدة للقرن الرابع عشر هي الأخرى تطورت. ولو حدث هذا اليوم وفي عصرنا الحالي ، لسمعنا النقد والعويل من المتخلفين الذين لا يريدون أن نتقدم خطوة واحدة .
ففي الوهلة الأولى لا تبدوا أية علاقة بين كوفي المصاحف و بين الكوفي الهندسي.ولكن عند التمعن جيدا نرى بوضوح العلاقة العائلية المتينة بين الاثنين . وهذا هو الخلق الفني، فانه في البداية يحيّر ويقلق ، ولكننا في النهاية نكتشف انه ثراء وإضافة لما نملك .
الكتابة بالطابوق وضعت حلول عديدة للمساحات التشكيلية في العمارة . إذ أن كل الخطوط السابقة التي كبرت للعمارة لم تكن متناسبة، لأنها تقليد لخط المصاحف . أي تقليد خط منقار القصبة في حركاته الرفيعة والسميكة . بينما هنا ولأول مرة تدخلالخطوط بالضبط في المساحة المخصصة لها . وبعد ذلك واصل الخطاط القديم إبداعه فأعطى ديناميكية اكبر للخطوط على المنارة فجعلها تنزل مائلة بشكل حلزوني . وحتى المربعات المخطوطة أخذت فيما بعد أشكال قلقة بالارتكاز على نقطة واحدة . وهكذا فإن خط المصاحف بقي في المصاحف. أما العمارة فأنها وجدت ما يلائمها . والنتيجة هي إثراء للفنون وبهجة للعيون .
هذا مثال واحد ولكن هنالك أمثلة كثيرة لإبداع الخطاطين في الماضي. لقد كان الخطاطون والشعراء والموسيقيون في طليعة المجددين داخل المدينة الإسلامية .
وقد يُطرح سؤال: ما مدى أهمية وضرورة الحاجة للخط في العصر الحديث ؟ إن المعالم الكبرى يقوم بها معماريين ليسوا على علم بجماليات الخط العربي وماعدا ذلك فان احتياجات الخط الأخرى يمكن أن تقوم بها وسائل الطباعة الحديثة ...!
لو ننظر لما تبقى من المعالم القديمة والديكور الخطي، سندرك أن هذا الفن يمكنه أن يغذي باستمرار الأحاسيس والمشاعر لحاضرنا ولمستقبلنا . وبالإضافة إلى ذلك فان الأجيال الجديدة من الخطاطين يمكنها أن تخلق أجواء جديدة لحاجات جديدة. إذ لا يمكن للبحث الجمالي أن يشبع رغباتنا، إنه التقدم والتطور بحد ذاته .
لابد من وجود صحف وكتب تهتم بالخط . في هذا الزمن الذي يكون فيه سهلا ً تصوير الخطوط على المعالم وطبعها، كي يتعرف عليها الخطاطون الناشئون ، وتكون دراستها المادة الأولى لخلق خط حديث . و لذلك لابد من معارض ولقاءات تخلق مناخ إبداع وتجديد وحوار ... ؟
* * *
في القرون الأربعة الأخيرة كانت الدولة العثمانية هي التي تقود مجموعة الخطاطين على أراضيها . كان الطالب الصغير يدق باب خطاط كبير. وبعد التجربة قد يقبل به الأستاذ كمتعلم أو لا .
على الطالب احترام أستاذه وتتبعه في أسلوبه. وعبر الأستاذ يتعلم التلميذ قوانين الخط . والتي تعلمها هو بدوره من أستاذه . وهكذا أن التعبير الخطي اخذ هذا المنحى عند الدولة العثمانية . والتي هيمنت منذ القرن السادس عشر على كل الدول العربية ، عدا المغرب. كان العمل الفني يدور داخل شبكة من القوانين والمفاهيم يحترمها الجميع. ومن لا يريد احترامها يضع نفسه خارج قوانين الفن الذي يزيّن معالم المدينة . وإن اختار الخروج عن نظام الدولة، فلا تكلفه الدولة بطلبات لإنجاز العمل ... فليذهب إذن إلى السوق ليخط للصفاريين ببضعة دراهم أو ليقم بأي عمل آخر، كتعليم الأطفال في المحلات الفقيرة . لن يعد آنذاك لديه وقت للبحث والتطور ، لانه يعمل كثيرا ًو بمورد قليل ... وعندما انهارت الدولة العثمانية، لم تعد قوانينها الفنية تساوي شيئا ً. وهكذا انتهى حال الخطاط لحد يومنا الحالي .
ربما كان الهدف من هذه القوانين احترام التراث والحفاظ عليه . ولكننا اليوم نرى أنهاكانت عائقاً لمواصلة هذا التراث ، وحتى أنها لم تستطع المحافظة على الخط القديم .فقبل قرن من الزمن كان عدد الخطاطين يحسب بالآلاف أما اليوم فانه يحسب بالعشرات . إن هذا المثل يمكن تطبيقه على كل نشاطات الدولة العثمانية. انه أحد الأسباب التي أدت إلى الانهيار المفجع لهذه الإمبراطورية . إذ لا يجب أن ننسى أن جمود جيل من البشر سوف يؤدي إلي فقر الجيل الذي سوف يخلفه .
بل انه لمن المفجع بشكل اكثر رؤية التوجهات الثقافية لمجتمعاتنا اليوم وخصوصا ً في مجال الخط ، فهي امتداد للقوانين الصارمة للنظام العثماني تجاه الخط والذي سبق وان اثبت فشل هذه التوجهات . ان جماهير الدول الاسلامية ، تعيش الفقر الثقافي ، والكثيرمن شبابها يحلم بالهجرة ، الى العالم الصناعي . أي الدول التي تفتح ذراعيها أمام الخلق الفني . بسبب ركود مجتمعاتنا، وتقلص الإنتاج الفني الذي هو انتاج روحي قبل كل شيء والغرض منه تطوير الذوق البشري والسمو بأخلاق المجتمع ككل .
الخوف من التجديد . كان قد اسقط الامبراطورية العثمانية ، ومزقها . وهذا ما نشاهده في الكثير من بلداننا ايضا ً الآن . وعندما يشعر الناس بهذا الاختناق الحالي . يطالب البعض وبسذاجة بالرجوع الى الوراء . الرجوع الى الخلف في قراءة خاطئة للتاريخ ، بينما المفروض ان نسرع للامام . وان نتطور مع كل ما اعطانا التطور البشري الحديث من امكانيات . فلنتذكر من الماضي فقط فترات الانفتاح وخيراتها ...
* * *
ولتوضيح التطور الذي مر به الخط في الزمن الماضي . يمكن ان نأخذ كمثال على ذلك استعمال الخط الكوفي بشكل واسع للمصاحف في القرن التاسع . ولكن بنهايةالقرن العاشر بدأ التحول نحو أسلوب النسخ . لأسباب اجتماعية عديدة . اهمها الازدهار الحضاري والترف للدولة الكبيرة المتعددة القوميات .
فولدت أساليب لا حصر لها من ابداع الخطاطين، لان الدولة الاسلامية كانت آنذاك دولة مفتوحة، على شكل الولايات المتحدة او الاتحاد الاوربي في عصرنا الحالي . ففي العالم الغربي الواسع اليوم يتنقل الناس بدون جوازات سفر ويعملون في المكان الذي يجدونه ملائما ً لهم .
وهكذا كانت الدولة الاسلامية سابقا تمتد من بعض اجزاء الصين وحتى الاندلس . فكان للخطاط مجالات عمل واسعة . و تمكن من ابداع اساليب عديدة في الخط . وهكذا كنا نسمع بشار بن برد في القرن الثامن يقول : واذا خشيت تعذرا ً في بلدة فأشدد يديك بعاجل الترحال . كان يعرف انه يستطيع العيش بمدينة اخرى . وكان الشاعر الحريري في القرن 12 يقول : وجب البلاد فايها ارضاك فاختره وطن .
اما اليوم فلم يعد التنقل سهلا ً بين الدول العربية .
ويمكن تصوّر ان هذا المناخ الايجابي ، في زمن الدولة الاسلامية المتعددة القوميات . والذي كان يشمل كل مجالات الابداع . فالشعراء في كل مكان . والموسيقيون في القصور . والمعماريون في المدينة ... وكمثال على ذلك: فان الفيلسوف الغزالي ولد في ايران وعمل استاذا في المدرسة النظامية ببغداد . وزرياب البغدادي فتح اكبر مدرسة للموسيقى في الاندلس يتعلم فيها حتى ابناء الاوربيين . وياقوت اكبرخطاطي بغداد في القرن الثالث عشر ولد في اوربا وتبناه الخليفة المستعصمي ...
كان الخليفة المأمون يطلب من الخطاطين ان يستنسخوا نموذجا لكل كتاب موجود على الارض . وان كان بلغة اخرى ليترجم ويُخط ... وهكذا تنشط مخيلة الانسان ويتطور المجتمع . وهذا بالضبط ما يحدث الان في الدول الصناعية الكبرى . بينما في العصر الحالي عندما ندخل مكتبة عربية تصيبنا الدهشة لقلة الكتب ...
* * *
في عصرنا الحالي لم تعد الدولة توجه الخط . كما حصل سابقا ً. مما يعطي الخطاط الحرية الكاملة في عمل خطوطه . لكنما قلة المعارض وقلة الاهتمام ان لم نقل الاهمالالكامل بعمله كجميع الفنون التشكيلية . هذا يجعل الخطاط يواجه مشاكل اقتصادية تدفعه إلى ممارسة العمل التجاري، و تجبره على ترك البحث والتجديد الذي هو ضرورة ملحة كيلا نتراجع إلى الخلف .
كان في السابق الكثير من هواة الفن والأثرياء يقتنون الخطوط بأسعار عالية مما يوفر الوقت للخطاط للبحث والتدريب . قال أحد الخطاطين القدماء : عندما أخط أبيع نسخة من كتاب" المجسطي " ( وهو كتاب علمي مترجم عن اللغة الاغريقية ) يكفيني هذاالمورد ان اعيش لمدة سنة .
كان هنالك ايضا ً تشجيع واسع من الشخصيات العليا في الدولة . يقال ان السلطان مصطفى الثاني كان ينظر باعجاب الى الخطاط الحافظ عثمان في القرن السابع عشروهو يخط . فيقول له : " هل سيأتي يوم ياحافظ ان يأتي خطاط مثلك . " فأجابه الحافظ عثمان : " سيكون هنالك خطاط مثلي لو يأتي سلطان مثلك يمسك المحبرة لخطاطه المفضل . "
* * *
لا يجد الشاب اليوم امكانية تعلم الخط بسهولة وعليه في اكثر الاحيان الاعتماد على نفسه في البحث . وكم هو تبذير للوقت ان يحاول الشخص التعلم وحيدا ً لفن كهذا . ان التمرين على الخط والتوصل الى اتقان بضعة اساليب يتطلب سنين من العمل . ولكنيصعب تحقيق ذلك بشكل فردي . اذ لابد للخطاط المبتديء من فهم وهضم تركة الماضي من الخطوط والتكوينات ، ومعرفة اين تكمن جمالياتها . اضافة الى التمرين المستمر الذي سوف يساعده على ادراك كنه وجوهر الجمال في هذا التعبير الفني . كذلك لابد من اضافة الجديد بالاستلهام من أشكال وعناصر الطبيعة كالأرض والنار والهواء والماء . وكذلك من الهندسية المخفية خلف اشكال الازهارمثلا ً او التأمل في أشكال الغيوم ....
كل هذا سيكون صعباً جدا ً في عالم مادي يبحث عن المنفعة قبل كل شيء .
* * *
لقد تأثرت التكوينات الخطية سابقا ً بشكل المعالم المعمارية . كان المعماري يعمل مع الخطاط ، في كيفية وضع الخطوط على الجدران . وبهذا تعلم الخطاط كثيرا ً من المعماري . في هندسته للاشكال وكيفية احتلال الفضاء . والصعود عاليا ً بالحروف مع مراعاة قانون الجاذبية . وبهذا عمل الخطاط تكوينات للمكان المطلوب على جدران البناية . ولتشغل المساحة المخصصة بالضبط .
ومن الخطاطين اللذين عملوا مع المعماريين أذكر على سبيل المثال الخطاط راقم الذي كان له جرأة كبيرة في كسر العبارة وإعادة تركيبها حسب تخيلاته. ومن تكويناتهالمشهورة " لاحول ولا قوة الا بالله " المحفوظة بمتحف طوب كبي باسطنبول .
وضع في وسط هذا التكوين الثلاث لاءات المتباعدة في العبارة ولكنه لصق بعضها ببعض. ثم عمل الف ولام على اليمين والف وبا على اليسار . العبارة فيها الف منفردة واحدة ، بينما تكوينه احتاج الى اثنين . فأضاف عبارة أخرى هي " العلي العظيم " في الأعلى وخطها بشكل صغير جدا ً، ولكنه اقترض منها ألِفا ً ليستعملها في تكوينهللحروف الكبيرة .
الحروف المدورة جعلها الواحد ببطن الآخر . ولم يتردد بتصغير الحروف " واو وقو" ، كي تدخل بسهولة في التكوين . ثم وضع الأربع نقاط لكل العبارة سوية في أعلى اللاءات ووضع " الله " في الأعلى .
إن ما يدهش في هذا التكوين هو اتساع مخيلة راقم في عدد المرات التي يتدخل فيها كي يغير مكان الحروف ويصغرها . ويضيف حرفا ً من اجل بناء تكوين جديد ومتناغم يخضع لهندسية بسيطة وقوية .
وُلد مصطفى راقم في عام 1757 وتوفى عام 1826 وترك لنا الكثير من التكوينات التي تتميز بالأناقة والكمال . وكان العثمانيون يقولون عنه : " إذا كان الغرب فخورا ً بمايكل انجيلو فنحن فخورون بالخطاط راقم . "
ترك لنا الخطاطون القدماء الكثير من التكوينات في المعالم المعمارية وعلى الورق .ففي حدائق قصر الحمراء خط صغير كُتبتْ فيه عبارة هي شعار بني عبّاد : " لا غالب إلا الله " وقد أضاف الخطاط في الأعلى امتداد للحروف وزخارف تشابه الحروف بما يعادل ثلاث مرات حجم العبارة . أي أن ربع المساحة كان كافيا ً لخط العبارة . ولكن الخطاط عمل إضافات لمعادلة تكوينه، ولكنه من جهة أخرى استغل هذه الزيادات للتمتع بحرية الإبداع والخلق . فالمساحات الإضافية هي ملكه الخاص يتصرف بها كما يحب ... كما يريد ...
الإبداع والخلق يتم في أجواء من التشجيع . فهناك تأثير متبادل بين الخطاط والمجتمع . فإن كان هنالك احترام وتقدير تبرز الفنون وتلعب دورها الفعال . وان كان هنالك الإهمال فسوف تضمحل الفنون ويفقد المجتمع علاماته الجمالية ويبقى المجتمع مقلدا . الفن هو تكثيف للطاقات التي تغذي من ينظر إليها . وأن الجمال الفني يتحول في عيون المشاهد إلى طاقة إيجابية .
ترتفع الألفات واللامات بخطوط رهيفة في الحجر المحفور في حدائق قصر غرناطة. لا نلبث أن نرى هذه الرهافة حولنا في القصر نفسه . فالأعمدة الرخامية في قصر الحمراء رفيعة رشيقة . وهنا يأتي السؤال: من تأثر بمن ؟ هل المعماري تأثر بالخطاط ، أم الخطاط بالمعماري ؟ ان هذا التأثير المتبادل يمكن تصوره في اشياء متعددة مابين الفن والحياة .
الفن هو انعكاس لحركة المجتمع . يتاثر به ويؤثر عليه .
ومن هنا نطرح السؤال التالي : هل يمكن ان نستمر على مظهر الخط كما كان في عصر الحصان والجمل . ونحن الآن في زمن الطيران ؟
ساحة النقاش