وبسبب ندرة الأحجار الملونة لعمل الفسيفساء. تحول ديكور المعالم المعمارية فيما بعد إلى السيراميك . أي رسم الحروف والزخارف بالألوان على الطابوق ومن ثم وضع مادة زجاجية عليها وإدخالها في الفرن كي تخرج الخطوط ملونة ومزججة . فيضعها عمال البناء على الجدران الداخلية والخارجية للمعالم المراد تزيينها .
سمح السيراميك بمرونة أكثر من الفسيفساء . ومكـّن من استعمال خطوط تكثر فيها التدويرات كأسلوب الثلث . كما ابتكر الخطاط للسيراميك أساليب جديدة كالكوفي الهندسي والذي ما هو إلا الكتابة بالطابوق . فيكون سمك الحرف نفس سمك الطابوق وهو نفسه مسافة الفراغ المحيط بالحرف . إن هذه الطريقة في الكتابة كانت تجديدا ًجريئا ً.
وهكذا لعبت هذه الخطوط لمدة طويلة من الزمن دورا ً ثقافيا ً ديناميكيا ً داخل مجتمعاتنا . وشكلت الإبداع والخلق الفني المستمرين ... إبداع الخطاط يزيد من إبداع المهني . ومهارة المهني تسمح للخطاط الذهاب إلى أبعد ما يمكن في مغامرته الإبداعية . كان المسؤولون عن الثقافة يشجعون الخطاط ويثمنون إبداعاته . لذا يتأثر الخطاط بالتشجيع المتواصل، فيذهب إلى ابعد ما يمكن في إبداعه .
فن الخط لم يكن حاضرا ًعلى الجدران فقط، بل أنه امتزج في مجالات أخرى غير المعالم المعمارية ، كالحاجيات اليومية من البرونز والزجاج والخشب التي يصنعها المهنيون والتي كانت تـُـزين باستمرار بالخطوط .
ومن الطبيعي أن أجمل الخطوط هي ما عُملت على الورق للكتب واللوحات والرقاع المتعددة الأشكال ... كنوز من الإبداع المتواصل عبر القرون ...
كل هذه الخطوط أصبحت اليوم في المتاحف تخطاها الزمن وتبقى كجزء من التراث . نتعامل معها كالماضي الذي يمنحنا الضوء تجاه المستقبل .
*
قال عبيد الله العنبري في القرن العاشر : ( ما رأيت خطا ً حسنا ً إلا وامتلأت عيني قرورا . ) ولكن يا عبيد الله كيف يمكننا الحكم على الخط الحسن وبأي خطوط يمكننا المقارنة ؟
وهل أن الخط الحسن في زمانك أي قبل ألف سنة هو نفسه الخط الحسن اليوم ؟ وهل أن عدم وجود خطوط كثيرة في زماننا الحالي هو السبب في عدم امتلاء عيوننا قرورا ً ؟
نظرتنا للجمال تختلف من زمن لآخر ومن شخص لآخر.الجمال نسبي كما الزمن هو نسبي أيضا ً ...
في القرن الثالث عشر واجه الخطاط ياقوت المستعصي في بغداد مشكلة الحكم على الجودة في الخط . وأخيرا ً وطد الأسس المتينة للخط العربي وأعلن ضرورة إتقان 6 أساليب للخطاط المهني . وضع هو أشكالها وقواعدها معتمدا ً على كل الإنتاج الخطي فيما قبله .
بغداد الجريحة بعد الحصار عام 1258 ... وتحطيم المغول لها واحتلالها ... لم ترسل لنا خبرا ً سعيدا ً بعد ذلك إبداعات الخطاط ياقوت المستعصي . الحياة جاءتنا عن طريق الفن ... وهكذا أن الفن ينتصر على الزمن ...
القواعد التي وضعها المستعصي استمرت حتى القرن السادس عشر إذ أحدث الشيخ حمد الله الاماسي نهضة مشابهة . كان الشيخ حمد الله خطاط في مدينة أماسيا بتركيا .
وأحد تلاميذه هو الأمير بايزيد الذي أصبح فيما بعد سلطان الدولة العثمانية . كان بايزيد يرى في الاماسي خطاطاً عملاقاً وكان يمسك المحبرة بجانبه أثناء الخط ... فطلب بايزيد من أستاذه الشيخ حمد الله المجيء إلى اسطنبول وتوجه إليه بالسؤال التالي : هل يمكن تحسين الأساليب الستة لياقوت المستعصي ؟
اعتصم الشيخ حمد الله 40 يوما ً في داره مع كل ما تملك خزينة الإمبراطورية العثمانية من خطوط لياقوت المستعصي . فأصلح الأساليب الستة وأعطاها توازناً جديداً وديناميكية معاصرة ، وحرية في الخط .
أعطى الاماسي للخط شيئاً آخر يذهب أبعد من موضوع الوضوح والتناسق ، فقد أعطاه روح داخلية .
لم نرَ قبل الاماسي خطا ً بهذه العذوبة . إذ آخذت الحروف توحي وكأنها خُطتْ بعفوية وبساطة . وبنفس الوقت تبدو أنها آتية من الداخل نحو الخارج ... فتقود الحركات الخطية عيوننا إلى داخل مادة الحبر ... أناقة عالية رغم التعقيد الواسع فيها .
لقد حرر الاماسي الخط من الثقل وجعله يرقص في الفضاء . المدات وتطويل بعض الحروف في خط النسخ أعطته حيوية وحلاوة ، ولم يعد الخط بعد الاماسي كتابة للقراءة فقط إنما فن يملأ العيون قرورا ً كما يقول عبيد الله العنبري .
صحيح أن هنالك خطوط جيدة عملت قبل الشيخ حمد الله الاماسي . لكن الاماسي وضع الرهافة إلى جانب القاعدة العقلانية الكلاسيكية ، والتي لازال خطاطي اليوم ينهلون منها ، عبر أجيال عديدة من الخطاطين ... وحتى أن قسماً منهم ينحدر من عائلته المباشرة كابنه وأحفاده .
وضع الاماسي قواعد لقياسات الحروف وطرق بَري منقار القصبة ... استمرت هذه الإصلاحات تغذي فن الخط والخطاطين لمدة ثلاثة قرون من الزمن . ليضاف إليها فيما بعد ما هـو جديد من قبل مجموعة أخرى من خطاطي القرن التاسع عـشر . كالخطاط عبد الله الزهدي أعظم الخطاطين في عصره ، خطوطه تتميز في الإجادة بالرونق والبهاء . والخطاط الحافظ عثمان الذي أعطى خط النسخ مرونة وقوة، والخطاط مصطفى راقم الذي عمل تكوينات لم تكن تُعرف مسبقا ً ... وتتميز بالعظمة والأناقة ... تكوينات تناسقت بطرق هندسية تستلهم المعمار وتتأثر به ... أشكال جديدة مبتكرة ... أعطاها قوة التنظيم والرهافة في آن واحد .
وهكذا كما يقول المثل : ( الزمن يبني قلعة ويهدمها ) فما هو رائع في الزمن الماضي قد لا يكون كذلك اليوم . العمل الفني هو في حوار مستمر مع الإنسان واحساساته ، وأن الإنسان يتغير ويتطور ويزداد وعيا ًبمرور الزمن.
الحكم الجمالي يعود إلى ذاكرة الفرد، فمنذ الطفولة نختزن كل ما رأيناه وما سمعناه . وبالتالي تتكون شخصيتنا عاطفيا ً وفكريا ً وجماليا ً ، وينمو الذوق أيضا ًمن خلال هذه الذاكرة .
وعند ذاك يمكن أن نحكم على الخط الحسن .
فالخط الحسن هو ما يتفاعل مع أحاسيسنا العميقة . وأعيد ما يقوله عبيد الله العنبري : إن الخط الحسن هو ما يملأ عيوننا قرورا ً . هنالك خط حسن حسب الأساليب القديمة ، وخط حسن حسب ابتكار الخطاطين المعاصرين . إذ يمكننا أن نجد صفاءً جديداً في خط اليوم كصفاء الماضي ولكن في خط حديث .
مقياس الجمال يعود للإنسان ومدى اتساع احساساته وتفكيره . وقديما ً ترك لنا أحد الشعراء بيتا ً شعريا ً صغيرا ً ، يوضح مشكلة كبرى ، ألا وهي العلاقة الضرورية بين الإحساس والعقل :
إذا صح حس المرء صح قياسه
وليس يصح العقل من فاقد الحس
ومن لا يريد تحسس الزمن الحالي ، ويريد البقاء باستمرار في موقع معاكس للتيار ، ولا يريد تعلم الإبحار كما يقول المثل. فأنه لم يسمع المثل الآخر الذي يقول: ( الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك .)
وفي النهاية أليس من الأفضل أن نقطع السيوف لنكسب الوقت والفن والسلم الاجتماعي لصالحنا .
ساحة النقاش