بعض الخطاطين أرادوا إعطاء الخط الكوفي نفساً جديداً ورشاقة أخرى . فقرروا عدم خطه بالقصبة في الكتب، إنما رُسمت حدود الحروف بخطوط ناعمة، ثم أضافوا إليها الألوان. وهكذا وُلدت طرق جديدة للخط الكوفي .
لكل إقليم من الأقاليم الإسلامية طراز خاص في المعمار . وأساليب مختلفة في الخط . وتتميز فنون كل منطقة بما اكتنزته من تأثيرات الثقافة المحلية السابقة . فأن الخطوط الكوفية لجامع الزيتونة في تونس لا تشبه الخطوط الكوفية في محراب الجامع الكبير في قرطبة .
الخطوط الكوفية لجامع قرطبة لم يعد فيها فراغ بين الكلمات. وكان هذا تجديدا ً بالنسبة لما كان قبله من خطوط . فأصبح السطر كله كتلة واحدة .
ولعمل هذا المحراب استغل الخليفة المسلم في القرن العاشر كل علاقاته الدبلوماسية مع إمبراطور بيزنطة، كي يرسل له باخرة محملة بالأحجار الملونة، وعمال يساعدون البناءين المسلمين لعمل هذا المحراب الرائع والذي لا زال يبهر الزوار بجماله لحد اليوم .
كان هذا الخط بالفسيفساء هو الجميل بالنسبة لما قبله من الخط المحفور على الحجر في جامع الزيتونة.
جمال الخط العربي وتطوره تم على يد سلسلة من الخطاطين الكبار، وكذلك من قبل خطاطين مجهولين عملوا مع المهنيين في الخط على الأبواب واللوحات الخشبية ، وفي المنسوجات المخطوطة بخطوط حريرية، أو في سطور الحروف الكوفية المحفورة على الرخام، وكذلك في الاواني المعدنية والزجاجية المستعملة في الحياة اليومية .
في كل هذه المجالات كان الخطاط يحوّر الحروف لكي تدخل في المساحة المعطاة له . وحسب شكل الحاجة المراد تزيينها في الخط وبحسب صلادة ورهافة كل مادة . ونرى الكثير من هذه الحاجيات تعرض اليوم في المتاحف العالمية ، رغم أنها كانت في وقت عملها حاجيات للاستعمال في الحياة اليومية .
كل بلد له تقاليده الجمالية، ففي الهند مثلا عملت الخطوط عالية وكبيرة على الحجر الأحمر، ( منارة قطب ) بينما في مسجد الأقمر بالقاهرة ( كلاهما في القرن 12 ) عملت على واجهته الحجرية البيضاء خطوط كوفية صغيرة . ونفس الخط الكوفي أخذ شكلا ً آخر ومظهراً نحيفا ً وأنيقا ًعلى غاية من الجمال في الأواني التي كانت تعمل في ذلك الوقت في نيشابور ، حيث رسمت الحروف باللون الأسود على الإناء الابيض الحليبي .
ولكن ، الآن وهنا ، ما هو الجمال الذي أريد أن اطرحه في عملي الفني ، كي يعبر عن زمننا الحالي ؟ أقول في نفسي : أنظرْ إلى الطبيعة من حولك ... انظر إلى الأشجار والجبال الصحراء والبحار ... فكل الفنانين استوحوا استلهموا الجمال من الأشكال الطبيعية .
ولكن ماذا سآخذ من الطبيعة ؟ هل استوحي من الطبيعة هيأتها وليس صورتها ؟ هل أتأمل طريقة وجود النباتات لا واقعيتها ؟ نعم ... لابد من الولوج لجوهر الأشكال في الطبيعة ، والتعرف على هياكلها الأصيلة . فهنا شجرة تطير نحو السماء بخفة الراقصة . وهناك شجرة ترسم بغصونها خطوطا ً لا تقل قوة وثقل عن الفولاذ ... هنا أوراد ملونة وزاهية ... وهناك نباتات جاثمة على الأرض في غم وحزن ...
إن كل ما هو مرئي ومتحسس من الأشكال ، ومهما هذه كانت الأشكال بشرية أو نباتية أو صناعية .. فأنها يمكن أن تكون مصدر إيحاءات ومنبعاً لأشكال جديدة في الخط ، بشرط وجود الرغبة الغامضة للولوج في أجواء التعبير الفني .
*
كم أحسد الشعراء ، الذين حسموا المشكلة الفنية في عملهم الأدبي ، منذ زمن طويل . فمنذ زمن امرئ القيس وجدوا الحلول الكافية للمعضلات الفنية ... فهم بعد أن تعرفوا على صناعة الشعر ، أخذوا يسكبون مشاعرهم الوجدانية والعاطفية داخل الكلمات والصور ... تماما كالخطاط الصيني الذي لا يخط نفس الكلمة مرتين بنفس الشكل ، لانه يتقدم ويزداد وعيا ً كل يوم بل في كل لحظة . بينما يجمد الكثير من الخطاطين العرب التقليديين كل ما يعصف بقلوبهم . ويخطون الكلمات بمثل ما يخطها أستاذهم القديم . فتأتي في أكثر الأحيان متكلفة وجامدة .
*
جلست بهدوء أتأمل وأفكر في كل خطوط الماضي ... أتخيل ألوانها ومساحاتها ... أتوقف متأملا ًعند الخطوط المبتكرة في زمنها والغير متشابهة ...
مع تحول الزمن وتغيره ، تطور الخط وتغير أيضا ً، كانت الخطوط الكوفية الاولى وحتى القرن التاسع الميلادي تعكس اجواء الفضاء الصحراوي بنقائها وقوتها وبساطة الأشكال ، كالخيام السوداء التي تُصنع من شعر الماعز على الرمل الذهبي وفي الهواء الطلق .
ولكن الحضارة التي دخلت بغداد وقصورها المترفة وحدائقها الغنّاء في القرن الثامن الميلادي . فرضت على الخط التفاعل مع الجمال الجديد . فانتقل الخط العربي من الكتل الصافية المبنية برصانة في الخط الكوفي إلى ما يشابه الأغصان في أساليب الخط المرنة . بل حتى أن الخط الكوفي هو نفسه تزين بالأغصان والأوراق .
تيار آخر قاد الخط الكوفي إلى بناء الحروف بشكل آخر متأثرا ً بالمعمار، فخلق الكوفي الهندسي . وتبعت الخط أخته " الزخرفة " والتي استعملت في اكثر الأحيان بهدف تزييني لملئ الفراغ ولخلق أجواء جديدة ... لخلق حديقة أبدية ساكنة على الجدران .
في خطوط قصر الحمراء بالأندلس، ترقص على الجدران كلمات شاعر القصر في ذلك الزمن وهو
" ابن زمرك " بخط أندلسي متماوج . حفرت حروفه على الجبس و بألوان دافئة .
وعلى الأبواب وأعلى النوافذ خطت استقامات الحروف الكوفية المضفرة النحيفة والأنيقة .
بينما خط الفاطميون في مصر الكوفي المشجر على خلفيات مورقة ، وعند تأمله نشعر وكأننا نتجول في غابة من الجبس الأبيض .
أما خطوط المصاحف السلجوقية فقد طولت فيها الألفات واللامات وصعدت للأعلى بحروف رفيعة . مما جعل السطور في كل صفحة لا تتجاوز الخمسة سطور .
وهكذا أن للجمال حضور متغير في كل مكان .
منارة الملك مسعود الثالث في غزنة بأفغانستان ( القرن 12 ) نُحتت عليها الخطوط الكوفية من الطين المفخور . نحت بارز للكلمات في أشرطة عالية حول المنارة . وأضاف الخطاط للحروف زخارف هندسية ملتصقة بها أو كامتداد لها . فولد خط كوفي جديد .
وهكذا عندما نقول الخط الكوفي لابد من الإدراك أن للخط الكوفي القديم أولاد وأحفاد. إنها حقا ً لسلالة نمت وتطورت بمرور الزمن ، اتخذ كل أبنائها اسم " الخط الكوفي " ومن كوفي المصاحف الأول سنجد أن كل بلد وكل زمن ابتكر الكوفي الذي يلائمه . أحيانا ً يضاف له اسم فرعي كالكوفي المشجر أو المظفر أو الهندسي ...
ابتداءاً من القرن الرابع عشر ، بدأت محاولات أكثر جرأة في جماليات الخط العربي . ففي بعض التكوينات لم تعد الكلمات تكتب على شكل سطور، بل على شكل هياكل وكتل تصعد للأعلى كالتماثيل التجريدية في الفضاء . فأخذت الحروف تتشابك فيما بينها، تشابكاً مدروساً للحروف وللفراغ المحيط بها . ومن الأكثر حبا ً وابتكارا لهذه التشابكات في البداية هم المماليك .
من هم هؤلاء المماليك ؟
أصلهم قبائل رحل من التركمان ، استوطنوا آسيا الصغرى . وكان من عادة الحكام المسلمين آنذاك شراء أرقاء من هذه البلدان ، ثم يقومون بتربيتهم على الفنون العسكرية لحراستهم . وبالتدريج أخذ هؤلاء الأرقاء الحكم في سورية ومصر منذ القرن الثالث عشر وحتى السادس عشر . بعد ذلك حكموا بشكل متقطع .
وترك لنا هذا العهد المملوكي معالم معمارية غاية في الرشاقة والخفة . تمثل نهضة في الفن المعماري . وزينت هذه المعالم بخطوط وزخارف أكثرها محفورة على الحجر . خطوط امتزجت فيها الحروف و الكلمات ولا يبدو لعين الناظر ، إلا جمال الإيقاعات الموسيقية الآتية من الحروف ... موسيقى تبعثها للعين خطوط مستقيمة واقفة ، كالألفات واللامات . وأخرى مدورة في عناق أبدي .
كما ترك لنا عصر المماليك الكثير من الحاجيات المعدنية المستعملة في الحياة اليومية . حاجيات تغلفها خطوط عملت بمعادن مختلفة الألوان على غاية من الروعة والجمال . وتوجد الكثير من هذه التحف الآن في المتاحف العالمية . وللمماليك نهضة بالعلم والشعر .
كنت في عام 1980 أصور بعض الخطوط في معالم القاهرة . وأنا أ ُحضّر كتابا ً عن الخط العربي . فصعدت على سطوح بعض هذه المعالم . رغم خطورة السلالم العتيقة . كنت أريد الاقتراب من القباب وتصوير خطوطها عن قرب ، لأن الحروف لا ترى بوضوح عن بعد . مُسِحَتْ السطور بسبب مرور قرون من الزمن عليها ، وهي تتحدى العواصف الرملية التي تغزو القاهرة من وقت لآخر. فكانت الخطوط تبدو تارة موجودة وتارة أخرى غائبة في الحجر ، ولم يتبق منها إلا الأثر ...
كرر الخطاط في هذه الجداريات الألفات واللامات متجاورة وأنزل كل الحروف الباقية للكلمات في الأسفل ... فبدت السطور للمشاهد وكأنها غابات من القصب العالي ، أو جذوع نخيل متناغمة في البساتين ... الآثار الباقية لهذه الخطوط القديمة توحي بقدرة الخطاط الفنية العالية آنذاك ، وبذوقه المرهف الذي كان يجعل الحجر يوحي بالأنغام .
داخل مسجد السلطان حسن في القاهرة ، وفي أعلى الجدران توجد خطوط كوفية غاية في الروعة والمتانة. حروف عمودية متلاصقة على الرخام الرمادي . فأعطت المادة الصلبة للصخر هيبة لأشكال الحروف وبناءً فريداً للكلمات . أشكال الحروف تبدو كالبناء ، أو كمعالم معمارية . وقد عرف الخطاط في ذلك الوقت كيف يوظف المادة الصلبة في عمله الفني . ورسم الحروف بشكل جمالي يخترق الزمن إذ لازالت هذه الخطوط رائعة في نظرنا لحد اليوم . ولا أعتقد انه يمكن أن نضيف الآن لهذه الخطوط شيئا ً آخر. إنها جمال خالد .
ولو ننتقل إلى مدن آسيا الوسطى كسمرقند وخيفا وبخارى . وإلى معالم إيران والعراق وتركيا . لنجد أن أسلوب خط الثلث هو المهيمن على الجدران والقباب، لقدرته على التطاوع مع المساحات المعطاة للخطاط .
لعمل خطوط تدور حول القباب ، ولكي تغطي الجدران للمساجد والأضرحة والمدارس القديمة . اتجه الخطاط في الماضي لعمل تشكيلة تخضع لخلفية هندسية لا مرئية ... كسّر الكلمات وأعاد ترميمها وبناءها من جديد ، لكي تدخل ضمن المساحات المعطاة له أو المساحات التي يريدها هو نفسه . غير آبه لعدم إمكانية قراءة ما يكتبه . فأنه يضع الكلمات كفن و بهدف جمالي بحت ، وليس بهدف قراءة النص . انه حقا ً لتطور جريء في الخط يعطي حرية واسعة للخطاط في الابتكار .
تُحاط السطور في هذا الأسلوب دائما ً بزخارف نباتية وهندسية ، فيتكامل الخط مع الغصون المرسومة حوله . في بعض الأحيان تظهر الزخارف بألوان متعددة خلف الخطوط فتعطي بذلك إيحاءً بالعمق .
*
ولدت أشكال جديدة للألفباء العربية في مناطق جغرافية متعددة ، ومنها خط التعليق الذي ولد في إيران في القرن الرابع عشر نتيجة حلم خطاط . إذ رأى حروفاً تكتسب أشكالها من البط الطائر . ورسمها بعد ذلك على الورق، فاكتسبت بعض الحروف شكل الجناح وأخرى شكل البطن أو المنقار. والهيئة العامة للخط تجعل منظر الحروف معلقا ً... وهكذا سمي هذا الخط ب " تعليق " .
لازال هذا الخط يستعمله الخطاطون لحد اليوم . وهو لا يشابه الخطوط التي سبقته ، بسبب مظهره الفضائي . إن خط شكل بعض الحروف في أسلوب التعليق يتطلب قدرات فنية عالية لإنجازه . فمثلا أن حرف السين الطويل ، والذي يعمل كخط أفقي مستقيم ينتهي بنصف دائرة . يتطلب خطه وضع منقار القلم في بداية الخط بانحناءة 40 درجة تقريبا ً ويستمر أفقيا ً نحو اليسار ثم يلتوي برهافة على نفسه ، لينتهي بدرجة 90 للهبوط من أجل خط كأس السين .
*
خلال حكم الدولة العثمانية ولدت اتجاهات متعددة في الإبداع داخل الخط . وأهم مرحلة ـ والتي هي القاعدة الأساسية لفن الدولة العثمانية ـ ولدت أثناء فترة حكم سليمان القانوني في القرن السادس عشر. وسليمان هو نفسه كان من هواة الفن . فما بين متاعبه في الحكم، كان يدخل مشغله الفني من وقت لآخر ليعمل حلية لزوجته .
وكان يشجع خطاطه المفضل أحمد القره حصاري، والذي كان يرسم تكويناته ويخطها بشكل اقرب للفن التشكيلي منها للخط التقليدي. كان يعيد خطه عدة مرات ويهتم في البناء للحرف و بالتنقيح والتصحيح والصقل .
ولا يعني هذا أن جمال الخطوط كان سابقا في القصور فقط . فقد شاهدت في الثمانينات بعض طلاب مدرسة تحسين الخطوط في القاهرة . ينقلون الخطوط الثلثية الرائعة عن لوحات أسماء الشوارع في القاهرة . لأنها عملت من قبل خطاطين كبار . أو من واجهات بعض المقابر . وهكذا أن زوايا المدن القديمة لازالت تحتوي على خطوط في غاية الجمال . أود أن أكرر مرة أخرى إن ما أقوله هنا لا يعني أن الخط العربي متواجد في المدن الكبرى فقط .
فكم من مرة وأنا في رحيل مع البدو في الصحراء الموريتانية . كنا نجد عوائل بدوية تحت الخيام يحتفظون بصناديق فيها كتب قديمة مخطوطة باليد. وتكون هذه المخطوطات ، الإرث والتراث الوحيد الذي يملكونه لتحديد هويتهم الثقافية. يعتزون بهذه الكتب ويحافظون عليها كما يحافظون على عيونهم ، يحملونها أينما ذهبوا ، وقد توارثوها أباً عن جد . يفتحونها من وقت لآخر ، لا يعرفون قراءتها ولا يفهمون مواضيعها ، لكنهم يعتزون بها أشد الاعتزاز، وكأن تصفح هذه المخطوطات يؤكد لهم مدى عمق جذورهم العائلية ، ويمنحهم الثقة بالنفس .
أقول مع نفسي: إن جمال هذه الخطوط هو وحده الذي يهبهم هذا التعجب والاحترام . انه في النهاية العمل الجمالي للخطاط ... والجمال في هذه الخطوط هو وحده الذي ينمي عندهم هذه الثقة بأنفسهم .
وربما أن ما نجده عند البدو نفتقده لدى ابن المدينة. بل انه ينساه اليوم وهو يعبد الصور المبثوثة من شاشة التلفزيون . بينما الحكمة تفترض احترام الجمال القديم والحديث .
*
الخطوط القديمة تملأ المتاحف، وتغطي جدران المعالم المعمارية في الهواء الطلق، من سمرقند وحتى قرطبة مرورا ً في كل دول العالم الإسلامي . خطوط تتميز بحرية واسعة وابتكار لا حصر له .
في آسيا الوسطى تمازجت الخطوط بالألوان والطابوق في المنائر والقباب والجدران . ولا ندري هل أن الزخرفة هي التي أعطت هذه الخطوط أشكالها وأوحت بها، أم أن الخطوط ذاتها أنجبت تلك الزخرفة، فأن ما يدهش الرائي هو الانسجام فيما بينهما .
وفي الطرف الآخر من العالم العربي ـ الإسلامي ، في الأندلس مثلا يختلط في قصر الحمراء الشعر بكلماته المنحوتة على خلفية زخرفية . فتتمازج الحروف والأغصان النباتية في لوحات غلب عليها التجريد، وكأنما تروي لنا أشياء كثيرة على صغر حجمها . فيتيه الزائر لهذا القصر ما بين عالم النباتات ، وعالم الكلمات . يتخيل الجمال كما يريد وكأنه في حلم لا يوقظه منه إلا خروجه للشارع وعودته للزمن الحالي .
*
إن اختارت أوربا منذ القدم الصورة للتعبير الفني . فأن الشرق فضّل َ إلغاء المظاهر المكانية والواقعية للأشياء وتَركَ لحدس المشاهد إدراك بما توحيه العلامات التي تدل على الأشكال . وفي مجال الخط فأن المشاهد يتحرى الأسرار الكامنة خلف الكلمات وهندستها . ومن عالم المحسوسات فأنه سيصل إلى عالم المعرفة .
في الزخارف التي تجاور الخط ، استعملت باستمرار وحدات متكررة تمثل نوعين مختلفين : الأول هو الأغصان والأوراق والزهور . حورت وأعيد رسمها كيلا تشابه المشاهد الطبيعية . تجاور أسلوب خط الثلث دائما ً . وهذه الزخرفة تريد أن تمثل الجنة " الحديقة " .
أما النوع الثاني ، فهو الزخرفة ذات الخطوط المستقيمة ، والتي تتشابك فيما بينها وتترك هنا وهناك أشكال نجمية . ومن الطبيعي أنها ترافق الخط الكوفي . والمراد منها أن تعكس السقف السماوي الآهل بالكواكب .
ارتبطت الزخارف في الماضي بما يسمى بالمربعات السحرية ، وحساباتها الرياضية . والتي تربط الفن بالعلم . وما يسمى آنذاك بعلم التنجيم ومعرفة المستقبل . فكانت هذه الزخارف وخلفياتها الفكرية والسحرية ، تعطي الإنسان حجما ً واسعا ً يختصره الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في القرن الثالث عشر بهذا البيت الشعري :
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
*
وبعد هذه الجولة السريعة في عالم الخط القديم بحثا عن الجمال . أقلب صفحات بعض الكتب أقرأ ما كتبه نقاد الخط سابقا ً . وكيف كانوا يحددون القيم الجمالية :
ففي كتاب أبو بكر الصولي ( القرن العاشر ) . ومتى يستحق أن يوصف الخط بالجودة يكتب :
" ... إذا اعتدلت أقسامه ، وطالت ألفه ولامه ، استقامت سطوره ، وضاهى صعوده حدوره ، وتفتحت عيونه ، ولم تشتبه راؤه ونونه ، وأشرق قرطاسه ، وأظلمت انقاسه ( الحبر ) ، ولم تختلف أجناسه ، وأسرع إلى العيون تصوره ، والى العقول تثمره ، وقدرت فصوله ، اندمجت أصوله ، وتناسب دقيقه وجليله ، وتساوت أطنابه ، استدارت أهدابه ، وصغرت نواجذه ، انفتحت محاجره ، وخرج عن نمط الوراقين ، وبعد عن تصنع المحررين ، وقام لكاتبه مقام النسبة والحلية ، وخيل انه يتحرك وهو ساكن ... "
ومن نص آخر :
" ... إذا كان الخط حسن الوصف ، مليح الرصف ، مفتح العيون ، أملس المتون ، كثير الائتلاف ، قليل الاختلاف هشت إليه النفوس اشتهته الأرواح ... "
ويصف إسحاق بن إبراهيم الخط الحسن بالكلمات التالية :
" ... ومما يزيد الخط حسنا ، ويمكن له في القلب موضعا ً ، شدة سواد المداد ، وجودة الأقة في الدواة ، فأنه يجري في الخط مجرى القطن من الثوب ، فمتى كان القطن رديء الجوهر ، لم ينفع النسّاج حذقه ... "
أما ابن مقلة في القرن العاشر فأنه يرى أن جمال الحروف في أشكالها يحتاج إلى خمس أشياء هي : التوفية ، والإتمام ، والإكمال ، والإشباع ، والإرسال ، ويستمر شارحا ً لكل هذه الأشياء .
ويصف خطاط آخر جمال الحروف بعدة معاني : الخط المجرد بالتحقيق ، والمحلى بالتحديق ، والمجمل بالتحويق ، والمزين بالتخريق ، والمحسن بالتشقيق ، والمجاد بالتدقيق ، والمميز بالتفريق ... وهو الآخر يستمر شارحا ً كل معنى .
*
كان للخط حضورا ًواسعا ً كما كان يلاقي اهتماما ًعاما ًمن المجتمع . اهتمام يدفع الخطاط للبحث والتطور ، وإتقان مهنته والإجادة فيها . وكانوا يسمون في الماضي تقنيات الخط ب " صناعة الخط " إذ لابد للخطاط من معرفة هذه الصناعة ولا يمكن الذهاب من لاشيء .
لا يوجد خط مولود من القريحة والبديهة والارتجال فقط . إنما لابد من معرفة وهضم تركة الأقدمين. ومن ثم إضافة شيء جديد آتٍ من تأثير العصر الذي يعيش فيه الخطاط . وهكذا يبقى الخطاط على صلة بين خطوط الماضي والخط المعاصر .
ومن نص آخر في كتاب الصولي :
" ... الحذق بالخط أن يقدر الكاتب ( الخطاط ) بقلمه أجزاء حروفه وكلمه ، وخاصة في طول الحرف لا في عرضه ، ويفرق بين الحرف والحرف على قياس ما مضى من شرطه في قرب مساحته وبعد سياقته . ولا يقطع الكلمة بحرف يفرده في غير سطره .
ويسوي إصلاح خطوط كتابته ولا يغيره فيحليه بما ليس من زينته ، ولا يمنعه حفا ً فيخلف حليته ، ويفسد قسمته .
ويستقبح أن يقع في الخط نوعان مختلفان ، ويقوم في النفس من ذلك ما يقوم فيها من الشعر إذا اختلفت أعاريضه ، وخلط فصيحه بمولده .
وأحلى الخطوط المحقق اللطيف ، المستدير الحروف ، المفتوح الصادات والطاءات ، المختلس التاءات والحاءات ولا يحسن أن يجمع في الحرف مشتقان ولا بين ياءين معروقتين ... "
الخط العربي فن استلهم الطبيعة دون تقليدها . ويذهب مباشرة إلى جوهرها الهندسي والإيقاعي حسب ( النسب الفاضلة ) والقياسات السليمة . الخطوط تتأثر بمظاهر المعمار . والمعمار يعكس إيقاعات الموسيقى . وكان معيار الجمال آنذاك هو كل ما يفرح القلب فقط ويثير احساساته .
الجمال عند الخطاط كان يتم في شحن الحروف بطاقة مرئية . والاهتمام بالعمق على سطح العمل الفني الجداري . من خلال تعدد الألوان ، أو وضع خط ناعم يوحي بالبعد إلى جانب خط سميك يوحي بالقرب . وكذلك أعطى الخطاط أهمية للنور داخل مادة الخط ، من خلال نفاذ الضوء في الحبر الأسود أو البني على الورق . أو عبر السيراميك المزجج والمرمر والمعادن المتعددة .
*
الآن ما هو جمال الخط العربي ؟ ومن أين أتت هذه الاهتمامات التقنية العميقة في الانتظام والتناغم لدى الخطاط القديم ؟
يرى البعض أن كلمة جمال في اللغة العربية آتية من كلمة " جمل " ولم لا ؟
فالجمل الحر في الصحراء هو أجمل شيء : شكله الفارع ، الألوان المتعددة للوبر الذي يغطيه . حركته الإيقاعية في المشي ، فيمكنه البطء إن أراد ، كما يمكنه السرعة .
ومن الناحية النفعية ، فلولا الجمل لما استطاع العرب اختراق الصحراء .
الجمل صبور يصمد إزاء الحر والعطش . وعند افتقاد الماء فأن الناقة الرحيمة تنقذ البدوي من الموت بقليل من الحليب .
الجمل رفيق الإنسان يساعده على الحياة ، وعندما تسير القافلة في الصحراء تمتد عيوننا نحو الأفق لتشاهد الإبل ، وكأنها تكتب سطراً طويلاً يشبه أسلوب خط الجلي ديواني .
*
عندما يمسك الخطاط قلمه للخط على الورقة البيضاء، إنما يواجه الفضاء اللانهائي . ليشغله بالحروف والكلمات . يتقدم في حذر ذهني لتحسس ومواجهة اللامنتظر . فمهما تكن معرفته كبيرة بالحروف ، يبقى الوصول إلى الجمال غير مؤكد .
الجمال في الخط كما أراه اليوم هو في علاقة مع التجربة المعاشة في الزمن الحالي. أما الجمال في القرن الماضي ، فقد كان على الخطاط أن يبدأ بالتمرين مقلدا ً خطوط أستاذه ... و عندما يريد الخط يختبر قدرته على خط الحروف منفصلة . وبعد ساعات من مواصلة التمرين قد يتوقف الخطاط ويرجئ الخط ليوم آخر قائلا ً انه لا يستطيع خط الألف أو الباء كما تترآى له في ذهنه ...
يبحث الخطاط القديم عن قيم الكمال والجمال في الحروف كما تعلمها. ولا يريد أن يكون في خطوطه مجال لعاطفته الفردية . فيعود للتمرين في اليوم التالي ، يقلد خطوط كبار الخطاطين الذين سبقوه . وعندما يتأكد من قدرته على خط الحروف جيدا ً ، يبدأ آنذاك الخط ، فيبحث عن التآلف والتناغم بين الحروف والكلمات . بين كل الأجزاء التي سوف تكوّن في النهاية شكلا واحدا .
وها أنا أتساءل مع نفسي ، هل يمكنني أن أبحث عن جمال مشابه لهذا في زمننا الحالي وفي أوربا حيث أعيش؟
أعتقد أنه من الممكن أن نستمر في الخط على اتجاهات متعددة . يمكننا احترام الأساليب القديمة . ولمن يريد مواصلتها له الحرية في ذلك، وأن قلة وجود الخط والخطاطين في زماننا الحالي تتطلب الاعتناء بكل الكفاءات .
ولكني أريد أن أضيف في عملي الخطي الحديث الجانب التعبيري .أريد أن أضيف شيئاً يقترب من الفن التشكيلي، أن يكون هنالك مكانا ً للقلب وأحاسيسه . فأن كان القلب هادئا ً جاءت الخطوط صافية . وإن كان القلب مثقلا ً تأتي الخطوط مثقلة كذلك . وهذا الثقل إن كان صادقا ً يمكن أن يكون جمالا ً أيضا ً .
إن حضور أحاسيس القلب في العمل الفني سيساعدني على معرفة ذاتي . وبالتالي أن أحاسيسي الشخصية والتي هي من ضمن أحاسيس المجموعة البشرية التي انتمي إليها، لو دخلت الخط فلابد أن تنتهي هذه التجربة بكونها وسيلة للتعرف أكثر فأكثر على النفس البشرية . وهكذا يمكن أن نخلق تياراً جديداً داخل الخط العربي .
وعندما تمتزج الأحاسيس بالحركات ، فقد يأتي أثناء هذه العمليات الفنية ما هو غير متوقع . ولكن ذلك الغير منتظر قد يصبح ضرورة فيما بعد. ضرورة لا يمكن أن نراها في البداية ولا يمكن التنبؤ بها. ولكن عندما تأتي تكون هي المراد لاغيرها .
*
جمال الخط كان أحد العناصر الفنية داخل المجتمع . وهذه العبارات للخليفة المأمون وهو ينظر إلى نص رسمي مخطوط ، تشير بتلخيص لهذه الأهمية :
" ... لله در القلم كيف يحوك وشي المملكة ، ويطرز أطراف الدولة ، ويقيم أعلام الخلافة ...
الخط روضة العلم ، وقلب الفهم ، وفن الحكمة ، وديباجة البيان ... "
لم يكن هذا الجمال قد جاء بالصدفة، بل نتيجة لتراكم بحوث وتجارب وتمارين خطاطين وخطاطات من عدة أجيال. إن الخط يتطلب جهود واسعة وهو صناعة معقدة تخضع لقواعد دقيقة لا يحيد عنها الخطاط إلا لإضافة ابتكارات جديدة تكون كتطور سليم لهذا الإنتاج الفني. ويقابل هذا الابتكار تثمين واحترام المجتمع .
الجمال في الماضي تحقق أيضاً بفضل وجود النقد. ولدينا نصوص تقنية وأدبية كثيرة حول جمال الخط كهذا النص لأبى القاسم المجريطي في القرن الحادي عشر :
" ... ينبغي لمن يرغب أن يكون خطه جيدا ، وما يكتبه صحيح التناسب ، أن يجعل لذلك أصلا ً يبني عليه حروفه ، ليكون لذلك قانونا ً يرجع إليه في حروفه ، لا يتجاوزه ولا يقصر دونه ...
ومثال ذلك أن تخط ألفا ً بأي قلم شئت ، وتجعل غلظه للذي هو عرضه مناسبا ً لطوله وهو الثمن ، ليكون الطول مثل العرض ثمان مرات . ثم تجعل البركار على وسط الألف وتدير دائرة تحيط بالألف لا يخرج دورها عن طرفيه ، فأن هذا الطريق والمسلك يوصلان إلى معرفة مقادير الحروف على النسبة ، ولا تحتاج في مقاييسك في ما تقصده إلى شيء يخرج عن الألف وعن الدائرة التي تحيطه ... "
وفي القرن العاشر يعطينا المزرباني رؤيته للجمال في الخط :
" ... الخط هندسة صعبة ، وصناعة شاقة ، لأنه إن كان حلوا ً كان ضعيفا ً . وأن كان متينا ً كان مغسولا ً ، وإن
ساحة النقاش