مع أن الكثيرين يظنون أن السينما اليابانية عند دخولها الألفية انحدر مستواها، ولم تكن بذلك الأبهار التي كانت يوما ما عليه .. الا اني شخصيا ومن خلال الأفلام اليابانية التي شاهدتها بالعقد السابق، ارى انها لاتزال تحتفظ برونقها وسحرها الخاص الذي يميزها ويفصلها عن السينمات الأخرى. وفي العقد الفائت قدمت أفلام مبهرة تميزت بالشكل والمضمون, تفوقت بأصالة أفكارها وأسلوبها بالطرح الفريد من نوعه والغير خجول .. كلها أمور جعلت من هذه الأفلام أفلام مميزة لاتنسى .. من هذه الأفلام هو أحد أجمل الأفلام اليابانية التي ظهرت بالعشر السنوات الأخيرة هو فيلم المخرج "تيتسويا ناكاشيما" الكئيب Kiraware Matsuko no isshô أو Memories of Matsuko.
تركيبة قصة هذا الفيلم البديع مشابهة لتركيبة قصة فيلم "المواطن كين" من حيث التعرف على شخصية غامضة "ماتسوكو"، وتروى فترات حياتها من خلال عدة أشخاص على طريقة الـ(الفلاشباك) .. يبدأ الفيلم بلقطات متفرقة تحدث بنفس الوقت، ونتعرف بعدها على شاب يدعى "شو" يعيش حياة مملة، تهجره صديقته ويدمن بعدها على مشاهدة الأفلام الاباحية .. يزوره والده المنقطع عنه بأحد الأيام، ويخبره بأن لديه عمة لايعرفها تدعى "ماتسوكو" قد قتلت قبل أيام، ويكلفه بمهمة الذهاب الى مكان اقامتها للم أشيائها من هناك .. وأثناء عمله، يشاهد أغراضها، ويلتقي بأشخاص يعرفونها يخبرونه بفترات من حياتها، لتعطيه في النهاية صورة متكاملة عن عمته التي لم تتهنى بطعم السعادة في حياتها ابدا.
تيتسويا ناكاشيما كما بفيلمه السابق (Kamikaze Girls) يقدم أحد أكثر الأفلام بصرية، مليئة بالألوان والتقنيات على الأطلاق (كالفيلم الياباني العجيب Hausu)، هذا الفيلم يسلب الأنفاس بطريقة أسلوبه بتقديم قصته وبمؤثراته التي اعطت الفيلم شكل فانتازي، وكأننا في حكاية خيالية .. مع أن الفيلم يقدم قصته بشكل غنائي وكوميدي، الا انها طريقة لتغليف هذه القصة التراجيدية جدا لكي تصل بشكل أسهل للمشاهد .. وأعتقد لو تم حذف العامل الموسيقي أو الكوميدي من العمل، سيجعل من الجلوس ومشاهدته أمر صعب جدا .. بالاضافة الى ذلك أن السحر الذين اضافوه على العمل سيختفي.
شخصية العمل الرئيسية هي "ماتسوكو" .. ماتسوكو منذ صغرها كانت تبحث عن الحب والأهتمام بين من حولها، ولكنها لا تجده، لا من عائلتها التي كانت تصب اهتمامها على شقيقتها بسبب اعاقتها، أو من المدرسة التي تدرس فيها والتي فصلت منها، أو أحباها الذين كانوا يسيؤون معاملتها ويعنفونها والذين قادوا حياتها الى الدمار.. أو من الحياة ككل. عندما نشاهد جثة "ماتسوكو" في بداية الفيلم، وشكل مسكنها البائس ونسمع ما قاله عنها أخوها وجارها .. يتبارى الى ذهن المرء ان هذه السيدة عاشت حياة بائسة، بلا قيمة أو أي شيء يستحق الذكر .. ولاحقا نكتشف انها بالفعل عاشت حياة بائسة، ولكنها لم تكن بلا قيمة أو لاتستحق الذكر.
جميع الممثلين المشاركين بالعمل قدموا أداءات جيدة, ولكن أداء الممثلة "ميكي ناكاتاني" بدور ماتسوكو كان هو الأبرز .. ادائها كان بارع وتمكنت من تجسيد ومجاراة روح العمل الحركي، فالفيلم متعدد الأصناف، فهو يتنقل ما بين النوع الكوميدي، الموسيقي والدرامي .. وايضا قدرتها على مواكبة التغير الشكلي واتقانها لغة الجسد في كل مرحلة من حياتها، فالفيلم تدور أحداثه بفترات زمنية مختلفة، فهو يعرض لنا الفترات التي عاشتها الشخصية، وكل فترة من تلك الفترات كانت "ماتسوكو" تمتاز بهيئة معينة. واستطاعت "ميكي ناكاتاني" بابداع تأدية هذا الدور المعقد بجوانبه وأشكاله المختلفة، فأداءها كان أستثنائي ومن أفضل الأدوار النسائية في العشر سنوات السابقة, وأستحقت عليه بكل جدارة "جائزة أفضل ممثلة آسيوية". الموسيقى التصويرية كانت هادئة بنغماتها والأغاني المستخدمة المتعددة بأنواعها كانت مدهشة، وكل أغنية تم توظيفها في مشهد غنائي أنيق أستطاع التعبير عن حالة الشخصية ومرحلة الأحداث التي تمر بها، و أستطيع القول بأنه من الأفلام القليلة مؤخرا التي استطاعت ان توظف المشاهد الموسيقية بأفضل توظيف لخدمة القصة. من المونتاج الحيوي وتنقله السلس لعدة أحداث، النص السينمائي بسرده الغير الخطي، والتصوير السينمائي الملون الذي جعل الفيلم يحوي طابع الحكاية الخيالية كـ ساحر أوز أو أفلام ديزني .. كلها أمور جعلته عملا متميزا.
مشاهدة هذا الفيلم تجربة رائعة ومؤثرة، عند ختام الفيلم تشعر وانك تريد البكاء من الأحزان التي حدثت لماتسوكو، وكيف ان حتى اخر لحظاتها في الحياة انتهت بمأساة .. هذه قصة فتاة عاشت عواقب اختياراتها الخاطئة طوال حياتها، فتاة أرادت فقط أن تُبادل بشعور الحب والاهتمام، فتاة اعطت كل شيء للغير ولم تأخذ شيء بالمقابل .. ولكن كما يقولون، أن المرء حياته تقيم بما يعطي لا بما يأخذ. فيلم ممتاز يستحق المشاهدة.
ساحة النقاش