المحامية : أسيمة النابلسي
سنة النشر :2006
تطورت فكرة الإنسانية على مرّ العصور، وبرزت فكرة صياغة القانون الإنساني لغاية حماية الإنسان من شرور الحرب ومن التعسّف في استعمال الحق. وذلك بهدف المحافظة على البشر وتوحيدهم وتحريرهم ممن يريدون السيطرة عليهم أو تدميرهم أو استعبادهم. وكان هذا التطور متلازماً دائماً مع تطور الحضارات.
فقانون حمورابي ملك بابل، يبدأ بالكلمات التالية: (إني أقرّ هذه القوانين كيما أحول دون ظلم القوي للضعيف)، وكان يلجأ إلى تحرير الرهائن مقابل فدية.
(والأعمال السبعة للرحمة الحقيقية) في الحضارة المصرية القديمة تنص على: (إطعام الجياع، وإرواء العطاش، وكسوة العراة، وإيواء الغرباء، وتحرير الأسرى، والعناية بالمرضى، ودفن الموتى).
أما الرحمة الإنسانية في الإسلام فكان لها من البلاغة أروع ما قيل فيها، وكان ذلك على لسان أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، حين أوصى الجيش الإسلامي المتجه إلى بلاد الروم بأن
لا يخونوا ولا يغدروا ولا يغلّوا ولا يمثّلوا، ولا يقتلوا طفلاً أو امرأة أو شيخاً، وأن لا يحرقوا نخلاً، ولا يقطعوا شجرة، ولا يذبحوا شاة أو بعيراً إلا للأكل. وقال لهم: إذا مررتم بقوم تفرغوا للعبادة في الصوامع فدعوهم وما تفرغوا له.
إذاً فالقانون الإنساني منبثق عن قوانين الحرب المتعارف عليها المكتوبة وغير المكتوبة، وعن المعاهدات القائمة بين الدول، والحرب قديمة قدم نشوء الحياة البشرية على الأرض، وهذا القانون قائم على فكرة أن (العدو يظل إنساناً في كل الأحوال). والمبادئ الإنسانية تنتمي إلى جميع الشعوب، ومعاناة البشر يتساوى جميع الناس في التعرّض لها وفي الحساسية إزاءها.
والقانون الدولي يهدف إلى تنظيم العلاقة بين الدول والتخفيف من معاناة الناس. ويتبنى ويعلن من القواعد والمعايير ما هو صائب وصالح في كل مكان بسبب اتفاقه تماماً مع طبيعة البشر، لذا يعتبر ملزماً.
وتقرّ الدول أن قانون المعاهدات والقانون الدولي العرفي هما المصدران الأساسيان للقانون الدولي الإنساني ومن ثم يصبحان ملزمين على هذا الأساس، وهذا ما يحدّده النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. وعلى الرغم من تطور قانون المعاهدات بشكل جيد إلا أنه لا يوجد سوى القليل من القواعد التي تنظم المنازعات غير الدولية وأهمها المادة الثالثة المشتركة بين المعاهدات الأربعة فهي مفيدة إلى حد كبير إلا أنها ليست كاملة، فهي مثلاً لا تتناول المسائل المتعلقة بإدارة الأعمال العدائية. ولتدارك النقص بشأن المنازعات غير الدولية، ودون اللجوء لمعاهدات جديدة تحتاج إلى تصديق الدول من أجل تفعيلها، ظهرت فكرة النظر في مصدر آخر للقانون الدولي ألا وهو القانون الدولي العرفي الذي يتمتع بميزة أنه ملزم لجميع الدول ولجميع الأطراف حتى الجماعات المتمردة في النزاعات المسلحة الداخلية، كما أنه محايد من الناحية الثقافية، حيث يأخذ بالاعتبار ممارسات ومعتقدات جميع الدول في العالم.
والقواعد التي تم تحديدها كقانون دولي عرفي يمكن أن تنفذ على كل دولة، وسيكون هذا مفيداً بصفة خاصة عندما لا تكون الدول قد صدقت على البروتوكولين الإضافيين، أو على اتفاقية الأمم المتحدة بشأن أسلحة تقليدية معينة، وبروتوكولاتها، واتفاقية لاهاي بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالات النزاع المسلح، وبروتوكولاتها. فليس ضرورياً أن تقبل الدولة رسمياً بقاعدة معينة لكي تكون ملزمة لها طالما أن ممارسة الدولة التي تستند إليها القاعدة هي في العموم "واسعة النطاق ونموذجية ومنتظمة فعلاً" ومقبولة باعتبارها قانوناً. وهي قواعد غير مكتوبة ولتحديد وجودها يجب البحث في ممارسات الدول، وأن يقتنع المجتمع الدولي أن هذه الممارسة مطلوبة كأمر قانوني.
كما يشكل تطبيق القانون الدولي العرفي في المحاكم الوطنية والدولية مثالاً بارزاً لصفته الملزمة. ولتحديد هذه الممارسات الدولية، وإقناع المجتمع الدولي باعتمادها كأمر قانوني، دعا في كانون الأول عام 1995 المؤتمر الدولي السادس والعشرون للصليب الأحمر والهلال الأحمر اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى إعداد تقرير عن القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني المطبقة في المنازعات المسلحة الدولية وغير الدولية، وقُبلت الدعوة، وشُكّلت لجنة توجيهية لإرشاد الدراسة، وبدأ البحث في عام 1996 وقد أجرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر دراسة في 5000 صفحة، تم التعرف فيها إلى 161 قاعدة من القانون الدولي الإنساني العرفي تمنح الحماية القانونية للأشخاص المتضررين من الحرب، وتستند هذه القواعد إلى ممارسة الدول (الواسعة النطاق والنموذجية والمنتظمة فعلاً) وقد تبين أنها، على هذا الأساس، قواعد ملزمة عالمياً.
أما الغاية من هذه الدراسة فتكمن في تطبيق القانون الإنساني العرفي على جميع النزاعات المسلحة الدولية منها وغير الدولية، وإلزام جميع الأطراف بها سواء كانت قد صادقت على الاتفاقيات والمعاهدات أم لم تصادق، فالقواعد العرفية ملزمة للجميع.
ففي حين حظيت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 على تصديق عالمي لها، لم يكن التصديق على معاهدات القانون الدولي الإنساني الأخرى جامعاً، وهذا مثلاُ حال البروتوكولين الإضافيين لعام 1977. إلا أن الدراسة بينت أن عدداً كبيراً من القواعد والمبادئ المدرجة في هذه المعاهدات هي قواعد عرفية مثل الكثير من القواعد التي تحكم سير العمليات العدائية ومعاملة الأشخاص الذين لا يشاركون أو كفّوا عن المشاركة المباشرة في العمليات العدائية، وتطبق هذه القواعد والمبادئ باعتبارها جزءاً من القانون الدولي العرفي على كل الدول بغض النظر عن انضمامها إلى المعاهدات ذات الصلة. إضافة إلى ذلك وبالرغم من أن معظم النزاعات المسلحة المعاصرة هي بطبيعتها نزاعات غير دولية، فإن قانون المعاهدات الذي يتناول مثل هذه النزاعات يبقى محدوداً بعض الشيء.
وأظهرت الدراسة أن ثمة عدداً كبيراً من القواعد العرفية في القانون الدولي الإنساني تعرّف التزامات الأطراف في نزاع مسلح غير دولي تعريفاً أكثر تفصيلاً من قانون المعاهدات، وهذا ما يبدو واضحاً في القواعد التي تحكم سير العمليات العدائية، فعلى سبيل المثال، لا يحظر قانون المعاهدات صراحة الهجوم على الممتلكات المدنية، في حين وضع القانون الدولي العرفي مثل هذا الحظر.
كما ويمكن أن يكون القانون الدولي الإنساني العرفي مفيداً أيضاً في الحروب التي يقودها تحالف. فالنزاعات المسلحة المعاصرة تشرك غالباً مجموعة من الدول المتحالفة، فإذا لم ترتبط الدول الأطراف في مثل هذا التحالف بنفس الالتزامات التعاهدية لأنها لم تصدق على نفس المعاهدات، فالقانون الدولي الإنساني العرفي يمثل تلك القواعد المشتركة بين جميع أعضاء التحالف، ويمكن الاعتماد على هذه القواعد باعتبارها المعيار الأدنى لصوغ قواعد مشتركة ملزمة أو لتبني سياسات ذات أهداف معينة. ويشكّل تطبيق القانون الدولي العرفي في المحاكم الوطنية والدولية مثالاً بارزاً لصفته الملزمة.
وبما أن القانون الدولي الإنساني ينظم العلاقات بين الدول كما وينظم النزاعات المسلحة التي تحصل بينها، وأيضاً فإن بعض قواعده تنظم النزاعات المسلحة التي تحصل بين دولة ومجموعة مسلحة معارضة أو فيما بين مجموعتين مسلحتين، ومن ثم تطبق هذه القواعد على كل الأطراف في نزاع مسلح غير دولي سواء كان دولة أم مجموعة مسلحة معارضة وهذه القواعد ملزمة لجميع الأطراف. إلا أنه قد تتعرض قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي إلى الانتهاك، وهذا وارد في جميع القوانين سواء كانت دولية أم وطنية، إلا أن هذا الانتهاك الذي تدينه الدول الأخرى ومن ثم تنكره الدولة المتهمة يعزز من القاعدة ويثبتها، مثال ذلك نجد أنه بالرغم من حصول عمليات هجوم على المدنيين في النزاعات المسلحة، فإن هذه العمليات تتعرض إلى الانتقادات، ويسعى الطرف المتهم بها إما إلى إنكارها أو الادعاء بأنها غير مقصودة، وتشكل مثل هذه الإدانة وهذا التبرير اعترافاً ضمنياً بتحريم الهجوم على المدنيين.
وفي حال حصول انتهاك فإن المسؤولية تقع على عاتق القادة العسكريين، لأن عليهم ضمان احترام قواتهم للقانون، ويمكن أن ينفذ القانون بالطرق الدبلوماسية وبواسطة المنظمات الدولية، عبر تدابير يتخذها مجلس الأمن في الأمم المتحدة، أو بتطبيقها في المحاكم الوطنية أو الدولية مثل محاكم الأفراد المسؤولين عن انتهاك القانون.
هذه الدراسة الشاملة التي قامت بها اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر تنوي استخدامها إلى أبعد حد ممكن في عملها لحماية ضحايا النزاعات المسلحة في العالم ومساعدتهم.
ويمكن أن يستخدم هذه الدراسة أي شخص يهتم بموضوع القانون الدولي الإنساني. ويشمل ذلك الأكاديميين والمنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. وتكون الدراسة مفيدة بشكل خاص في العمل اليومي للهيئات القضائية والحكومية المعنيّة بحالات النزاعات المسلحة.
كما وتساعد هذه الدراسة المحاكم الدولية في عملها حيث أنها غالباً ما يتعين عليها البحث في ممارسات الدول من أجل تحديد وجود قاعدة في القانون الدولي الإنساني العرفي تتعلق بالمسألة المحددة التي تنظر فيها.
كما ويمكن أن تكون مفيدة للحكومات، إذ تساعد بتقديم المبادئ التوجيهية في تناولها للمسائل المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني.
كما ويمكن للمحامين العسكريين أن يستخدموا الدراسة باعتبارها معلومات أساسية يستندون إليها في صياغتهم للكتيبات العسكرية أو قواعد الاشتباك. ويمكن استخدامها أيضاً في تحليل شرعية أعمال عسكرية معينة.
وتسعى اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر من وراء هذه الدراسة إلى تعزيز الوعي بالقانون الدولي الإنساني العرفي، وتعريف الدول والقوات المسلحة والجماعات المسلحة المعارضة والمجتمع المدني بالقانون الدولي الإنساني. وستقوم بنشر الدراسة في أنحاء مختلفة من العالم فتوجهه إلى الخبراء القانونيين والممثلين الرسميين.
المحامية
أسيمة النابلسي
دمشق ـ سوريا
ساحة النقاش