بوابة على درب الهدى

اقتران العلم و الدين و المعارف

على الطريق الواصل بين قريته و بين الشارع الذي يربط هذه القرية بالمدينة ، كان عباس و برفقته ابنته ’’ براءة ’’ يمشيان متوجهان إلى الشارع و برغم عدم موافقة براءة على المجيء مع والدها فقد أصر عباس على اصطحابها معه و لم يراعي برودة الطقس و قسوته على هذه الفتاة الصغيرة التي لا يتجاوز عمرها الثانية عشرة .

كان كلما اقترب من الطريق يشعر بالتعاسة و الاشمئزاز لأنه يدرك بأن هناك سينتهي كل شيء ... دفعة واحدة و ينتهي كل شيء ... كلما مشى خطوة ينظر إلى ابنته براءة و يتأملها و كأنه يريد أن يملي عينيه من النظر إلى فتاته ، كان يقول في نفسه : ما ذنب هذه الفتاة المسكينة أن تدفع الثمن ، و تتحمل جميع الآثام مع أنها بعيدة كل البعد على أن تكون أخطأت بشيء و مع هذا هو مصر على تنفيذ ما يصبو إليه ... ذلك أن الجوع و الفقر أصبحا عدوان لدودان لبني البشر ... هذا الفقر الذي أصر على ملازمته رغماً عنه حتى بات اسمه مرتبط باسم الفقر و كأنه كنية أو لقب لا يمكن أن ينفصل عنه ... حاول أن يؤمن لزوجته و بنتاه الاثنتين و ولده الوحيد كل متطلبات السعادة ... حاول أن يجعلهم يعيشوا كما يعيش أقرانهم فلم يستطع ، لم يعد يتحمل نظرات أولاده إلى نوافذ الجيران بحسرة كسرة خبز أو ملعقة لبنة أو ما هو منقرض من حياته اللحم و الفواكه ... كان أولاده ربما يقضون العام تلو العام دون أن يغيروا ما عليهم من ملابس حاول المستحيل فلم يستطع أن يحسن أحواله ...

كان عمله سابقاً ممتاز و هو كفيل بأن يرد الروح إلى أسرته المتواضعة و ذات يوم وقع من علو ثلاثة أمتار و هو يطين أحد الجدران ، وقتها هنأه كل من يعرفه و قالوا له إنك يا عباس محظوظ و لقد كتب لك عمر ثاني فقد نجا من هذا الحادث و لكنه ابتلي بإصابة دائمة في رجليه جعلته يعجز فيما بعد عن أي عمل ...

فالعمل في قريته كله يحتاج إلى بنية قوية و صحة جيدة و تناسق في الأطراف ، و يوماً بعد يوم كانت المصائب تنهال عليه و على أسرته حتى أنه بات يمد يده و يجعل من نفسه سارق و هو لم يبغي من ذلك إلا أن يسد أفواه أولاده الجائعة و بما أنه غير محترف السرقة و يمارسها لأول مرة فقد كشف فوراً و القي القبض عليه ... و هيهات من يصدق بأنه سرق ليأكل و هو يعرف بأن من سرق ليأكل معذور ، أو هكذا سولت له نفسه تبرير الموقف و النتيجة كانت ثلاث سنوات قضاها في السجن بعيداً عن زوجته و عن أولاده الثلاثة ، عاشها و هو يعد الثواني و الدقائق لتنتهي هذه المدة .

كان فكره مشغول بأسرته و كيف ستؤمن حياتها ... لقد أيقن بأنه سيخرج من السجن و لن يرى أسرته مرة أخرى ، لأنه يعتقد بأنهم سيموتون من الجوع قبل أن تنتهي المدة ، و هذا الهاجس يبقى مرافقه إلى أن تأتي زوجته لزيارته ...

كان يسألها على الفور : كيف حال الأولاد ؟ و هل مازالوا على قيد الحياة ؟ فتجيبه : بخير ؟

و يأتي السؤال الثاني كما العادة : و من أين تؤمنين لهم معيشتهم ؟ و كل مرة يسأل عباس زوجته هذا السؤال تحتار في الإجابة و تتردد و في الأخير تقول له : إني أعمل ، أخيط بعض الثياب و آخذ عليها بعض النقود .

كان عباس لا يرتاح إلى جواب زوجته و لكنه كان مضطر أن يصدقها و خصوصاً و هو في هذا الظرف حيث لا حيلة له .

و في النهاية الثلاث سنوات مضت بشق الأنفس بعد أن مات ثم عاش ثم مات ثم عاش أكثر من ألف مرة

و عاد إلى قريته و إلى بيته .... كان منزله كما هو وأولاده كبروا  و أصبحوا شباب بنظره و هذا يزيد مشاكله فعليه أن يؤمن مصاريف دراستهم ومتطلباتهم التي تكبر كل يوم أكثر فأكثر...

و بخروجه من السجن أصبح عاجزاً أكثر مما كان عليه فهو في السابق كان لا يجد العمل بسبب أنه عاجز أما الآن فهو عاجز وحرامي وهذا ما يفكر به الناس تجاهه ... فمن يقبل أن يساعده و يقدم له أي عمل ...

أدرك عباس بأنه قد انتهى لا محال و كان يسأل نفسه أحياناً كيف كانت زوجته تؤمن معيشة أولادها بغيبته و سألها مرة عن آلة الخياطة التي لم يراها منذ خرج من السجن فأجابته بأنها قد باعتها و تصرفت بثمنها ... لم يقتنع بهذا الجواب و خصوصاً أن أهل القرية كانوا ينظرون له بنظرات مزعجة و بعض الألسن كانت تأخذ بطرف عرضه أحياناً ...

أدرك حجم المصيبة و مع هذا لا يمكن أن يتكلم أو يفعل شيء ... و ماذا باستطاعته أن يفعل ، هل يطلق زوجته و يخسرها و يحرم أولادها منها ، سخط على حياته و لعن الظروف التي أوصلته إلى هذا المصير و ما أصعب أن يطعن المرء بعرضه و يسكت و أين ذهبت رجولته ... و هذا كله لم يؤثر عليه بقدر ما كان يحزن عندما يرى إحدى بناته ُُ براءة ُُ تضغط بيدها على معدتها و تشكو من الجوع  و هي غاليته و أعز ما عنده بل أغلى من نفسه ، كان يتقطع و هو يراها تشكو لذلك اصطحبها معه بمشواره هذا الدموي ... و كان يعلم  بأنه عندما يصل إلى الطريق ستنتهي آلامها ... دفعة واحدة تحت عجلات سيارة مارة و تنتهي آلامها ... كان يعلم بأن ذلك جريمة و يعلم بأنه سيزهق روحاً بريئة و لكن أهون عليه أن يرى

غاليته براءة تموت  من أن تعيش عيشة الذل و الفقر كما هو يعيشها ...

عندما وضعت زوجته هذه المولودة كان يحلم بأن يدرسها و يجعل منها شخصية لها مكانتها في المجتمع و عندما علم أن هذا لن يحدث و لن يستطيع أن يقدم لها على الأقل متطلباتها الأساسية عزم على فعلته هذه و رحلته الجنونية رحلة الموت

لم يكن خائفاً من أن يلقى به في السجن على جريمته هذه لأنه يعلم بأنها ستسجل هذه الجريمة قضاء و قدر ، سيارة مسرعة و لحظة غفلة أودت بحياة هذه الفتاة إلى مثواها الأخير .

كل هذه الأفكار كانت تراوده و هو يمشي و كلما مشى خطوة أقترب من الطريق الذي بات ظاهراً له

كان ينظر إلى فتاته براءة بعيون من عطف الأب أحياناً الذي يحب ابنته و يتمنى أن يسعدها و أحياناً بعيون قاتل مجرم خطط لجريمته و يسعى لتنفيذها و مع كل ذلك يتمنى أن يأخذ ابنته في أحضانه و ينهال عليها بالقبلات فما هي إلا  دقائق و يصبح هذا الجسد الغض لروح بريئة سيرتمي تحت عجلات سيارة مجنونة و عندها سيفقدها إلى الأبد و سيحرم من تقبيلها مرة أخرى ...

كانت أفكاره تراوده بأن يعدل عن فكرته و يرجع دون تنفيذ هدفه و ذلك محبة ببراءة و عطفه عليها ثم يقول في نفسه لا  محبة بها يجب أن أنهي آلامها و أخلصها من هذه الحياة القاسية ... و لن أدعها تجبر في يوم من الأيام أن تفعل كما فعلت أمها الخائنة ... كان الأجدر بي أن أقتل أمها و لكني لا أحبها لذلك عليها أن تعيش و تعاني مرارة الأيام ... أما براءة فيجب أن تسعد و تعيش أيام حلوى و لكن ليس على هذه الأرض الفاسدة ستعيش أجمل الأيام في الجنة حيث قدرة الله سترعاها ، وعلى الأقل سوق يقل عدد أفراد أسرتي و قد أستطيع أن أؤمن لهم معيشتهم و إن لم استطع يجب أن يكون مصيرهم مصير براءة ذاته ... سوف ننتقل و نعيش كلنا في الجنة ...

و لكن هل أدخل الجنة أنا ... لا أعتقد ... المهم أن يعيشوا هم بالجنة و أنا لا أبغي أكثر من ذلك فلا يهم أمري مقابل أن يعيشوا سعداء .

في هذه الأثناء وصل عباس و ابنته إلى الشارع و وقفا بجانب الطريق ، كان عباس متلهفاً لقدوم أي سيارة لتنهي عذابه و عذاب ابنته قبل أن يعدل عن رأيه و يضعف أمام محبة ابنته و غلاوتها في قلبه ... انتظر بعض الوقت و ها هو صوت محرك قادم ... ها هي ذي السيارة قادمة .

و كلما اقتربت أكثر تتأجج مشاعره و يزداد انفعالاً و يزداد تمسكاً بابنته التي احتضنها و أخذ يضغط على جسدها بكل قواه ليتلمس هذا الجسد الذي سيصبح بعد لحظات جثة هامدة ......

سألته ابنته بلهجتها الطفولية الرقيقة : بهذه السيارة يا أبي سنذهب إلى المدينة حيث هناك كل ما نتمناه و نشتهيه ...

اغرورقت عينا عباس بالدموع و أجابها : نعم يا ابنتي بهذه السيارة ستذهبين إلى الجنة حيث كل ما تشتهيه ، سوف تسعدي كثيراً و تري كل الذي لم تريه من قبل و تأكلي اللحم و الفواكه و تلبسي من الحرير و الذهب و تصبحي أميرة بل ملكة ... بل ملاك يا ابنتي ، صدقيني سوف تحققي كل الذي ترغبي به .

تأثر عباس بكلام ابنته و براءته و عدم معرفتها بمصيرها المحتوم و تمنى لو أنه مات أثناء الحادث قبل أن يرى نفسه مجرماً و قاتلاً و لمن ؟ لأعز مخلوقة و أطهر مخلوقة على قلبه ...... فتاته براءة .

السيارة تقترب ألف متر و تصل إلى حيث يقفا ... تهيج عباس و استعد لتحقيق ما جاء من أجله ... أمسك بابنته و كان يعلم ما يريد ... دفعة واحدة و ينتهي كل شيء

مائة متر و تصل السيارة ... أعصابه انهارت و شعر بأن يداه تجمدتا و حاول أن يحركها ... لم يستطع ... و اهتزت مشاعره هزة واحدة و أخذ يصرخ بأعلى صوته و كأنه مجنون فقد عقله .............

لا ... لا لن تكوني أنت يا براءة فأنت بريئة و حرام علي ما أفعله أنا المجرم و ألقى نفسه في منتصف الطريق ... السيارة وصلت ... صرخت براءة بأعلى صوتها و يد والدها تنسحب من يدها : أبي .. أبي .. ماذا تفعل ؟

حاولت أن تمسك بيد والدها و تسحبها قبل أن تنفلت منها ... لم يفد ذلك ... جسد تهاوى بجانب الطريق من الطرف الآخر و سقط على الأرض جثة هامدة ......

توقفت السيارة نزل منها السائق و اقترب من براءة ، قال لها : أنا آسف يا ابنتي و لكنك تعلمين بأنني لست السبب هو من رمى نفسه تحت العجلات ... أنا لله و أنا إليه راجعون ...

ركبت براءة السيارة بعد أن وضعت جثة والدها المسكين فيها تحركت عجلات السيارة و مشت بسرعة إلى المدينة حيث كل ما تشتهيه براءة و تريده .

المصدر: من تأليفي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 421 مشاهدة
نشرت فى 24 إبريل 2012 بواسطة fouad-ab

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

34,320

ابحث