لا شيء أعظم من خيانة اللّغة إلّا الصّمت
فراس حج محمد
سيّئة أحوال السّجون العربيّة، الّتي يعيش فيها السّجناء أوضاعا صعبة. يبدو أنّ كلمة "صعبة" كلمة باهتة وخجولة، نظرا لما يعانيه هؤلاء السّجناء من أصناف التّعذيب المبرمج والخارج عن المنطق واللّا إنسانية، إنّها تبدو حقيقة واقعة، وترسّخت في الوعي أنّ الدّاخل لتلك السّجون مفقود والخارج مولود، سجناء ليس جريمتهم سوى أنّهم سياسيّون ليسوا إرهابيّين ولا رافعي سلاح ضدّ النّظام، اللّهم إلّا أنّهم وظّفوا حقّهم كبشر ليقولوا: "لا"، فقال لهم النّظام: "لا" أيضا، ولكن على طريقته القمعيّة المعهودة. إنّ بعضا من هذه الصّور القمعيّة مرصودة في كتاب "خيانات اللّغة والصّمت" للشّاعر والصّحفيّ السّوريّ فرج بيرقدار(من مواليد حمص عام 1951)، والصّادر عام 2006 عن دار الجديد في بيروت، ويقع في (182) صفحة، بما فيها ملحق لمرافعة الكاتب أمام محكمة أمن الدّولة العليا عام 1993، ويوثّق الكاتب معاناته وتجربته الشّخصيّة في السّجن امتدّت لأكثر من أربعة عشر عاما، بتهمة الانتماء لحزب العمل الاشتراكيّ. ويحفل الكتاب بمشاهد مؤلمة وقاسية لصور مسالخ السّجون السّوريّة، (سجن تدمر الصّحراويّ، وسجن صيدنايا العسكريّ وفروع الأمن والمخابرات العسكريّة).
بدت تلك السّجون في الكتاب، ككلّ السّجون العربيّة الأخرى، تغصّ بالعذابات والجنون، كما تغصّ بالقيادات والمثقّفين والسّياسيّين والشّعراء والكتّاب والمناضلين السّلميّين، كما يكثر فيها المحبوسون على "لا شيء" سوى سوء فهم لا أكثر، سجناء كبار وصغار، نساء وأطفال؛ لم يبلغوا السّنّ القانونيّ، لقد أفرز النّظام القمعيّ الدّكتاتوريّ العربيّ أدواته الجنونيّة لترويض العزائم وكسر الإرادات وتحريم أن تكون إنسانا تحترم جوهرة العقل، إذ إنّ هذا الوطن غدا غير صالح للعيش الآدمي، فما عليك إلّا أن تأكل وتشرب وتنام، فما أنت إلّا حيوان صامت، وفي أحسن أحوالك مصفّق للنّظام، أيّ نظام، وإلّا ستحارب برزقك، وتساوم على كرامتك وإنسانيّتك وحياتك، وهاتف بأعلى ما لديك من قهر: "يعيش النّظام"، ولتسقط الحرّيّة بعدها في "وهدة العدم"، لذلك فإنّ الكاتب أشار في مرافعته أمام المحكمة إلى ذلك عندما انتقد الدّولة قائلا: "إنّ دولة تُعْتبر الكلمةُ فيها جريمة يُحاكم عليها المرءُ، هي دولة غير جديرة بالحياة، ولا حتّى بالدّفن، وبشكل خاصّ ذلك الطّراز من الدّول الّتي تُفْتَرَسُ فيها الكلمة بالسّياط والبنادق والزّنازين"./ (ص167)
لم يكن الكاتب هو الوحيد الّذي تعرّض للسّجن السّياسيّ على خلفيّة معارضة النّظام، فقد تعرّض قبله وبعده كثير من الأدباء والمثقّفين والكتّاب للسّجن على خلفيّة سياسيّة في السّجون العربيّة، من قوميّين واشتراكيّين ويساريّين وإسلاميّين، وحتّى ليبراليّين، وفي أنظمة جمهوريّة وملكيّة، وناقش تلك المعضلة السّياسيّة والإنسانيّة كثيرٌ من الكتابات ووثّقها أصحابها في مؤلّفاتهم، ولعلّ رواية "شرق المتوسّط" لعبد الرّحمن منيف تظلّ الشّاهد الأبرز على معاناة السّجين السّياسيّ، وما يتعرّض له من ألوان التّعذيب المفضي إلى الموت أو الجنون أو توريث عاهة دائمة، عدا انكسار الذّات والرّوح والنّفس، وربّما أبعد من ذلك، قد تصل إلى حدّ كراهية هذا الوطن، والفرار منه إلى جحيم المنافي غير الرّحيمة، بل ربّما يتمنّى الإنسان لو "يستطيع أن يكون كما لو أنّه لم يكن"/ (ص151).
تبدو مشاهد رواية "شرق المتوسّط" وأحداثها باهتة عمّا وجد في هذا الكتاب، على الرّغم من أنّ الرّواية تستند إلى وقائع حقيقيّة أيضا (مذكّرات السّجين العراقيّ حيدر الشّيخ عليّ)، لكن ثمّة ما يجعلها أقلّ ألما؛ وهو تعامُل القارئ معها على أنّها رواية، وما تحيل إليه من عالم مُتخيّل، إنّ هذا العقد المبرم ما بين الكاتب والقارئ يخفّف من حدّة التّأثير النّفسيّ للرّواية والأحداث، أمّا في هذه "الخيانات" فثمّة ما هو واضح وصريح أنّه حديث مباشر عن تجربة حقيقيّة، فالشّخص الرّاوي ليس فقط ساردا، بل كان سجينا سياسيّا عاش تلك التّجربة المؤلمة على نحو فظيع، بل أكثر من ذلك بكثير، ممّا يعني عجز اللّغة عن أن تحمل التّجربة بكامل المعنى والمدلول النّفسيّ أو الخراب الرّوحيّ والتّهدّم البنيويّ للجسد الآدميّ معا سواء بسواء، إنّ المعنى المعيش والمتصوّر في الذّهن أكبر من أن تعبّر عنه تلك الخيانة اللّغوية: "يؤلمني أن أتّهم اللّغة بالخيانة، أو أطعن بأصالتها كوسيلة للتّعبير، أشعر أنّها مخذولة وعاجزة عن أيّ مقاربة مقنعة لما أريد"./ (ص150)
لقد حاول هؤلاء السّجناء النّضال أيضا داخل السّجن، ليكسبوا على الأقلّ صفة السّجين السّياسيّ دون إهانات أو عزل انفراديّ، فجرّبوا الاحتجاج والإضراب عن الطّعام، ولكنّهم لم يستطيعوا تحقيق كثير من الإنجازات في تحسين شروط معيشتهم. يا للسّخرية المُرّة عندما يلجأ السّجين لتحسين أوضاع سجنه، إنّها تراجيديا مؤلمة بالفعل، لقد وصل السّجناء إلى نقطة لم يعودوا يستطيعون عمل أيّ شيء. فهل ينتظرون معجزة؟ وأيّ معجزة تنتظرهم؟ هل هي من داخل السّجن أم من خارجه؟ فمن أين تأتي تلك القدرة للإنسان ليتصالح مع الخراب والموت، ويحوّل واقعا غير إنسانيّ إلى مقام شعر وفرح مسروق؟ إنّها محاولة أن تكون إنسانا، وتظلّ إنسانا تتمتّع بتلك القوّة المختزنة في الرّوح تجابه الطّغيان الّذي لا يتوانى عن سحقك، ثمّة ثمن مدفوع للحرّيّة، لكنّه باهظ جدّا، ولكن لماذا على السّجين فقط أن يدفع هذا الثّمن؟ أين النّاس في الخارج؟ لماذا لا يقومون بما عليهم، هنا تبدو الخيانة الثّانية المعلن عنها في عنوان هذه التّجربة "خيانات اللّغة والصّمت"، والمصرّح بها في ثنايا الكتاب. يقول فرج بيرقدار عن تلك الحالة من العجز، وربّما اليأس من التّغيير: "رجاء لا تزايدوا علينا، أنتم أيضا في الخارج لا تحركون ساكنا، هذا إن لم تكونوا أكثر من ذلك"./ (ص135)
من بين هذا الرّكام من الخراب تتسلّل من بين ثنايا الكتاب بعض المواقف الّتي تشعرك بما يتمتع به الكاتب من روح مقاومة، وخاصّة فيما يتعلّق بمسالّتين: الشّعر والمرأة، بل إنّه يعلن منذ المقدّمة أنّ للشعر تأثيرا إيجابيّا فيه، "لو كنت سياسيّاً فقط، لكان يمكن أن أنهزم، غير أنّ الشّعر استطاع أن ينقذني، ويعطي حياتي في السّجن معنى مختلفاً وقيمة مختلفة عما يراد. ما من شيء يستطيع أن يشدّ القوس بي إلى النّهاية أكثر ممّا يفعل الشّعر"/ (ص13)، لعلّ كثيرين غيره قاوموا عبث السّجن بالشعر قديما، من أمثال أبي فراس الحمدانيّ، وبالكتابة عموما نثريّة وشعريّة في العصر الحديث، على الرّغم من أنّ الكتابة داخل السّجن مغامرة ومحفوفة بالمخاطر، بل لا تتوفّر إمكانيّات لذلك، فلا أوراق ولا أقلام، فكان الكاتب بيرقدار يدّرب ذاكرته على الحفظ، ويطلب من رفاق السّجن حفظ قصائده، حتّى لا تضيع، إنّها محاولة أخرى للانتصار وإن كانت شخصيّة وفرديّة. لقد حضر الشّعر في سياق مقاومة السّجن إلى هذا الحدّ الّذي يعلن عنه: "يعرفون أنّه ما لم تنهزم أنت بروحك وقصائدك ونبوءاتك، فإنّ جميع الهزائم الأخرى تبقى غير نهائيّة"./ (ص149)
هل بوسع الشّعر أن يكون له كلّ هذا السّحر وهذا الجمال وتلك القوّة؟ بدا كذلك بالنّسبة للكاتب هنا، "وحده الشّعر كان يمكن أن يشرف على ذلك الفردوس المفقود، ووحدها صلوات الأمل كان يمكن لها أن تجعل الزّرقة أكثر قابليّة لتجلّي الرّحمة والأنوثة". إنّ الشّعر أضحى عنده تجلّيا للجمال بصورتين؛ المرأة والأنوثة، وما تحيلان إليه من حرّيّة بمقابل ذلك السّجن البغيض الّذي قال عنه: "السّجن ذكورة افتراسيّة كبرى والحرّيّة أنوثة رحمانيّة قصوى". / (ص154)
ليس هذا وحسب، بل إنّ الشّعر تسلّل إلى لغة الكاتب، وكأنّه يقتنص اللّحظة ليكتبها، فيستولدها من بين ذلك الخراب الكامل في السّجن، إنّه يلاحظ الشّعر وولادته في هذا المشهد: "قد تكون الذّكرى الوحيدة الجميلة في تدمر هي تلك الشّرّاقة الّتي كنّا نرى من خلالها الجزء العلويّ لسروتين متجاورتين، تتهادل عليهما وقت الأصيل حمامتان عاشقتان، واحدة أكثر سوادا من آلامنا، والأخرى أكثر بياضا من أحلامنا"/ (ص84)، ثمّة شعريّة وشاعريّة واضحة أيضا عند الحديث عن ابنته كذلك في بعض مواطن الكتاب، وخاصّة تلك المواقف المعجونة بالحنين والذّكريات.
وكان للمرأة أيضا حضور في الكتاب، وهذا طبيعي جدّا في أدب السّجون، ولعلّه ملمح رئيسيّ فيه، لقد حضرت المرأة أمّا وبنتا وزوجة وحبيبة في العديد من النّصوص، لقد حضرت عند عبد الرّحمن منيف، في شخصيّة الأمّ وشخصيّة الأخت "أنيسة"، وما لهما من دور نضاليّ كبير ومؤثّر في معنويات "رجب"، كشخصيّة روائيّة لها تأثير وعلاقة بالسّجناء الآخرين، وهنا في هذه المذكرات تحضر الأم والبنت الطّفلة ثم الصبيّة اليافعة، والزّوجة كذلك، تلك الّتي عانت من السّجن أيضا أربع سنوات، لقد برزت معاناة الطّفلة بشكل واضح عند فرج بيرقدار، لا سيّما عندما طلب من السّلطات اعتقال ابنته الطّفلة؛ لتكون مع أمّها في السّجن، موقف يصفه هو نفسه بأنّه نوع من الهذيان، ولكن كان لا بدّ منه حتّى لا تُحرم الطّفلة من أمّها.
ينضمّ هذا الكتاب بتجربته الإنسانيّة إلى ذلك الإرث الكبير من الكتابات الّتي وثقت تجارب فظاعة الدّكتاتوريّة العربيّة بكلّ ما تحمل من مآس ومشاهد مؤلمة إلى درجة البكاء المُرّ على واقع يمعن في الخراب، ولم يكن وحده النّظام السّوريّ سيّدا فيها، بل إنّه واحد من سلسلة سجون عربيّة خصّصت لقمع الإنسان وجعله "شيئا منسيّا" في أقبية معدّة للموت البطيء، فيا له من واقع، ويا لها من دكتاتوريّة فاضحة ومفضوحة، تستّر خلفها النّظام بأحكامه العرفيّة مدّعيا أنّها من مستلزمات محاربة الصّهيونيّة، دكتاتوريّة لم تورث الإنسان سوى المرض، والعاهات، والفقر والتّخلف، وضياع الأوطان، دكتاتوريّة لم تورق سوى الخراب المتمدّد في أصقاع الجغرافيا وحنايا الروح المهشّمة. وسيظلّ الوضع المتردّي مُمْعنا في تراجيديّته ما دام الصّمت أكثر حيفا وخيانة من خيانة اللّغة ذاتها، تلك اللّغة، أيّ لغة، فإنّها "ملعونة" إذ "تدّعي أنّ بإمكانها قول ما هو خارجها"/ (ص110)، على حدّ وصف الكاتب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في صحيفة "السلام اليوم" الجزائرية
نابلس/ ديسمبر/ 2017