الانزياح اللغوي في ديوان "غُبار على مرايا البحر"* للشاعر سميح محسن
فراس حج محمد
تقوم اللغة الشعرية أساسا على مفهوم الانزياح، ونقل اللغة بكل مستوياتها الصرفية والنحوية والدلالية من حال إلى حال، وهذا ما يميّز الشعر عن غيره من الكلام العادي، وما يجعل الشعر في النثر حاضرا كحضوره في القصيدة سواء بسواء، ويجعل المنظوم المباشر يفترق افتراقا شديدا عن الشعر، فليست منظومة ابن مالك في النحو شعرا وإن انتظمها الوزن ورتّبتها القافية، ويرتفع النثر الصوفيّ إلى مدارج الشعر بوصفه مبنيا على الانزياح المفارق للمدلول المعجمي والتركيبي للغة أو ومنغمسا بكليّته في العبارة الشعرية، ولذلك انفتح مفهوم "الشعرية" عند النقاد إلى ما هو أبعد من مفهوم الشعر المحصور في وزن ووقافية.
وتفترض الحالة النفسيّة الشعوريّة المُتلبّسة روح الشاعر وفكره المتحَ من بئر عميقة يكشفها طبقة طبقة حتى يستخرج ماءها ويسكبها في كأس لها شكل مختلف، بطعم ماء مختلف، لونه لون الماء وشكله شكل السائل الحرّ لكن له مذاقه المفترق عن كل ما يدخل معه في الاشتباه صورة ومذاقاً، ما إن ترشف منه الرشفة الأولى حتى يصيبك الإدهاش وتتولاك الرعشة أو الرعدة الفاتنة.
إن هذا الذي أفترض وجوده حاضرا حضور الشعر في المنجز الإبداعي الجديد للشاعر سميح محسن الذي حلا له أن يَسِمَه بــ "غبار على مرايا البحر"، إذ تتولاك اللغة لتقودك نحو مسارب جديدة مدهشة، فتجوس خلال القصائد متلمّسا جمالها الصّلب والهشّ معا كقطعة غيم محملة بزخّ المطر والعطر في آن واحد.
يصوغ الشاعر سميح محسن جملته الشعرية معتمدا اعتمادا كليا على مفهوم الانزياح، ومفارقة المعاني المعجمية إلى معاني جديدة تفصح عن الرؤى والمعاني بطريقة تحمل ميسم الشاعر المختلف، وهنا يجب عليّ أن أشير إلى أن الشاعر في هذا الديوان "غبار على مرايا البحر" تخلص بهدوء من تلك السمات الأسلوبية التي حفلت بديوانه السابق "سادن الريح"؛ فقد غلب السرد على ذلك الديوان، وأما هنا فالشاعر بوعي أو دون وعي فقد امتطى صهوة أخرى ليضيف جديدا لهذا المشروع الشعري الزاخر. كما أن الشاعر في هذا الديوان لم يلتفت كثيرا سوى في موضعين أو ثلاثة إلى التناص، فلم يشكل ظاهرة تستدعي التوقف عندها. إذن فالشاعر يدرك ملامح شعره، ويتابع البناء، ولا يقف عند ما أنجزه سابقا، بل كل همّه أن يبني ويُعلي بناءه ليتقدم خطوات في معمار الشعر الذي يمتع ويشقي في آن.
العنوان ودلالته الشاعرية:
لا بد من أن يستوقفك العنوان في أي عمل أدبي، فهو الواجهة الأولى التي تدفع القارئ إلى الإقدام أو الإحجام، وبهذا السر النفسي القابع في فلسفة الاسم وتلبسه لكل الكائنات، تبرز الحاجة الماسة لاسم ناصع في الشعر يحقق الرؤيا ويجعل القارئ في حل من المعنى المسبّق.
يبدو العنوان جملة اسمية ناقصة، مبدوءة باسم نكرة متبوعة بشبه جملة من الجار والمجرور مع تركيب إضافي، يجمع فيه ما يدعو القارئ للتأمل، ليكتشف أنه دخل في معمعة التأويل الاستعاري وضجّت به اللغة نحو مفهوم الانزياح بعمق يقترب من الغموض غير المستغلق. أين تمام الجملة إذن؟ هل كان محض صدفة أن يكون اسم الشاعر في سطر سابق على المعنى فيكون هو المبتدأ لنرى أن الشاعر ما هو إلا "غبار على مرايا البحر" أم أن الديوان بكامله هو الخبر لمبتدأ يكون فيه الغبار الموصوف بشبه الجملة فيكتمل بكامل البنية النصية المعنى المراد تمريره في هذا الديوان؟ ومع أن التفسيرين قابلان للاستقرار في النفس ويمنحان النفس بعض رضى، لكنهما يظلان قلقين من احتياج البنية اللغوية للتأكيد المنافي للشك، مع أن اليقين ممتنع في حالة الشعر الحقيقية.
تكتسب الأسماء في العنوان دلالات غير معجمية بحكم تركيبها الخاص، واستعاريتها المحملة بمعان شتى تقلب موازين اللغة، وتدخل في مسارب من البلاغة الدافعة إلى التأويل المستند إلى الخبرة المعرفية بدلالة الأشياء الأولى. فهل يتلبّس الغبار البحر؟ وهل للبحر مرايا متعددة أم مرآة واحدة عاكسة؟ وما هو البحر المقصود؟ لا أريد أن أدخل في متاهات التفسير التي قد تدخلني في عقم التصور المعنوي ولكني أكتفي بالقول إن ثمة انزياحا تركيبيا هائلا وبعيدا في هذا العنوان يحيل القارئ إلى التأمل، ليرى أن الغبار ليس هو الغبار، وأن المرايا ليست تلك المرايا الزجاجية العاكسة، وأن البحر ليس ذلك التراكم اللجي من ماء الملح المحمل بالكثير من التعب المفضي إلى دهاليز الدياجير القاسية.
عناوين القصائد وانزياحاتها الدلالية:
ينقسم الديوان إلى ثلاثة أجزاء؛ جاء الأول تحت عنوان "قبل أن يأتي الغياب" وفيه (14) قصيدة، والثاني حمل معنى "ذات" ويشتمل على (17) قصيدة، والثالث "تضيء مجاز الكلام" ليضم (35) قصيدة، وقبل أن نسند المعنى إلى شبه المعنى أتوقف قليلا عند عناوين الأجزاء الثالثة التي استولت على الأول والثالث اللغة الاستعارية بشكل واضح، وأما عنوان الجزء الثاني "ذات" فيكفي اختياره منكرا ليدخل فيما سيدخل فيه من التأويل المستند إلى انزياحاته الخاصة السياقية.
ومن الملاحظ على عناوين هذه القصائد الستة والستين أنها كانت أجزاء تركيبية من نصوصها، فلم تفترق عنها لا مبنى ولا معنى، فقد وردت في المتن عضويا فيه، وكأن الشاعر يمارس لعبة التكرار على طريقته المراوغة تلك، ما يجعل هذه العناوين إشارات ذات دلالة كبيرة على مفهوم النص ورسائله المعنوية. فلنتأمل معا على سبيل المثال "ورد مفخخ" و"لليل أجنحة"، واحترق بالغياب" و"جرف المغيب"، و"قمر تصدع" و"سحابات بحرك"، وغيرها مما تلاحظ له دلالة سياقية شعرية خاصة في القصيدة التي جاء فيها، وللتدليل على هذا الارتباط بين العنوان والقصيدة أختار قصيدة واحدة فقط للوقوف على ما فيها من انزياحات لغوية وما تحمله من تعالقات نصية.
"باردٌ آخر الكأس" والبلاغة المكثفة:
تنتمي هذه القصيدة إلى الجزء الثالث من الديوان "تضيء مجاز الكلام"، وقد أشرت إلى ما في عنوان هذا الجزء من استعارة إلى درجة الاكتناز بالبلاغة، فتأخذ الإضاءة النصية في العنوان أبعد من وضوح النهار وتبديد عتمة المصقول من ليل السهر، وماذا ستضيء؟ إنها إضاءة الكلام المجازي المستند إلى الانزياح استباقا، مع أن هذا الجزء من الديوان يأخذ عنوانه من عنوان أول قصيدة فيه.
والآن، كيف تبدو القصيدة "بارد آخر الكأس" ضمن سياقها الذي جاءت فيه لتضيء مجاز الكلام؟ تتألف القصيدة من ثلاثة مقاطع قصيرة، جاء المقطع الأول والثالث في أربعة أسطر شعرية لكل منهما، والثاني من أحد عشر سطرا، وكان العنوان "بارد آخر الكأس" مفتتح المقطع الثاني.
الصور الجزئية في القصيدة:
تعتمد القصيدة في بنائها على الاستعارة بشكل لافت فمنذ سطرها الأول والقصيدة متعلقة بالمجاز لعلها تضيء طريق الكلام:
سألقي عليكِ القصيدة شالا من الصوفِ
يا امرأة تكتوي بالحنينِ
إلى عاشق يحتفي في الغيابِ
و"يعزف لحن الرحيل"...
لعل القارئ يدرك الآن مدى اعتماد الشاعر على المجاز لتتحول القصيدة شالا من الصوف، إن الجملة تكتفي بنفسها، فلا يحاول المقطع تفسيرها، إذ لو فسّرها لأفسد الشعر وأغلق التأويل، لذلك فقد عدّل في الخطاب الشعريّ من اللغة الخبرية إلى لغة إنشائية قائمة على النداء، نداء امرأة تكتوي بالحنين، ليصل إلى السطر الثالث فتتوهم أنه تابع إلى ما سبقه من جملة المرأة المكتوية بالحنين، مع أنه أقرب نصا وروحا وتركيبا إلى مفتتح النصّ، فهذه القصيدة المغزولة شالا من الصوف ستذهب "إلى عاشق يحتفي في الغيابِ". فهذا العاشق المجبول بالسهر ليس له غير الاحتفاء في الغياب بالغياب ذاته ليسلمنا إلى نهاية المقطع و"يعزف لحن الرحيل"...، مع ملاحظة انفتاح العزف الممتد المشار إليه بعلامة الترقيم (...).
أما المقطع الثاني من القصيدة فثمة استعارات متشابكة تكثف المعنى وتشير إلى دلالاته النفسية والنصية كذلك:
أوسّد قلبي على صدر فجركِ
حتى تنامي على ساعديّ
تحوم الفراشات سربا من الضوء
تحط على جبهتي
كي تضيء القصيدة
وجهك قنديل ليلي
وظلي ينام على صدرك الغجري
كطفل رضيع يفتّش عن ثدي أم
تعود من الحقل متعبة
بانثيالات يوم طويل...
تقول العبارات أشياء أخرى غير ما في النص من مبنى، فتعتمد على الصورة المجازية "صدر فجرك" و"سربا من الضوء" و"تضيء القصيدةَ" و"وجهك قنديل ليلي" و"انثيالات يوم طويل..."، إن هذا التكثيف في الصورة البلاغية الجزئية يمنح المعنى الكليّ للنص فعل الإضاءة المطلوبة، مع ضرورة الإشارة إلى التشبيه العادي في قوله "كطفل رضيع يفتّش عن ثدي أمّ" إذ لا يحمل في ذاته أي صورة إضافية غير ذلك المعنى المركون في ذهن القارئ، ولولا خاتمة المقطع بانثيالات اليوم الطويل لأصبحت هذه الجملة فائضا لغويا لا معنى لها. إذن هو تعالق العادي مع المجازي لصناعة نص مختلف يقوم على ما يقوم عليه من تأمل ودهشة.
وتتطور القصيدة في مقطعها الثالث نحو مسرب ضوء إضافيّ وضروريّ يفارق في بنائه المقطعين السابقين المبنيين على الجملة الخبرية. هنا يختار الشاعر جملة استفهامية، مع ما يحمل الاستفهام بداية في نفس المُستفهم من تعلق بالإجابة والقلق لمعرفة حدود الإجابة المطلوبة الشافية، وهنا يدخل النص في عصب الفكرة المتمناة في نفس الشاعر صاحب الكأس الباردة في آخرها:
فهل تدخلين ظلالي إلى غيم ليلك؟!
تفيضين ماء عليّ
وتروين روحي اليبابَ
من العطش المستحيل...
هكذا تنتهي القصيدة بهذا السؤال الجريح المحتاج إلى إجابة واحدة مرجوة، لعل "نعم" إجابتها التي يحلو للشاعر أن يسمعها. فهل سيسمعها أم ستظل مفتوحة على أفق الترقب غير مكتملة المعنى؟ وتظل علامة الترقيم (...) أيضا في هذا المقطع دالة على عدم انغلاق القصيدة، ومُنْيَة اكتمالها عندما تحين اللحظة المناسبة.
لم تكن قصيدة "بارد آخر الكأس" سوى مثال عشوائي في الاختيار للدلالة على ما في الديوان وقصائده من أبعاد جمالية وفنية زاخرة بالمعاني الشعرية الطازجة الضاجة بحيوية الشعر، ولعل القارئ للديوان لو تأمل أي نص من تلك النصوص في أجزائها الثلاث لن يجد مشقة في معرفة المزيد من الصور البلاغية المكثفة التي ترتفع بالشعر نحو مصاف الإبداع، لأن الشعر المعبأ بالظلال بانزياحاته اللغوية يظل الأقدر على التصوير والتصور وإحداث الحياة الشعرية بكون شعري متكامل تشير إليه بكل رفعة وأناقة قصائد "غبار على مرايا البحر".
<!--[endif]-->
* صدر الديوان في عمان عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، عام 2016، ويقع في (200) من القطع المتوسط، وسميح محسن شاعر فلسطيني، عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين.