فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

قراءة في "قيادي" لعباس طمبل عبد الله الملك

استعارة النص وانزياخاته الدلالية

فراس حج محمد/ فلسطين

النص:

سأل جنياً عن أسرع وسيلة للغنى، فتشاركا. زرع لدورة ثنائية قمحاً وبصيلات نرجسية، واشترط عليه أخذ ما بان من نبت الأول وللجني ما خفي منه. وفي الثانية أعادا الدورة عكسية والاتفاق، أخذ نصيبه، وأطلق ذئابه...

النص وغواية البعد الثقافي:

يتوسل هذا النص بأفق مفتوح حقولا معرفية متداخلة؛ اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا، ليبني نصا ذا هدف ورسالة عبر وسيط إبداعيّ هو فن القصة القصيرة جدا، ولكنّ هذا النصّ ليس بريئا من غواية محملة من حكايات إنسانية أخرى، ثمة اتكاء ثقافي يستند إليه النص.

يوظف القاص عباس الملك في هذا النص الحكاية الإنجليزية التي تتحدث عن بخل الاسكتلنديين، إذ يتشارك إسكتلنديّ فقير مع جنيّ ليكسبا رزقا من وراء زراعة الأرض، فيتفقا على أن يزرع الإسكتلنديّ الأرض بالتعاقب محصولين مختلفين، بحيث يقسمان المحصول لأحدهما ما هو فوق الأرض وللآخر ما تحتها، وبالمقابل يقوم الجنيّ بمساعدة الأسكتلندي ليصبح غنيا، ويتخلص من الفقر، ويقوم الاسكتلندي بخداع الجني عبر هذا الاتفاق فيزرع في كل سنة ما يتوافق ومصلحته بحيث يكون هو الكاسب الوحيد. ولم تختلف قصة "قيادي" لعباس الملك عن هذا الأفق المعرفي الثقافي، وفي أي قراءة عجلى سيقول القارئ العارف بتلك الحكاية إن الملك قد أعاد إنتاج الحكاية، وقد لا يرى جديدا، فهل من جديد في هذه القصة القصيرة جدا، والتي يعنونها صاحبها بــ "قيادي"؟

كما تحيل هذه القصة إلى ما عُرِف عند العرب من عادة التناهد، فكان من عادة القوم أن يتناهدوا أي يتقاسمون الزاد فيما بينهم إن نووا رحلة أو سفرا، فكان يقدم كل واحد مقدرته ووسعه، وقد ذكر بعضا من ذلك الراغب الأصفهاني في كتابه "محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء" في باب خاص عقده لهذا الغرض سماه "التناهد"، ومن هذا الباب ورد هذه القصة:

وقال بعضهم في متناهديْن (وكان أحدهما بخيلا، وهو في القصة حفص):

وقــال حفص لزيد حين ناهده:   

                   منك النبيذ ومني الدنّ والكـــوز

واللحم منك ومني النار أنضجه   

                 والماء مني، ومنك الخبز مخبوز

كل تلك المعرفة الثقافية هي من حق المبدع أن يوظفها في أي نصّ، ومن حق القارئ أن يجد جديدا في هذا النص مختلفا عن تلك المعرفة، ولعل الملك يدرك هذه المجازفة وخطورتها وأهميتها كذلك؛ فالنص في مستواه اللفظي لم يتعد الحكاية الاسكتلندية، ويذكر بهذه النوادر العربية للبخلاء عموما، وأكاد أجزم أن القاصّ قد استفاد من هذا البعد الثقافي العربي، كما أنه استفاد من القصة الاسكتلندية، فقد لخص الحكاية وأعاد إنتاجها، ولكنه أعطاها بعدا جديدا، وهنا تكمن أهمية التوظيف المعرفي للحكاية الاسكتلندية، فقد جعل الكاتب النص جميعه بمقام الاستعارة التمثيلية ليعطي فكرته التي يرمي إليها، وغدا القارئ واقفا بين منطقتين تمثلت الأولى بعنوان النص "قيادي" والثانية جسم النص، وأراه كما أرى نفسي باحثا عن الفكرة التي تشكلت في العنوان لتكتمل في فضاء من التلقي أبعد من النص نفسه.

ترسم القصة القياديّ الذي تشارك مع الجني، باحثا عن مصلحته الشخصية، يوظف أي اتفاق لتلك المصلحة دون النظر لأي اعتبار آخر إنساني أو أخلاقي أو ضمير، فضميره لم يَخِزه ليشعر بحاجات الآخرين، فكانت كقسمة حفص السابقة في مناهدته زيدا.

يبدو الطرفان مختلفان طبيعة؛ جني وإنسيّ، ويفوق الإنسي الجنيّ في الخديعة، وكأني بعباس الملك يريد لنا أن نستذكر الآية التي تقول "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا"، ولأن شياطين الإنس أقدر على الخديعة فقد تقدمت على الجن، وهنا يكمن خطر كبير على المجتمعات من تلك الأصناف البشرية التي تفوق مقدرتها الشريرة مقدرة الجنّ، وربما كانت هذه أولى الرسائل المصاحبة للنص، وهي بالمناسبة ليست حكرا على القياديّ، ولكنها موجودة لدى الكثيرين في كل المستويات في التراتبية المجتمعية، وإن كانت أبرز عند المسؤولين وصنّاع القرار!

لقد كان الاسكتلنديّ وحفص رجلين فقيرين، ومن عامة الشعب، باحثين عن القوت ليس إلا متجنبين الحرج، وإن كانا بخيلين، إلا أنهما لم يكونا قياديين، وهذه الإزاحة النصية في غاية النص الدلالية ذات قيمة كبرى في استعارة الحكايتين والبناء عليهما بأفق معرفي جديد سياسي واقتصاي، فالقيادي يستغل كلّ ما يقع تحت يديه من مقدرات ليكون له ولمنفعته، ويوظف الأدوات السياسية (أطلق ذئابه) من أجل هذا الهدف، لذلك تراه يريد كلّ شيء وليس ما هو له فقط، ولذلك يلتف على الاتفاقيات، وينذر الآخرين بالويل بطريقة غير مباشرة ليجرد العامة من فتات الفتات، وهذه هي طباع ذلك القيادي، والذي يشكل مثالا ونموذجا له من أمثاله الكثيرون في بقعة العرب الممزقة إربا وأحزبا وتصارعات اقتصادية وسياسية اقتربت إلى حد الفسيفساء غير المتناسقة!    

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 122 مشاهدة
نشرت فى 24 يناير 2014 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

743,141

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.