نشرت صحيفة الحوار الجزائرية النص على صفحتها (أفكار)، يوم الأربعاء 2/1/2013
--------------------------
تلك أناقتها أم أناقة قهوتها؟ سؤال يفتح للقهوة معنى جديدا وخاصا، كما هي تماما، فلست أدري أيهما أكثر أناقة هي وهي في كامل تجلياتها وروحها وألقها ورقة حديثها، أم تلك القهوة وهي تركن برصانة أنثى حيية متربعة في فنجانها؟ معنى أثار في مخيلتي كل ذلك، آخذاً في سرد التفاصيل فتعييني الحيلة وتعجزني اللغة، وأيُّ لغةٍ تستطيعُ أنْ تجد لها ألفاظا لتحويَ تلك المعاني، إنها لا تُوزن بأي ميزان سوى ميزان الرهافة والمطلق، إنها قهوتها المرّة بطعم أنوثتها الحرّ.
لعلّ روحها حدثتني بأنّ القهوة دالّتها وسرّ حضورها، واستقامة وزن في قصيدة شعرية فارهة اللغة كمركب مزهو بالخدم والحشم والأماني الجامعة، لعلّ روحها حدثتني أنها شبيه القهوة في طعمها الذي لا يزول ولن يزول مهما تطاول اليوم، إنه يركن هناك ليتشبع في كل ذرات الجسم والعقل والروح، لتستطيع الحياة أنْ تسير، فلولا بوح بخار قهوتها في ندى الصباح لما كان للوقت معنى.
أستحضر المعنى ومعنى المعنى، وأدور حول اللغة لأحاول رسم مشهد بليغ أنيق يليق بأناقة قهوتها فلم أجد، أبتعد في اللغة قليلا، أحاول أن أكون كصوفيّ يرسم أشكالا في خيالات روحه، أحاول أن أسطر أناقتها وأناقة قهوتها ببعضٍ من اتزان الجمل، تأبى وتعاند، وتظلّ هناك راقية وأنيقة وتفتح المعنى على كل معنى، ولا أستطيع لها تفسيرا، إنها لَمَعَانات الفجر وإشراقات الأفكار في عقول الفلاسفة والمفكرين.
ربما تسلل الوهم إلى الروح فأصاب اللغة بعضٌ من مرضٍ لا تشفى منه إلا بالموت أو الحضور أو احتساء فنجان من القهوة في طقوس أعدتها على بوارج الكلام لتكون هي سيدة المكان والزمان، الكاتبة والمكتوبة، الآسرة المطلقة المغردة في فضاء الله، تاركة فنجانها قشرة ذائبة تشقيه الذكرى، ولا تنفعه أناقته إذ غادرته القهوة، فهل بمقدور الأغلفة أن تصنع معنى مجردة عن سرها ومكنونها، هذا ما حدث معي ومعها ونحن نحاول أن نسكب بعض ماء أرواحنا في دلّة الوقت لنعد قهوة مشتركة، فنضبت ماء الروح، والدلة أضحت مثقوبة، وتكسّر الفنجان، وتلاشت طقوس القهوة حرفا حرفا، وبقيت القهوة معنى مجردا سابحا في الخيال، فلا أنا شربتُ معها ولا هي أعدت لي ولو فنجانا واحدا.
كم أشقاني انتظار قهوتها، وأتعبني الشوق لرؤية أناقتها، وغادرت الفضاء، لتختبئ بعيدا حيث أسرار الروح وستائر السماء وحجب الغيب تحجب ذاتها، وصارت المسافات بعيدة، غزلها الوهم وأرذلها الجنون، والمنتصر الوحيد هو القهوة بأناقتها المعتادة، فقد بقيت هي تشربها مُرّة وتستذكر ربما ذكرياتِها، وأنا لم أزل أشربها مرة إكراما لها ولأناقتها وذكرى حضورها الطاغي.
لها وللقهوة الأغنيات القادمة والفرح المستكن في ذات الزمان لعل حنين الناي وأنينه يُرجعانها لتكون أبهى بفنجان أنيق يزداد أناقة وهو بين أصابعها ينعم بملمس دافئ من أنامل دافئة زخرفها النعيم والحسن، فتجلت أناقة كل شيء وصار الزمان والمكان يرقصان على أنغام تلك المُنَعّمة المزهوة بعبير أناقتها التي لا يحدها حدود، وتعجز اللغة أن تصفه، مكتفية بكلمة واحدة، في جملة واحدة، أنيقة، كأناقة الوقت عندما يزهر ربيعها ويتورد خداها اتقادا في موعد قد يأتي، فلن أيأس، ما دمت أشرب القهوة بأناقتها وأستحضر طيفها فيها.