فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

أسئلة من طقوس القهوة المرة

فراس حج محمد

كالعادة في طيب المساء، وعلى فوح فنجان من القهوة المرة المعد بأناملها المسكوبتين نسرينا ووجدا، تكاملت إلى حضرة الطقوس، لتتحدث وتبوح، لقد كانت جميلة ومرهفة ونقية، لم تكن تشبه نفسها منذ يومين، كانت أكثر طزاجة وملاحة، عطفت فحنت، وكتبت، وبدت لي مستعدة لأن تكون كما ينبغي أن تكون، ولكنها بقيت تراوح في بعض المكان، لا تبوح مباشرة، تستعين بقهوتها لتحملها بعض مشاغل الحب واشتعال القلب، كانت فيما مضى تسرد الحديث كأنها شهرزاد، ولكنها الآن تمارس طقسا آخر من طقوس القهوة، إنها تستعين بالأسئلة، لتكشف عما يستكن في ضمير ذلك الفنجان الذي أضناه انتظار أن تلامس شفتاها حوافه الملتهبة وقلبه النابض. 
تبدأ طقسها الذي أعدته على مهل، وفكرت فيه بعناية طوال النهار، وهي تعابث أعمالها، ودوامها الرتيب المقيت، التي لم تعد ترغب في الاستمرار فيه، تسألني عن محبوبتنا السمراء المسماة القهوة وقد غبت عنها مضطرا، تراك نسيت تلك القهوة؟ أم لم تعد تحبها؟ 
- لن أنساها ولكنها تعاندني قليلا! 
- ولماذا تعاندك؟ أتراها قاسية القلب يابسة الرأس؟
- لا أظنها قاسية، فقلبها منذ عرفتها مرهفا ورقراقا، فاض حبا ويفيض ولها، ولكنها تشبه الأنثى فتتمنع أحيانا.
- إنك تفهمها، وتفهمك جيدا، تسمع نبض قلبها يخفق حبا، وتسمع نبض قلبك يضطرب اشتياقا، فلا حيلة لك سوى الانتظار.
- وما علي سوى انتظارها حتى تنضج ثمارها على شجرة الوقت لتكون أشهى؛ وهي تعد على نار هادئة، فليكن لها كل الوقت. 
بدت تكشف قليلا عما يعتمل في جوانح سرها، تطرح الأسئلة وتتابع إجابتها، ولكنها تجعل الباب مواربا كالعادة، تقررني بأنني أحبها هي والقهوة، تمزج نفسها لتمارس أنوثتها وتعد مكرها بدهاء شجرة كستناء أنضجت نار كانون حباتها، فكررت ما لم تملّ سماعه إنني أحبها، وهي كذلك تحبني، راغبة فيّ لتعانق شفتاها شفتيّ في فنجان واحد، إنها تشتاق إليّ كما أنا أشتاق لها، ما زال طيفها يخطر في صفحة الفنجان وما زلت تتبدى كيقين العارفين لم تغادر الأحلام ولن تغادرها أبدا، إنها القهوة وصاحبتها، سيظلان مجبولين، يحدثان بالتناوب أحاديث الحب التي لن تنقطع.
سألتني في غمرة شرودي ذلك، وما هي صفات تلك القهوة، أم أنها عنيدة ومكابرة، ومتكبرة، وربما متعجرفة؟
- إنها كل ذلك: معاندة مكابرة متكبرة، ترد وهم المتسولين على ضفاف رحيقها، يشتعلون بها فتطفئهم بهدوئها، تلجم غباءهم وتردهم بلطف، وَرْدَة لا تُطال، يراها الآخرون هناك في كُنة الجبل، كالجبل، ليس لها حد في غموضها، وليس لها حد في تجليها، قريبة كالشمس وبعيد كذات روح، إنها مجبولة من كل الصفات، رقة وجمالا، رأفة وبهجة، قسوة وقوة، ليلا وفجرا، إنها مثل الفكرة فكرة، لا تحتاج لشرحها لأنك تفهمها، فإذا ما عاودتَ قراءتها خانك عقلك، تحاول أن تهرب منك كالطيف، تكاد تلمسها وتتخيلها بجانبك، تمد يديك نحوها فتضيع اليدان، ولا تعثر على نفسك، إنها قهوة السحر ونور الكهنة، إنها سماء الملائكة البررة، إنها طعم المرارة شهدا، وطعم الأنثى اللاذع في خاطرك، إنها كل شيء تتمناه، وكل شيء تطلبه، إنها هيَ، وحسبها أنها هيَ!! إنها الموجة الهاربة. 
- وإلى أين ستهرب؟ إن حدودها الفنجان وشفتان تنتظران نمير الماء بعد عطش طال أمده!
- فلعلنا سنشربها سوية في مساء ما على وقع الخطى من نور حضورها الطاغي، بكل جنونها الشادي حنينا واشتياقاتها ولطافة معشرها.
- أتراها أسيرتك؟ أم أنت أسيرها؟
- كلانا أسيرا حبك أيتها القهوة المرة، إنها الأسيرة الآسرة!
- فما دامت كذلك فهي لن تستطيع مغادرة ذلك الفنجان، وليس للفنجان من طقوس بدونها، إنها ترسم بروعتها سر المكان والزمان، إنها بديعة مبدعة.
- ليست بأروع منك سيدة في إعداد طقوسها على نار هادئة.
- فهل تراها تصبر؟
- أظن أن حياتها في فنجانها
- ألا تتوقع غليانها؟ فهي ليست صبورة، على الرغم مما أعطيتها من صفات ومنحتها من أعطيات لغتك الأثيرية.
- غليانها محكوم بعامل الوقت، ودقة القلب.
- دقه القلب تلك، تجعلها تخفف غليانها، لتخبوا قليلا.
- ولماذا عليها أن تخفف من غليانها فتخبو في توهجها؟ ماذا عليها لو تكاملت في اشتعال حنينها؟ 
- ربما لا تحب أن تغامر أو تقامر أو تذوب، إنها تخشى أن تطفئ نار قهوتها بنار وجدها، إنها تحب اشتعالهما معا، إنها تحب النار الهادئة.
- وهل عليها أن تظل محترقة بنار هدوئها؟ ماذا تنتظر؟ أتراها تسابق الوقت؟
- تسابق دقة القلب حنينا لقلب المحب الواله، إنها أنتَ تماما.
"إنها تماما أنتَ"، قالتها فتوقف القلب ثانيتين وبعض نفَس ليتابع دقاته والها، هذا هو اعتراف القهوة الأول وحنينها الأول، وصدى عزف أغنيتها الأول، إنها تقترب وتقترب أكثر وأكثر، فهيئ لها المكان وأعد لها الوسائد والفراش والوثير، استعد لتشرب القهوة بنكهة جمالها، عندما تلامس الشفتان نبض القلب في رشفة الفنجان، هناك تكون أنت في مأمن من طاغية الوقت، هناك فقط تعد الروح على مهل انتظارا لموعدها المرتقب، فترفق بها وأشعرها بقربك، فبينك وبينها شراكة قلبين متعبين بالهوى، ممزوجين عطرا، يفوحان بالحب مرتبطين عشقا برباط مقدس لن ينفك أبد الدهر.
- وماذا بعد أيتها القهوة؟ 
- إنها جاهزة!
- أهي جاهزة لتكون نبض القلب، وتبوح بما استكن في النفس من كلمة "أحبك".
- إنها جاهزة وفقط.
هربت من السؤال الأخير، كعادتها، ولم تقل: "أحبك"، تعود لمشاكستها، تضحك مني ومن سؤالي، يحمّر خداها ويتوردان، أشعر بقشعريرة سرت في جسدها فانتفضتُ وانتفضتْ، ولكنها قبل أن تصمت تركت آخر السطر سطرا:
- أليست تفور وتهدأ، وهذا طبعها، وطبع كل أنثى، عليك أن تتحمل جنونها وتصبر.

وتركتني مع ذكريات من طقوسها حيث اشتعلنا مرة ذات وهم في مساء سرقناه، وسرعان ما أقام الزمان علينا الحد فقطع دابر فتنتها المسائية، فشقيتُ وشقيَت عمرا كاملا، فيا ليتها تعود! يا ليتها تعود!


 

المصدر: خاص بالكاتب فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 729 مشاهدة
نشرت فى 27 ديسمبر 2012 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

581,118

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024.

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.