تأملوا هذا، جُعلتُ فداءكم
دفاعا عن الفن الجميل في كل زمان ومكان
فراس حج محمد
تتعدد الفنون وأشكالها وتتنوع بين الفنون الكتابية والتشكيلية والأدائية، وكل هاتيك الأنواع تعبر عن رقي المجتمعات البشرية في إحساسها بجمال الحياة، وإبراز محاسنها وتلمس مواطن الإبداع فيها، ولعلني لم أكن مجانبا الصواب إن قلت إن مهمة الفنون بشكل عام هي إحداث المتعة في نفس المتلقي بعيدا عن أي فلسفات أخرى، ترى في الفن وسيلة للإصلاح والنقد الاجتماعي والسياسي، وإن كانت هذه المهمة موجودة إلا أنها ليست في الدرجة الأولى من سلم أولويات كلٍّ من المبدع والمتلقي، فالمبدع ينتج ما يعتقده حقا وصوابا مبرزا أفكاره ومشاعره، راجيا نقلها بطريقة حضارية لمتلق يفترض فيه المبدع وجود علاقة بينهما شعورية أو فكرية، ليتناغما معا سلبا أو إيجابا، محدثا في نفسه أثرا على درجة ما من المتعة والتعبير المشترك.
ولم يكد يخلو عصر من العصور أو مجتمع من المجتمعات من ضروب الفن الراقي الجميل بمنتجات إبداعية رصينة وعلى درجة عالية من الإتقان والجودة، وإن زاحمته مجموعة من المنتجات الفنية بمستوى أقل أو متدن، وهذا مما لا بد منه؛ فاختلاف المستويات بين المبدعين شيء طبيعي، ولا ينكره مبدع أو ناقد أو متلق، ولكننا نلاحظ أحيانا تراجع المنتجات الفنية الراقية واحتجابها لصالح إظهار تلك المخرجات التي تشكو من التشوه والعرَج الفني الواضح، فتطفو على السطح، فتصدمك في كل محطة فضائية أو مجلة أو جريدة، وهنا مكمن الخطر.
إن من أشد ما يلفت النظر في هذه الأيام سيطرة المنتجات الفنية الغنائية التي غزت العقل والروح فشوهت الذائقة الفنية، ونادرا ما تجد ما يشبع عقلك ووجدانك من مقطوعات غنائية تسكب الكلمة واللحن والأداء في نفسك بعمق، لتتغلغل في عقلك كاشفة أو محاكية بعض ما في نفسك، والعجيب الغريب أنها تنتشر بين المتلقين انتشار النار في الهشيم، خصوصا بين الفئات الشبابية، فتساهم في تربية ذوق فني سطحي، عدا أنها لا تحمل مضمونا أخلاقيا راقيا بمشاعر إنسانية جميلة، وإن فتشت وراء الكلمات تجدها من الكلام المرذول الذي يقترب من لغة السوقة والعوام، لا تساعد على تنشئة أذواق أدبية وفنية بمستوى معين يجعلك تتمتع وتتشبع بالأحاسيس المتزنة التي تصقل روحك ونفسك، فتذهب أدراج الرياح ولا يبقى منها شيء ليطردها ما هو أشد سفها منها، فتلك المصوغات الفنية ما هي إلا بنت جمعتها، لتتراجع إلى وهدة الظل والنسيان ليأتي غيرها وهكذا، فتصبح الذائقة الفنية عند المتلقين موسمية ومشتتة، ليس هناك من إمكانية لتربيتها التربية الصحيحة، ناهيك عن كثرة الداخلين إلى هذا المجال، فمن هبّ ودبّ أصبح مطربا، وغدت صنعة من لا صنعة له، لاسيما الفتيات، فمن أوتيت حظا من الجمال مع عمليات الصبغ والتجميل، فستخرج إلى المسارح براقة بأصباغها وجسدها، فلن ينظر لما تقول، بل كل همّ هؤلاء المتلقين من الشباب ما يلوح من أعضائها وما يظهر من مفاتنها، وما تمتع به من قدرة على الغنج والدلع!!
هذا هو الواقع الفني الغنائي الذي يصدمك صباحا ومساء، ولكن لن تعدم بين الحين والحين من تسلل بعض الأعمال الجادة الإنسانية المتقنة، ولكنها للأسف لا تأخذ حقها من الذيوع والانتشار، فتحاربها بشراسة سيول من جنون الأعمال التافهة، ليصبح الفنانون الراقون المتميزون في غياهب النسيان، فيعلو شأن من لا علاقة له بالفن والجمال، ولكن تأكدوا أن الفن الجميل والمعبر والإنساني موجود، فما عليكم إلا أن تبحثوا فستجدون أنها أعمال كثيرة وستدهشون لو أعطيتموها مهلة لتناجي أرواحكم فستجدونها مرهفة في أحاسيسها معبرة في كلماتها، متمازجة مع أداء فني بارع ليقول لك: ما زال الفن الجميل الراقي موجودا، ولن ينعدم أو ينقطع ما دام في البشرية مبدعون باحثون عما يمتع ويربي الأذواق بطريقة فنية وإنسانية هادفة، استمعوا إلى صوت أرواحكم وهي تناديكم، وتأملوا الجمال في كل دندنة عود وترنيمة إيقاع، وشجن حرف يشجي الروح ويمتع العقل، جعلت فداءكم!!