معالم الشخصية الإنسانية في القرآن الكريم (3)
معالجة السلوك البشري بعرض النموذج الخاطئ
فراس حج محمد/فلسطين
لا شك بأن الحياة البشرية حافلة بالنماذج البشرية المسيئة للكرامة الإنسانية المقررة في فطرة الإنسانية، فلقد قرر سبحانه وتعالى هذه الكرامة العامة بقوله: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر"، وقامت الشرائع كلها ومبادئ الأخلاق العامة على تعديل السلوكيات البشرية الخاطئة، واستخدمت لذلك شتى الأساليب والصور، ومن تلك الأساليب عرض النموذج المنفر الذي يدفع بالناس إلى تصوره عقلا وواقعا، فينفرون منه ويحاربونه، وهذا ما جاء في هذه الآيات الكريمة من سورة الأعراف؛ إذ تعرض هذا النموذج البشري الواقعي للإنسان الذي وهبه الله علما ومعرفة، ولكنه لظروف كثيرة يترك تلك التعاليم، ويبتعد عن ضبط السلوك بالفكر الصحيح، متبعا في ذلك كله هواه، يقول جل وعلا:
"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ".
لقد رسمت الآيات الكريمة صورة منفرة فعلا لكل إنسان متفكر، فمثل هذا الشخص المعرض المتكبر عما يعلم كمثل الكلب، ولماذا الكلب بالتحديد؟ ألأنه مخلوق مرتبط بالذهنية الإنسانية بالضعة والمهانة؟ أم لتلك الصفة البيولوجية المودعة فيه المتمثلة باللهاث الدائم سواء أكان متعبا أم لا؟ وهل يمكن لبشر أن يحمل على كلب متاعا لنختبر هذه الصفة؟ أم يكفي لهاثه وهو خال من ذلك لنعرف أنه كذلك دون حمل فكيف إذا ركبته الأحمال والأثقال؟
ولاحظوا كم يصبح ذلك الإنسان مترديا وضالا عندما ينسلخ عن الالتزام بالعلم اليقيني، إن الشيطان سيصبح تابعا له وليس العكس، عدا أن هذه الشخصية بهذا السلوك ستكون اهتماماتها منحطة أرضية شهوانية، فالنفس البشرية ستكون مرتبطة بالأرض ملتصقة بها، تعبيرا بلاغيا جميلا عن تدن في التفكير والآمال والتطلعات، فهي شخصية لا تعرف المعالي ولا السمو الأخلاقي، وكأن في الآيات تنفيرا آخر متمثلا في أن اتباع الهوى والمصالح الشخصية منقصة ومضرة، فعبادة المصلحة هي التي تجعل الإنسان متقلبا في شهواته ونزواته لا يحدها حد، ولا يوقفها سد، فالهوى سيل جارف مقيت يدمر الشخصية الإنسانية، ويتركها كالريشة في مهب الريح.
ولأن الموقف مسوق في الآيات من أجل العبرة والعظة والاتباع فقد قررت الآيات الكريمة حقيقة عقلية وفكرية لا بد من أن يستوعبها كل حكيم ومتدبر، ففي هذا النموذج السيئ المنفر دعوة للتأمل ومحاكمة ذلك السلوك للابتعاد عنه ومجافاته.
وتتسع العبرة في التنفير ليأخذ السياق في التعبير بلغة عامة شاملة للسلوك البشري جميعه، عندما يذم القرآن كل قوم كذبوا بالآيات الواضحات، فإنهم قد ظلموا أنفسهم بلا أدنى ريب؛ أتدرون لماذا؟ لأنهم لم يحترموا جوهرة العقل المتدبر التي تقود إلى السلوك البشري المتزن المتمثل بالالتزام بالسلوك الصحيح والقويم، فليس هناك من بشاعة تساوي بشاعة الجريان واللهاث خلف مصلحتك الشخصية أيها الإنسان، وتركك ما علمته وراء ظهرك لا تحفل به، ولا تقيم له أي وزن، فجمال الإنسان وتحقق إنسانيته نابعة من التزامه الحق والدعوة له، وأن تكون الأفكار والمبادئ أولا، وأن تتكيف الأهواء معها وليس العكس.
رحم الله القائل: "إذا عرِض عليك أمران فخالف هواك، فإن الهوى يقود إلى ما يُعاب" وأي عيب؟ وأي منقصة أكبر من أن تتخلى عن أهم ما يميز إنسانيتك؟ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!!