فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

 

التجربة التاريخية في العيش المشترك بين المسلمين والنصارى

فراس حج محمد

23-6-2012

قليلة هي الحوارات المعمقة المفيدة التي تدور بين مثقفين مسلمين ومسيحيين بعيدا عن الحوار الرسمي المتلفز المعد للمؤتمرات والتقاط الصور التذكارية، وتصفيفها في ألبومات خاوية من أي أثر أو حركة، ولعل أنفع تلك الحوارات حوارات الأصدقاء المثقفين الذين وثقوا علاقات إنسانية متينة بصداقات لن تزول على الرغم من اختلاف الدين والعقيدة، وهذا أمر لو التفتنا إليه، واقتصرنا عليه لكان فيه النفع العظيم، ولكان خير وأجدى من حوار زائف ليس له ثمار تذكر على كثرته منذ أمد بعيد.

تأتي مناسبة هذا الحديث على إثر محاورة الكاتبة اللبنانية مادونا عسكر بحوارات طويلة تلقائية وجريئة بعيد عن تزويق الأفكار وتعقيدها، بل كانت تطرح أفكارها بانسيابية وثقة، أشعرتني بالقرب بيني وبينها فيما أقول وأعتقد في مواقف وأفكار كثيرة، وعلى الرغم من اختلافنا حول قضايا متعددة، إلا أنها كانت تعطي الحق للإسلام بأن يقول كلمته، وبأن الإسلام دين لا يهدد مسيحيتها، ودافعت عن فكرة المسيحية بشكل عام التي تدور حول المحبة والسلام، تجسيدا لأقوال المسيح عليه السلام وحياته وما جاء به الكتاب المقدس.

بدت الكاتبة مادونا عسكر مقتنعة بالحوار بين الدينين بالشكل الذي تطمح إليه خلال مناقشاتنا المطولة، وهي تمتلك تجربة خاصة في ذلك، علاوة على أنها متخصصة في دراسة اللاهوت المسيحي، وتكتب حول أفكار دينية كثيرة، تحاول فيها عرض الأفكار المسيحية بلغة بسيطة، ليفهمها الناس العاديون، ولتكون لهم أقرب من لغة الكتاب المقدس.

ومن هنا جاءت فكرة عرض التجربة التاريخية للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين، ولا أقول بين الإسلام والمسيحية، لأن التاريخ لا تصنعه الأديان، وإنما يصنعه البشر انطلاقا من فهمهم للدين وتجسيدهم لتعاليمه.

لا مفر لي بأن أقرر أولا حقيقة يعرفها الجميع، وهي بدهية، أن الأديان السماوية كلها منبثقة من مشكاة واحدة، ومصدرها واحد، وهي من الله سبحانه وتعالى، وبأن هذا يفرض تتابعا تاريخيا معينا، فكانت اليهودية أسبق من النصرانية والإسلام، ومع تكامل الأديان أصبح هناك أديان ثلاثة: اليهودية والنصرانية والإسلام، وقد شهدت العلاقة بين أتباع هذه الديانات مدا وجزرا، واقتتالاً على مدى تاريخ طويل من الصراع الدموي قديما وحديثا مع اليهود، وحديثا بين المسلمين والدول التي أسست حربها ضد العرب والمسلمين أحيانا على الفكرة الصليبية، ولا أقول بين المسلمين والمسيحيين، بدأت بما عرف بالحروب الصليبية في القرن الثاني عشر الميلادي، واستمرت إلى الآن، ولن تنتهي، بل تعقدت المسألة أكثر فيما نراه من تكاتف الدول الاستعمارية مع الصهيونية في استمرار عملية القتل والقهر اليومي، ومن بين ركام القتل والدمار البشع تتسلل أفكار الحوار التي تبدو عقيمة خاوية بلا جدوى، ففي النهاية احفظ علي دمي ولقمة عيشي وبيتي واتركني أعيش بأمان أفضل من ادعاء حوار الكاميرات وعناوين الصحف الجوفاء.

ولكن مع كل هذا الذي يحدث من ألم وقتل ودمار واصطفاف عقائدي وموت مجاني، كان التاريخ شاهدا على علاقات متميزة بين المسلمين والمسيحيين، وسأذكر بها لنستوعب الدرس جيدا، إن أردنا أن نفهم حركة التاريخ بشكل صحيح ومؤثر.

لعل أول تلك العلاقة كانت علاقة فكرية مستمدة من القرآن الكريم، الذي اشتمل على سورة كاملة بعنوان سورة الروم، وبشّر فيها القرآن الكريم بانتصار الروم المؤمنين أتباع الدين السماوي على الفرس الوثنيين، فما كان من المسلمين إلا أن فرحوا بهذه البشرى "غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم بعد غلبهم، سيغلبون في بضع سنين، لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم"، وأغاظوا قريشا التي وقفت بجانب الوثنيين باعتبارها العقائدي القريب.

وليس هذا وحسب، بل إن القرآن يخبرنا عن حركة التاريخ الغابرة أن الأنبياء عليهم السلام هم أخوة في دين واحد لا فرق بينهم ألبتة، فالمسيح وموسى عليهما السلام هما أخوان للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ويشترك معهم كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولذلك يقول القرآن "لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون".

هذا أمر مهم في الدلالة على العلاقة بين الأديان جميعها، وإخوة من أتى بها، إضافة إلى أن القرآن الكريم لم يهاجم في أي آية من آياته أي دين كدين، وإن انتقد بعض الأفكار التي اعتبرها غير صحيحة، ولكنه لم يهاجم الديانة كديانة، فكيف للقرآن أن يهاجم الديانة كديانة وكل الديانات ذات أصل واحد؟ ولكنه عاب سلوكيات الأفراد أو الأحبار أو العلماء في أي دين، ممن لا يلتزمون بالحق، سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين أم يهودا.

هذا على صعيد الفكرة الموثقة، وماذا عن التجربة التاريخية التي يوثقها الفعل الإنساني؟

لقد كان أول أمر يجب الالتفات إليه ذلك التوجيه النبوي الحكيم عندما تعرض المسلمون للأذى في مكة أن يهاجروا إلى الحبشة، ففيها ملك لا يُظلم عنده أحد، وكان النجاشي نصرانيا بطبيعة الحال، فأكرم المسلمين، وردّ وفد قريش ولم يظفروا بما أرادوا، ودار حوار بين المسلمين وبين النجاشي، حوار فكري معمق في عرض الأفكار، فاحترم النجاشي القول واحترم المسلمون موقف النجاشي، وظلوا في كنفه معززين مكرمين إلى أن قفلوا إلى مكة عائدين بمحض إرادتهم.

واستمرت العلاقة بين المسلمين والنصارى في فترة حكم الإسلام دون قلاقل أو مشاكل تذكر، وظل الطرفان يخضعان لسياسة حكم واحدة، وتطبق عليهم جميعا القوانين الواحدة، ليس لها أي وصف سوى أنها قوانين الدولة ويجب احترامها، وكل من يخالفها مسلما كان أو نصرانيا أو يهوديا كان يتعرض للعقاب نفسه، وهكذا ظلت العلاقة علاقة "مواطنة صالحة"، الجميع يحترم القانون وسياسة الدولة، ولم يؤثر عن النصارى أنهم أحدثوا ثورات ضد الدولة الإسلامية، بل على العكس من ذلك فإن الثورات الداخلية التي أنهكت جسد الدولة وروحها كانت من قبل عناصر ادعت الإسلام أو تسترت به، ويكفي للتدليل على ذلك ثورة الزنج التي استمرت (14) سنة، وثورات ما أسماهم التاريخ بالخوارج، ولم يرصد التاريخ أي تحرك للمسيحيين ضد الدولة الإسلامية عكس اليهود بطبيعة الحال الذين دخلوا في صراعات دموية مع المسلمين، وحاولوا اغتيال الرسول الكريم غير مرة.

وفي ظل هذا العيش الطبيعي للمسلمين والنصارى/المسيحيين، ومعهم أتباع ديانات أخرى من يهود ومجوس، كلهم كانوا يشكلون مجتمعا واحدا، لم يكن أحد يطرح فكرة حوار الأديان، لأنه لا هدف ولا جدوى من ورائها، من أسلم أو تنصر أو اتبع أي دين فهو قراره الشخصي، المهم أن تكون منتميا لذلك المجتمع الذي تعيش فيه ومنتميا للقانون ومحترما لسيادة الدولة، وهذا من وجهة نظري أولى بالرعاية من كل تلك الحوارات، التي لم نسمع بفكرتها إلا في العصر الحديث، بل شاعت وتمددت في كل اتجاه وكأنها الفتح الفكري العظيم، وكان حامل لوائها فريق من المفكرين، تبعهم بعد ذلك كثيرون، منهم بحسن نية، ومن بسوئها، أولئك المفكرون لم يفهموا حركة التاريخ وطبيعة الأديان، بأنها لن تلتقيَ أبدا، أو أنهم كانوا ذوي أهداف غير معلنة.

لقد بدت قناعتي بالحوار بين الأديان يغلفها الشك بأهمية الحوار؛ لأنه لن نصل إلى أن يترك كل منا دينه لصالح غيره، فالكل متمترس بقناعات عقائدية لن تزول بسهولة، فالمطلوب إذن أن نعيش عيشا طبيعيا في مجتمع واحد دون أن نصطف مسلمين ومسيحيين وحتى يهودا أو بوذيين، فلنلتق إذن حول الدولة وفكرتها، وهذا يكفيني، وحسبي من كل ذلك أن يطبق علي القانون بعدالة كما يطبق على غيري بدون محاباة، ومن أراد أن يغير قناعاته فليغيرها بعيدا عن البهرجة الإعلامية والتطاحن المقيت عبر الفضائيات، فالدين ليس للمزاودات أو تسجيل المواقف، فالدين لله، وحساب الخلائق كلها على الله، لا تستطيع أن تعطي صك غفران لا لمسلم ولا لمسيحيي، فلا يعلم بك إلا الله، فاترك الحساب والعقاب والثواب للمسئول عنه، وعش في مجتمعك وتصالح مع من حولك، وابتعد عن مماحكات التضليل فيما يعرف بحوارات الأديان المفضية إلى العبث.    

 

 

المصدر: خاص بالكاتب (فراس حج محمد)
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 235 مشاهدة

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

742,454

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.