دردشة مع فراس حاج محمد: كنت أعوض النقص في شعر الحب الفلسطيني
صحيفة الأيام الفلسطينية، الثلاثاء 7/1/2025 (أيام الثقافة)
حاوره زياد خداش:
هو أبرز من شاكس وأكثر الشعراء والساردين الذين يرفضون ما يعتقدونه تشويشاً لنقاء الكتابة، يعمل فراس مفتشاً في وزارة التربية والتعليم، في نصوصه لا نرى المفتش، يخفيه بذكاء من يعرف أن هذه المهنة لا تناسب الأديب، في رصيده كتب كثيرة، جلها في مقارعة السائد، وتدمير المتفق عليه الذي لا يعجبه، حتى حسين برغوثي لم يسلم من آرائه، هذه دردشة مع فراس حج محمد.
* فراس، المعظم يقول إنك مجنون تكتب ما يخطر في بالك، وتبحث عن الممنوع والمحرج. هل هذا هو مفهومك للأدب؟
-أولاً، دعني أشكرك مرتين، الأولى على هذا الحوار، والأخرى على هذه الافتتاحية بسؤال الجنون. كل ما هو خارج عن المؤلف يوصف بالجنون، سعيد بهذا الوصف. إذ إنني أحب كالمجانين تحريك المياه الراكدة ولفت الانتباه إلى ما يجب أن يُلتفت إليه بطريقة لافتة، دفعا للتفكير ومساءلة الذات، وإذا تحقق هذان الشرطان مع شرط أدبية النص فإنني أستطيع القول إنني أنتجت أدباً جيداً، وهذه الثلاثة أركان تشكل مفهوم الأدب، كمفهوم عام، لكنني أصنعه بطريقتي لتكون لي بصمتي الخاصة في كتابته.
*أنت موجه أو مفتش بالتعبير القديم في مدارس فلسطين. في الكتابة أيضا تفتش وتوجه. كيف نفرق بين السياقين؟
-أعاني أغلب الوقت من ازدواجية في الشخصية، ما بين المشرف التربوي (المفتش) وما بين الكاتب الناقد، وهما وظيفتان تلتقيان عند حافة مهمة وهي الانتباه إلى الإيجابيات والسلبيات في كلا العملين التربوي والأدبي بحيث تبدو المنفعة متبادلة، فتقييم التعليم يعتمد على ملكات نقدية، والكتابة النقدية أو الإبداعية تقبس من رسالية العمل الإشرافي، إلا أن لكل منهما مجاله وأبجديات عمله، ويختلفان في المصطلح المستخدم والإجراءات المتبعة للتنفيذ.
*تسكن في قرية وتتواجد في رام الله باستمرار. كيف تقرأ رام الله يا فراس سياقاً تاريخياً ومؤسسات ثقافية؟
- أحب الريف حباً جماً، وأنفر من المدن بعامة، ولا أحب حياة الناس فيها، لكنني كنت مضطراً في أحيان إلى التعايش مع أجواء المدن، ومنها رام الله. لا أعرف هذه المدينة كما تعرفونها، أعرف فيها مكتبة أو اثنتين، ومقهى واحدا أو اثنين، لكنني أعرف ما فيها من حركة ثقافية وما ينشر فيها من كتب، وما يصدر فيها من صحف، وما يقام بها من فعاليات. هذه الأجواء هي التي ربطتني بالمدن، نابلس ورام الله والخليل، وهي بالتالي شكلت جزءا من معارفي منذ دخلت إلى تلك الأجواء وتعرفت إلى ناسها المثقفين تحديداً. وأعتقد أنه لولا هذه الحركة الثقافية لا حاجة لي لأية مدينة في العالم مهما كانت عريقة أو جميلة.
*تبدو مشغولا بالحب في نصوصك. وأحب إصرارك على ذلك. لماذا برأيك لا يوجد في فلسطين كتاب حب بالمعنى العاطفي الهستيري للكلمة؟
-منذ نشرت ديواني الأول "أميرة الوجد" بلورت مشروعي الشعري ليكون شعراً وجدانياً، شعر حب بالتحديد، بدأت كلاسيكياً وعذرياً، ثم تدرجت لأتحدث عن كل ألوان الحب بكل الألوان الشعرية، حتى ما أطلقت عليه العاطفي الهستيري، لتكتمل صورة الحب في دواويني العشرة من البراءة والقداسة حتى الغرق في الأيروتيكية. بهذا التوصيف كنت أعوّض النقص الحاد في شعر الحبّ الفلسطيني، وأنفر منذ كنت عضواً في أحد الأحزاب من توظيف الشعر سياسيا وأيديولوجيا كما قد يفعل الشعراء الآخرون. إن غرق الشعراء في الهستيريا السياسية المحتدمة يومياً ربما السبب في صناعة الشعر على هذه الصورة. أضف إلى أن القراء يستغربون منك شاعر حب، وإن كنت شاعراً جيداً وينتقدونك، لكنهم يمدحونك ويقبلون على ما تكتب من شعر مقاومة حتى لو كان شعراً رديئاً، ولتتأمل عمق هذه المأساة، فإن محمود درويش عندما أصدر ديوان "سرير الغريبة" وجدت كثيرين يصفونه بصفات أفقدته "نياشين الشاعر المقاوم". الأمر يعود إلى التركيبة الذهنية والنفسية للمتلقي.
*كتابك الرهيب (نسوة في المدينة) الصادر عن دار جسور للنشر وصل إلى ما فوق سقف البوح الأدبي الصادر عن تجارب حقيقية. من خلال قراءتك لردود أفعال القراء. كيف تعاملت معه الذائقة الفلسطينية التي لم تعتد على هكذا بوح؟
-أعتقد أن كثيرين قرأوا الكتاب وأحبوا ما فيه، سراً لا علانية، الكتاب ليس كتاباً جنسياً بالدرجة الأولى وإن اعتمد على العوالم السرية بين الرجال والنساء، إلا أنه يحمل مؤشراً على حياة افتراضية يغرق فيها الناس إلى حد الوهم المطلق، لأنني عندما كتبت الكتاب بعد صحوة من غياهب هذا العالم أدركت خطورة أن تتحول الحياة الاجتماعية واللذة الحسية إلى مجرد سيل إلكتروني صوتي وصوري وكتابي، ومع ذلك لم أجد من شتمني أو انتقدني كما كان يتوقع صديقي رائد الحواري عندما أطلعته على المسودة، وكان يقترح أن أطبع منه عشرين نسخة لتوزع على الأصدقاء الموثقين فقط.
*لديك آراء صادمة في تجربة حسين برغوثي الأدبية.
-لهذه المسألة وجوه متعددة، أولاً ما تحدثت به عن حسين البرغوثي جاء في سياق مبالغة أصدقائه في الحديث عنه في ذكراه، ودعني أكشف لك سراً أن أحد الشعراء أمدني بما كتبه عن حسين البرغوثي، فلم تعجبني كتابته. ثانياً قرأت البرغوثي منذ أمد بعيد عندما كانت تنشر نصوصه في مجلة الكرمل والشعراء، ولم يكن يستهويني الغموض في كتاباته. أشعر أنها عائق حقيقي للفهم لشخص مثلي تربى على كلاسيكيات الأدب والتراث الديني. لم أكن أفهم ما يقول لأنه لا مفاتيح للدلالة لديه، أو أنني أنا الذي لم أكن أملك تلك المفاتيح. الغريب في الأمر أنني عندما أعود الآن إلى ما كتب تبقى عصية على الفهم. إجمالا أطمح أن يكون الأدب سهلاً عالي المستوى، ليس طائشاً في سطحيته، ولا غارقاً في غموضه البائس.