مساحة شخصية:
عبد العزيز سعود البابطين الشاعر المؤسسة
فراس حج محمد| فلسطين
رحل الشاعر عبد العزيز البابطين في اليوم السبعين للحرب (15/12/2023). كانت مؤسسة البابطين أول من انتبه إلى ضرورة توثيق معركة طوفان الأقصى شعراً، فأعلنت عن جائزة بثلاثة فائزين، لأفضل نص حول هذا الحدث الذي استشعر القائمون على المؤسسة عظمته منذ الأيام الأولى للحرب، كما كانت قد التفتت إلى استشهاد محمد الدرة عام 2000 لتخصص أيضا له ديوانا كاملا بأقلام نخبة كبيرة من الشعراء، وسبق أن تحدثت عن ذلك سابقاً في الوقفة الثالثة من هذه المساحة.
إضافة إلى كل هذا، فإن المؤسسة أعدت معجمها عن الشعراء العرب وضم بين دفتيه بمجلداته المتوالدة طبعة بعد طبعة آلاف الشعراء العرب، وهذه خدمة جلى للشعر والشعراء في زمان التكالب على السرد والارتماء في أحضان الرواية، وقد عززت المؤسسة هذا الاهتمام برعايتها تلك الجائزة الضخمة "جائزة عبد العزيز سعود للإبداع الشعري" في مجالات ثلاثة: الإبداع الشعري لشاعر معين، تكريما لمسيرته الإبداعية، وفازت بها الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان في الدورة الرابعة، عام 1994، وجائزة أفضل ديوان شعر، وأفضل كتاب في نقد الشعر، وجائزة أفضل قصيدة، بالإضافة إلى فرع خاص للإبداع الشبابي؛ أفضل ديوان شعر للشعراء الشباب، وقد فازت بها الشاعرة الغزية آلاء القطراوي عام 2022.
إن مثل هذه الانتباهات الثقافية في سياق الحرب والأوضاع السياسية والعسكرية القلقة لتؤكد تناغم الثقافي مع السياسي في معركة مصيرية واحدة، لهذا فإن المؤسسة لم تتراجع أو تخفت حماستها، وهي ترى الغرب ينقض بوحشية على المقاومة في غزة، ينقض سياسيا وعسكريا وإنسانيا، وينحاز إلى المحتل الغاصب. لم تأبه هذه المؤسسة التي أسسها الراحل الكبير على قيم الحق والحرية والسلام المبني على الحقوق والعيش بكرامة، لم تأبه لكل الدعوات التي تصف قادة المقاومة بأنهم إرهابيون، لأن ميزانها واضح وبوصلتها لا تميل ولا تحيد عن الحق، فمن حق الشعب الفلسطيني أن يقاوم محتليه ويتنزع حريته من بين مخالب الغول، وهي بذلك متناغمة أيضا مع دعم دولة الكويت للشعب الفلسطيني في معركته المصيرية من خلال المواقف السياسية الرسمية الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني السياسية والإنسانية.
لقد لفت هذا الفعل الثقافي لمؤسسة عبد العزيز البابطين نظر مؤسسات أخرى لتعلن عن مبادرات ثقافية شبيهة. ولم تقف المسألة عند المبادرات الجماعية بل انفجر الشعر في دواوين كثيرة تحمل اسم "ديوان طوفان الأقصى". واستطعت الوصول إلى بعضها إلكترونياً، وتعدى بعضها اللغة العربية ليكون ديواناً شعريا ضخما باللغة الإنجليزية.
لم يقتصر أثر الطوفان على الشعر، بل امتد إلى أن يكتب أحد الأساتذة الأفاضل كتاباً جمع فيه الأحاديث الشريفة التي تؤيد الفعل الجهادي في غزة، وسمّاه على غرار كتاب "الأربعون النووية" "الأربعون الحماسية- أربعون حديثاً تتعلق بجهاد حماس عن فلسطين أرض المسلمين"، وكتاب "فتح الهادي في فضل الجهاد- طوفان الأقصى" للدكتور ياسر جابر الرشيدي، عدا الكتب الفكرية والسياسية والأبحاث والمقالات والبرامج والفيديوهات، وهي كثيرة، صعبة الحصر والإحصاء. هذه الحركة الثقافية الفكرية المشتعلة أحيت الأمة، لأن طوفان الأقصى كان حدثا عظيماً بالفعل.
أظن- دون أن أكون مبالغاً- أنّ كل هذا الذي يحدث الآن من التفاتات ثقافية كبيرة ستأخذ مكانها على رفوف المكتبات العربية وعلى طاولات البحث للنقاد والدارسين أشعلت فتيله هذه المؤسسة الكبيرة الفعل والأثر، لما تتمتع به من حضور ومصداقية في الأوساط الثقافية، أفراداً ومؤسسات.
إن رحيل مؤسسها الشاعر عبد العزيز سعود البابطين سيجعل مَن بعده أكثر إصرارا على مواصلة مسيرته في الانحياز للحق الإنساني، وخاصة في فلسطين المكلومة المصابة بهذا الاحتلال الذي لا يعرف للإنسانية معنى.
رحم الله الشاعر عبد العزيز البابطين، رحمة واسعة، ورفع درجته في عليين، ولا شيء أفضل من أن نرثي الشاعر ونعزي أنفسنا والأسرة الثقافية بأبيات من شعره، تؤكد قيمة العطاء، وأنه لا شيء يعدل أن تبذل ما تستطيع من أجل أن تنال عمرا أطول فوق عمرك القصير، ولدلالة هذه الأبيات الخالدة على شاعر بذل حياته كلها من أجل القيم الإنسانية الخالدة فقد نقشت في جامعة أكسفورد:
خلّد سجلّك فالبقاء قليل إن الزمان بعمره لطويل
واسكب عطاءك للجميع فإنه يبقي العطاء وغيره سيزول
واعلم بأن المرء يفقد قَدْره إن عاش بين الناس وهو بخيل
لم يكن رحمه الله بخيلاً، فلا جواد كمن أعطى حياته وسخرها للآخرين، كما فعل الراحل الكبير الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، فجزاه الله خيرا عما قدم، وأحسن العزاء لذويه ولمريديه ومحبيه وللكويت حكومة وشعباً ومؤسسات ثقافية، وللعالم أجمع الذي فقده إنساناً، قبل أن يفتقده أيضاً شاعراً إنسانياً كبيراً.